من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
"... وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ ..." (المائدة: 3).
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع سورة المائدة، وهي سورة مدنية، وعدد آياتها(120) بعد البسملة، وهي من طوال سور القرآن الكريم، ومن أواخرها نزولًا، وسميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى المائدة التي أنزلها الله -تعالى- من السماء كرامة لعبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام-، ويدور المحور الرئيس للسورة حول التشريع الإسلامي بعدد من الأحكام اللازمة لإقامة دولة الإسلام، ولتنظيم المجتمع فيها على مختلف المستويات تنظيمًا ينطلق من ركائز العقيدة الإسلامية القائمة على توحيد الخالق -سبحانه وتعالى- ومراقبته في السر والعلن، والاستعداد لملاقاته بعد هذه الحياة الدنيا بصفحة مليئة بصالح الأعمال علها تكسب مرضاة الله، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، وكذلك كان أول بنود هذا التشريع الإسلامي هو عقد الإيمان بالله ربًّا واحدًا أحدا، وبالإسلام دينًا خالصا، وبسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، وكان هذا العقد هو القاعدة التي تقوم عليها سائر العقود في حياة المسلمين أفرادًا وجماعات، ومن هنا نصت سورة المائدة على الوفاء بالعقود.
ويتخلل آيات التشريع في هذه السورة المباركة التأكيد على توحيد الله توحيدًا كاملًا خالصًا مطلقًا لذاته العلية، بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد، واستعراض بعض قصص الأولين، وتفنيد عقائد الكفار والمشركين، وتدعو سورة المائدة إلى الإيمان ببعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- وذلك يتكرر عدة مرات لعله أن يستجشن ضمائرهم، مثل قول الحق -تبارك وتعالى-:"يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة:19).
وتعرج سورة المائدة إلى التذكير بيوم القيامة الذي سوف تُبعَث فيه الخلائق للحساب والجزاء، ومن بعده تساق إلى الخلود إما في الجنة أبدًا، أو النار أبدًا، كما تعرج إلى ذكر عدد من المعجزات التي أيَّد الله -سبحانه وتعالى- بها عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم، ومنها إنزال المائدة التي طلبها عدد من أتباعه من السماء، والتي سميت باسمها هذه السورة المباركة التي ختمت بتبرئته وأمه -عليهما السلام- من دعاوى الألوهية التي افْتُرِيَ عليهما بها، وما كان لأيٍّ منهما أن يدعيها مع اعترافهما بالعبودية الكاملة لله وحده.
من التشريعات الإسلامية في سورة المائدة:
(1) الأمر بالوفاء بالعقود: أي العهود المؤكدة بين العباد وخالقهم، وبينهم وبعضهم البعض، ومن العقود المبرمة بين العباد وخالقهم -والعباد بعد في عالم الذر- الإيمان بربوبيته، وألوهيته، ووحدانيته، وتنزيهه عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، وعبادته -تعالى- بما أمر، وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض.
(2) تأكيد ضرورة الحكم بما أنزل الله -تعالى-: ومن ذلك أحكام القصاص، والردة، والحنث في اليمين، وتأكيد قضية الولاء والبراء، والأمر بالعدل في القضاء، وبتقوى الله -سبحانه وتعالى- في السر والعلن، وبالتوكل عليه حق التوكل، وبعدم خشية غيره، وبطاعة الله ورسوله، وبالحرص على عمل الصالحات، ومن ذلك الإحسان إلى الخلق.
(3) الