من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
"... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران: 75)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في بدايات الثلث الثاني من سورة آل عمران، وهي سورة مدنية، ومن طوال سور القرآن الكريم، إذ يبلغ عدد آياتها المائتين بعد البسملة، وبذلك تكون ثالثة سور القرآن الكريم طولًا بعد كلٍّ من البقرة والأعراف.
وقد سُميت بهذا الاسم -آل عمران- لورود الإشارة فيها إلى أسرة السيدة مريم ابنة عمران، أم نبي الله وعبده عيسى -على نبينا وعليه من الله السلام- وفي ذلك تقول الآيات:
"إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" ( آل عمران:33، 34).
وتروي هذه السورة الكريمة قصة امرأة عمران وابنتها مريم أم نبي الله عيسى -عليه السلام- الذي خلقه الله -تعالى- بمعجزة من أم بغير أب، كما تروي عددًا من المعجزات الحسية التي أجراها الله -تعالى- على يديه، كذلك جاءت الإشارة في هذه السورة المباركة إلى كلٍّ من نبي الله زكريا وولده النبي يحيى الذي وهبه الله -تعالى- له على الكبر وقد بلغ من العمر عِتِيًّا، وجاء بالسورة كذلك وصف لما جاء في معركة أحد.
ويدور المحور الرئيس لسورة آل عمران حول حوار أهل الكتاب الذي يتحدد من خلاله عدد من ركائز العقيدة الإسلامية السامية وتشريعاتها العادلة.
وتستفتح سورة آل عمران بالحروف المقطعة الثلاثة (الم) التي تكررت في مطلع ست من سور القرآن الكريم، وقد سبق لنا مناقشة هذه المقطعات، ثم تنتقل السورة الكريمة إلى حوار أهل الكتاب ممثلين في وفد نصارى نجران الذي قدم المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة، ويشغل هذا الحوار قرابة نصف مجموع آيات السورة الكريمة، ويتضمن إشارات إلى اليهود بصفة خاصة، وإلى خبث نياتهم وأمراض نفوسهم ومكرهم ودهائهم، واستعلائهم الكاذب وإفسادهم في الأرض، وإلى محاربتهم أنبياء الله ورسله، وقتلهم نفرا منهم ومن الصالحين من عباد الله، وتؤكد كراهية اليهود للحق وأهله، كما تتضمن تحذيرات لعباد الله الصالحين من دسائسهم ودسائس غيرهم من الكفار والمشركين والمنافقين.
ثم تنتقل السورة الكريمة إلى تأكيد ضرورة الإيمان بجميع الرسالات السماوية، وبجميع أنبياء الله ورسله دون أدنى تفريق كما جاء ذلك في خواتيم السورة السابقة عليها وهي سورة البقرة، وفي ذلك تأكيد على وحدة رسالة السماء، وعلى الأخوة بين الأنبياء الذين كانت رسالتهم جميعًا هي الإسلام.
وتحدثت الآيات في سورة آل عمران عن عقاب المرتدين، وعن حكم الله فيهم، ودعت إلى الإنفاق في سبيل الله، وحذرت من تحريف اليهود للتوراة، وأمرت باتباع ملة إبراهيم "حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ" (آل عمران:67).
وأشارت سورة آل عمران إلى الكعبة المشرفة بصفتها "... أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ" (آل عمران:96)، وأكدت فريضة الحج على المستطيع من المسلمين، وعاتبت أهل الكفر والشرك والضلال، وأوصت بتقوى الله، وأكدت ضرورة الاعتصام بحبله، وذكَّرت بنعمه على عباده، ودعت إلى نفرة أمة من المسلمين للدعوة إلى الخير، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووصفت هؤلاء بأنهم هم المفلحون.
ونهت سورة آل عمران عن فرقة الكلمة، وبينت مصائر وجزاء كلٍّ من المؤمنين والكافرين في يوم الدين، وأكدت أن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، المنزل بالحق على خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- وأنه هدى وموعظة للمتقين، وخاطبت أمة الإسلام بقول ربنا -تبارك وتعالى-:"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ" (آل عمران:110).
ثم تُطمئن الآيات أمة الإسلام من هوان أخطار اليهود فتقول:"لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ* ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"( آل عمران:111، 112).
وتثني الآيات على الذين يؤمنون من أهل الكتاب فتقول:"لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ"(آل عمران:113- 115).
وتحذر الآيات من خبث الكفار والمشركين ولؤمهم ومن أخطار اتخاذهم أولياء، وبعد ذلك تنتقل سورة آل عمران إلى الحديث عن غزوة أحد، وما أصاب المسلمين فيها من انكسار بسبب مخالفتهم أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ساحة المعركة، وذكرت بانتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى، وبمبررات ذلك الانتصار، وصاغت الحديث عن المعركتين صياغة معجزة لا تتوقف عند حدود وصف المعركتين وصفًا مجردًا، ولكن تتجاوز ذلك لتصبح توجيهات ربانية دائمة للمسلمين توضح سنن الله في النصر والهزيمة إلى يوم الدين.
وتؤكد السورة الكريمة في أكثر من آية أن لله ملك السماوات والأرض وما فيهن، وتنهى عن أكل الربا، وتحذر من عذاب النار، وتأمر بطاعة الله ورسوله، وبالمسارعة إلى التوبة وطلب المغفرة، ورجاء الجنة التي أعدت للمتقين وأوردت شيئا من صفاتهم، كما تأمر بالسير في الأرض من أجل الاعتبار بعواقب المكذبين.
ثم عاودت السورة الكريمة إلى التذكير بمعركة أحد في مواساة رقيقة للمسلمين، مؤكدة لهم أنهم هم دائمًا الأعْلَوْن ماداموا ثابتين على إيمانهم بالله، وإن تعرضوا أحيانًا لبعض النكسات والهزائم بسبب خروجهم على منهج الله؛ وذلك لأن النصر والهزيمة من سنن الله في الحياة، ولأن لكل منهما قوانينه، ولأن الأيام دول يداولها ربنا -تبارك وتعالى- بين الناس لحكمة يعلمها -سبحانه- لعل منها أن يتخذ من المؤمنين شهداء يكرمهم بالشهادة، وأن يميز المؤمنين من المنافقين -وهو تعالى أعلم بهم- وأن يطهر المؤمنين من ذنوبهم بشيء من الابتلاء والتمحيص، وأن يهلك الكفار والمشركين والمنافقين بذنوبهم، والله -تعالى- لا يحب أيًّا من الظالمين المعتدين كما لا يحب الضعفاء المتخاذلين عن الدفاع عن دمائهم وأعراضهم ومقدساتهم وممتلكاتهم وعن الحق وأهله.
وهذا الخطاب كما كان لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأهل زمانه هو خطاب لنا اليوم في تقاعسنا عن مقاتلة الظالمين الجائرين على إخواننا في كلٍّ من فلسطين ولبنان، والذين فجروا في إجرامهم وتجاوزوا كل الحدود.
وفي إشارة إلى ما أشاعه الكافرون كذبًا عن مقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء معركة أحد تخذيلًا للمجاهدين، أكدت سورة آل عمران أنه رسول قد خلت من قبله الرسل، لا يجوز لأيٍّ من الذين آمنوا به واتبعوه أن يرتد عن دينه إن مات هذا الرسول الكريم أو قتل.
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلى قضية الأجل مؤكدة أن الله -تعالى- قد جعل لكل نفس أجلًا محددًا لا تموت إلا عنده، وهذا الأجل قد جعله ربنا -تبارك وتعالى- غيبًا حتى لا تتوقف عجلة الحياة إذا علم الإنسان أجله، وقد أكدت الآيات ذلك تشجيعًا للمؤمنين على تجاوز حاجز الخوف من الموت، وعلى الانخراط في صفوف المجاهدين في سبيل الله.
ولذلك تؤكد الآيات أن من قصد بعمله أجر الدنيا أعطاه الله إياه، وليس له في الآخرة من نصيب، ومن قصد به أجر الآخرة أعطاه الله -تعالى- أجْرَي الدنيا والآخرة، والله -سبحانه وتعالى- يجزي عباده على شكرهم له، واعترافهم بعظيم فضله ونعمه عليهم.
وإن كانت هذه أحكامًا عامة إلا أن فيها تعريضًا واضحًا بمن رغبوا في غنائم الحرب أثناءَ معركة أحد فتسببوا في هزيمة جيش المسلمين.
ثم تنتقل الآيات في سورة آل عمران إلى الحديث عن كلٍّ من العلماء الربانيين، والمجاهدين الصادقين الذين قاتلوا مع أنبياء الله ورسله جهادًا في سبيله ومن أجل إعلاء دينه، فقتل منهم من قتل، وأصيب من أصيب، ولكنهم لم يذلوا لعدوهم أبدًا، واحتسبوا وصبروا في الشدائد والمحن، وفي ذلك تقول الآيات عنهم:"وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ" (آل عمران:146- 148).
وتعاود الآيات إلى تحذير المؤمنين من موالاة كلٍّ من الكفار والمشركين، مؤكدة أن الله -تعالى- هو مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، وأنه -تعالى- يعدهم النصر بقوله الحق:"سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ" (آل عمران:151).
ومرة أخرى تستعرض السورة الكريمة أحداث معركة أحد (الآيات152- 175) بهدف تربية المسلمين على السمع والطاعة لقياداتهم -في غير معصية لله- وتحذيرهم من مزالق الطريق، وتنبيههم إلى ما يحيط بهم من كيد في القديم والحديث من شياطين الإنس والجن من أجل إرهاب المؤمنين، والمؤمن لا يخاف إلا من رب العالمين.
وتطلب الآيات من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا يحزن على الذين يسارعون في الكفر؛ لأنهم لن يضروا الله شيئًا، ولكن يضروا أنفسهم، ويريد الله ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة ولهم عذاب عظيم، وإمهالهم في الدنيا بتمديد آجالهم وبشيء من التمكين لهم ليس في مصلحتهم لازديادهم بذلك في معاصيهم وآثامهم، فيتضاعف عذابهم في الآخرة أضعافًا كثيرة، وعلى النقيض من ذلك فإن ما يتعرض له المؤمنون في الدنيا من ابتلاءات هو من قبيل صقل معادنهم، وليميز الله الخبيث من الطيب -وهو تعالى أعلم بهم- ويظهر ذلك لمن يشاء من عباده كما فعل في معركة أحد.
وتنهى الآيات في سورة آل عمران عن البخل، وتنصح ببذل المال في سبيل الله وبتقواه وبحسن الإيمان به والتوكل عليه.
وتعاود السورة الكريمة التذكير بشيء من جرائم اليهود المروعة، ودسائسهم الخبيثة، وأساليبهم الملتوية في تطاول على الله -تعالى- وعلى خلقه، وفي محاربة دينه وأنبيائه ورسله، وفي نقض العهود والمواثيق، ونشر الأكاذيب والأباطيل، والشائعات والادعاءات المغرضة؛ وذلك تحذيرًا من شرورهم، ولأخذ الحيطة من مؤامراتهم.
ومرة أخرى تؤيد السورة المباركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجه المكذبين لبعثته الشريفة وذلك بقول ربنا -تبارك وتعالى- له: "فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ المُنِيرِ"(آل عمران:184).
وتؤكد الآيات حتمية الفناء لكل شيء، وحتمية الموت على كل حي، وحتمية البعث والحساب والجزاء، كما تؤكد أن الابتلاء من سنن الحياة، وتوصي في مواجهته بالصبر والاحتساب، وبتقوى الله في كل حال، وتعتبر ذلك من عزم الأمور.
وتعاود سورة آل عمران استعراض عدد من مخازي بني إسرائيل، ومنها أن الله -تعالى- أخذ عليهم كل العهود والمواثيق كي يظهروا للناس حقيقة ما أنزل إليهم من أحكام فكتموها ولم يبينوها، ونبذوها وراء ظهورهم، واشتروا بها الحقير من حطام الدنيا الفانية.
وتختتم هذه السورة الكريمة بتوجيه الناس إلى التأمل في خلق السماوات والأرض، واستخلاص شيء من صفات الخالق العظيم بالتعرف على بديع صنعه في خلقه، وتوصيهم بتكثيف الدعاء والرجاء بالفوز بالجنة والنجاة من النار ومن خزي يوم القيامة، وبرفع الدرجات وتكفير السيئات، وطلب المغفرة من الله للذنوب وهو رب ذلك والقادر عليه.
ثم يأتي الخطاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى جميع المسلمين ألا يغرَّهم تقلب الذين كفروا في شيء من النعم المادية، فمتاع الدنيا قليل، ثم ينتهي بهم الأجل إلى جهنم وبئس المصير، وعلى النقيض من ذلك فإن الصالحين المتقين من عباد الله المسلمين قد يعيشون في الدنيا عيشة الفقراء، ويخلدون في الآخرة في جنات النعيم.
وتعاود سورة آل عمران قبل ختامها ذكر أهل الكتاب، مقررة أن منهم من سلك طريق الهداية، فآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله -بمن فيهم خاتمهم أجمعين- وبالقرآن الكريم، دون أدنى تفريق أو تمييز فمنَّ الله -تعالى- عليهم بالخشوع والخضوع لله، وأكرمهم بأن لهم أجرهم عند ربهم.
وتختتم السورة الكريمة بوصية من الله -تعالى- للمؤمنين من عباده هي عدتهم في مواجهة أهل الباطل في هذه الحياة، يقول لهم فيها : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (آل عمران:200).
وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة، ونركز هنا على ما جاء بها من ركائز العقيدة، والتشريع، والإشارات الكونية والإنبائية، وأقوال عدد من المفسرين في النص الكريم الذي اخترناه عنوانًا لهذا المقال وما به من إعجاز إنبائي.
أولًا: من ركائز العقيدة في سورة آل عمران:
(1) الإيمان بالله -تعالى- ربًّا واحدًا أحدًا، فردًا صمدًا، بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد، وتنزيهه -سبحانه وتعالى- عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، والتسليم بكل ما أورد من صفاته العليا، ومنها أنه -تعالى- هو الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه هو الذي يسوي الخلق في الأرحام كيف يشاء، وأنه هو العزيز الحكيم، البصير بعباده، مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
(2) التصديق بالوحي الذي أوحاه الله -تعالى- إلى أبينا آدم -عليه السلام- ثم أنزله على سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين، وأكمله وأتمه وحفظه في رسالته الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- ليبقى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حجة على جميع الخلق إلى قيام الساعة؛ لأن هذه الرسالة الخاتمة مصدقة لما أنزل قبلها من صور الوحي ومهيمنة عليها، والتسليم بأن القرآن الكريم يحوي آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات لا يعلم تأويلهن إلا الله تعالى.
(3) اليقين بأن كل نفس ذائقة الموت، وبأن الله -سبحانه وتعالى- سوف يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، وبالبعث، والحساب، والجزاء بالخلود في الجنة أو في النار، وأن الجنة مثوى المؤمنين المتقين، الذين تبيض وجوههم يوم القيامة، وأن النار مثوى الكفار والمشركين والمفسدين في الأرض المتجبرين على الخلق، الذين تسود وجوههم لأنهم كفروا بعد إيمانهم الفطري.
(4) الإيمان بقضاء الله وقدره، وبأن البلاء من سنن الحياة، ولابد من مقابلته بالصبر والتسليم والرضا.
(5) التسليم بضرورة طاعة الله، وطاعة خاتم أنبيائه ورسله، واتباع سنته، والعمل على جمع كلمة المسلمين.
(6) التصديق بأن أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، فإذا لم تقم بذلك فقدت الخيرية التي أكرمها بها الله.
ثانيًا: من ركائز التشريع في سورة آل عمران:
(1) تحريم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
(2) النهي القاطع عن افتراء الكذب على الله.
(3) تحريم الردة في الإسلام، وعلى المرتد أن يستتاب، فإن تاب بصدق قبلت توبته إن شاء الله، وإن لم يتب ومات فإنه يموت على الكفر، ويخلد في النار أبدًا.
(4) الحض على الإنفاق في سبيل الله.
(5) إن لله حج البيت على من استطاع إليه سبيلًا.
(6) تحريم الربا تحريمًا قاطعًا.
(7) تحريم التولِّي يوم الزحف بكل أشكاله وصوره.
(8) تحريم الأخذ من الغنيمة خفية (الغلول).
(9) تحريم النفاق وتأكيد كراهية الله -تعالى- للمنافقين.
(10) الحث على الجهاد، والترغيب في الاستشهاد في سبيل الله.
(11) فرض الشورى كقاعدة إسلامية للحكم بما أنزل الله.
ثالثًا: من الإشارات الكونية في سورة آل عمران:
(1) تأكيد أن الله -تعالى- هو الذي يصور خلق الأجنة في الأرحام كيف يشاء.
(2) الإشارة إلى دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بذكر ولوج الليل في النهار، وولوج النهار في الليل.
(3) وصف دورة الحياة والممات والبعث بإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، وتأكيد أن كل نفس ذائقة الموت، وأنه ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا.
(4) تأكيد خلق أبينا آدم -عليه السلام- من تراب.
(5)الإشارة إلى أن اليهود يقسمون البشرية إلى طبقتين: طبقة اليهود الذين يظنون في أنفسهم -كذبًا وافتراءً على الله- أنهم شعب الله المختار وأبناؤه وأحباؤه، وطبقة الأميين أو الأمميين أو الأغيار الذين يعتبرونهم عبيدًا لهم يملكونهم، كما يملك السيد عبيده.
(6) تأكيد أن جميع أنبياء الله كانوا على الإسلام الخالص.
(7) الإشارة إلى أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس في الأرض.
(8) وصف علاج الغم بغم جديد، وهي قضية نفسية لم يعرفها الإنسان إلا أخيرًا.
(9) الأمر بالتدبر في قضايا كونية، مثل خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وهي من الوسائل العملية للتعرف على شيء من قدرة الخالق -سبحانه وتعالى- وعلى إحكامه وإبداعه لكل شيء خلقه.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، ولذلك فسوف أقصر حديثي على النقطة الخامسة من القائمة السابقة التي جاءت في الآية الخامسة والسبعين من سورة آل عمران، وإلى ما فيها من إعجاز إنبائي، ولكن قبل ذلك أرى ضرورة استعراض ما جاء في شرح هذه الآية الكريمة من أقوال المفسرين.
من أقوال المفسرين في تفسير قوله -تعالى-: "وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران:75) :
* جاء في الظلال -رحم الله كاتبها برحمته الواسعة- ما مختصره:... ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين، كل ذلك لا يجعل القرآن الكريم يبخس المحسنين منهم حقهم، حتى في معرض الجدل والمواجهة، فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناسًا أمناء، لا يأكلون الحقوق مهما تكن ضخمة مغرية: "وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ"، ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين، الذين لا يردون حقًا-وإن صغر- إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة، ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم بالكذب على الله عن علم وقصد: "... وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" وهذه بالذات صفة يهود، فهم الذين يقولون هذا القول، ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة، فالأمانة بين اليهودي واليهودي، أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب -وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود- فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم، وغشهم وخداعهم، والتدليس عليهم، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم.
ومن عجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا وهم يعلمون أن هذا كذب، وأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتًا وبهتانًا، وألا يرعوا معهم عهدًا ولا ذمة، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم، ولكنها يهود، يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدنًا ودينًا: "وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"... (انتهى قول المفسر).
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن -رحم الله كاتبه- ما مختصره:... ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب إثم ولا حرج؛ مبالغة منهم في التعصب لدينهم، حتى استحلوا ظلم من خالفهم فيه وأخذ ماله بأي طريق، أو لأنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، والخلق لنا عبيد، فلا سبيل علينا إذا أكلنا أموالهم، فأكذبهم الله في ذلك بقوله: "وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" إنهم كاذبون جرأة منهم على الله، ويعلمون أن الخيانة محرمة في كل شريعة. (انتهى قول المفسر).
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم -جزاهم الله خيرًا- ما نصه: هذا سلوك أهل الكتاب في الاعتقاد، أما سلوكهم في المال، فمنهم من إن استأمنته على قنطار من الذهب أو الفضة أداه إليك لا ينقص منه شيئًا، ومنهم من إن استأمنته على دينار واحد لا يؤديه إليك إلا إذا لازمته وأحرجته؛ وذلك لأن هذا الفريق يزعم بأن غيرهم أميون، وأنهم لا تُرعَى لهم حقوق، ويدعون أن ذلك حكم الله، وهم يعلمون أن ذلك كذب عليه سبحانه وتعالى. (انتهى قول المفسر).
وجاء في صفوة التفاسير -جزى الله كاتبها خيرًا- ما مختصره:... أي من اليهود من إذا ائتمنته على المال الكثير أداه إليك لأمانته، كعبد الله بن سلام أودعه قرشي ألف أوقية ذهبًا فأداها إليه، ومنهم من لا يُؤتَمَن على دينار واحد لخيانته، كفنحاص بن عازوراء ائتمنه قرشي على دينار فجحده، إلا إذا كنت ملازمًا له ومشهدًا عليه، إنما حملهم على الخيانة زعمهم أن الله أباح لهم أموال الأميين -يعني العرب- روي أن اليهود قالوا "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا، وقيل إنهم قالوا: إن الله أباح لنا مال من خالف ديننا، وهم يكذبون على الله بادعائهم ذلك وهم يعلمون أنهم كاذبون مفترون. (انتهى قول المفسر).
من الإعجاز الإنبائي في النص القرآني الكريم:
في هذا النص القرآني الكريم يخبرنا ربنا -تبارك وتعالى- من قبل ألف وأربعمائة سنة بجرائم الصهاينة على الشعبين الفلسطيني واللبناني وعلى بقية شعوب المنطقة العربية طوال القرن الماضي -بصفة عامة- وخلال الشهر الأخير من القرن الحالي (من12 يوليو إلى منتصف أغسطس2006) -بصفة خاصة- بل منذ بدء تنزل القرآن الكريم إلى اليوم وحتى قيام الساعة.
ففي الشهر الماضي أغارت الطائرات الإسرائيلية القيادة، والأمريكية الصنع في أسراب متلاحقة على مدى الساعة، ولمدة تجاوزت ثلاثين يومًا لتضرب كل شيء في كلٍّ من قطاع غزة، والضفة الغربية، وأرض لبنان بالصواريخ والقنابل الثقيلة، المنضبة منها وغير المنضبة، والعنقودية والضوئية، الذكية منها والغبية، وغيرها من الأسلحة المحرمة دوليًّا التي زودتها بها الإدارة الأمريكية، فلم تدع شبرًا من تلك الأرض دون تدمير وحرائق ومذابح بشرية بين المدنيين العزل من الأطفال والنساء، والشباب والشيوخ، والأصِحَّاء والمرضى، والعجزة والأطباء والممرضين، ورجال ونساء الإعلام، وحتى جنود وضباط هيئة الأمم المتحدة، وكان هذا التدمير يندفع من ارتفاع عدة كيلومترات، ثم تنسحب الطائرات كاللص المتسلل بليل، أما على الأرض فكان الجنود الصهاينة ينسحبون من أي مواجهة مع المقاومة كالجرذان المذعورة؛ لأنهم كما يصفهم رب العالمين: "أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ" (البقرة:96).
وقد نتج عن هذا القصف الوحشي الهمجي غير الإنساني من الطائرات والبوارج البحرية، والمدفعية الثقيلة قتل أكثر من ألف من المدنيين، وجرح أضعاف هذا العدد، وتهجير أكثر من مليون نفس، وتدمير البنية الأساسية في كلٍّ من فلسطين ولبنان تدميرًا كاملًا: الطرق والجسور، والمطارات والموانئ البحرية، محطات المياه والكهرباء، مخازن كلٍّ من الغذاء والدواء والنفط، ومساكن المدنيين، والمستشفيات والمستوصفات، ورياض الأطفال والمدارس، والمعاهد والكليات، والمساجد والكنائس، والملاجئ والمصانع والمزارع، وحتى منشآت الأمم المتحدة وقواعدها وقواتها لم تسلم من هذا العدوان الغاشم الحاقد المتآمر على كل ما هو غير يهودي.
وكان هذا هو دأب اليهود الصهاينة في المنطقة منذ أن ابتليت بهم انطلاقًا من ادعائهم الباطل بانقسام البشرية إلى يهود وأميين -أو أمميين أو أغيار وهم جميع من هم غير اليهود- واليهود -في نظرتهم العنصرية الضيقة- يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، وأبناءه وأحباءه، وصفوة الخلق المميزين فوق جميع البشر؛ لأنهم شعب مقدس، والأميين حيوانات خلقت في هيأة الآدميين حتى يكونوا في خدمة اليهود، ومادامت العلاقة كذلك فلليهود الحق في إبادة الأميين، والاعتداء عليهم، وعلى دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، ومقدساتهم، وأراضيهم، وهذا الذي ظلوا يمارسونه منذ أن ابتلينا بهم إلى اليوم، واقرأوا إذا شئتم ما زوَّروه على الله في أسفارهم حتى يبرروا جرائمهم ضد الإنسانية (من أمثال: سفر التثنية1/20 -19، سفر صاموئيل الأول10،9/27،3/15، وسفر صاموئيل الثاني1/11 -27، سفر الأعداد7/31 -11، سفر يوشع 8/6 -24/24،16/13،28، سفر أخبار الأمم الأول 8/22، سفر اللاويين 44/25 -46) حتى تروا العجب العجاب، وتروا صدق قول ربنا تبارك وتعالى -وقوله الحق-: "... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران:75).
والإخبار الإنبائي في هذا النص القرآني مما يثبت لكل ذي بصيرة أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه -اللغة العربية- وحفظه حفظًا كاملًا على مدى الأربعة عشر قرنًا الماضية، وتعهد بهذا الحفظ الرباني تعهدًا مطلقًا حتى يبقى القرآن الكريم حجة على الخلق أجمعين إلى قيام الساعة.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثه خير الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.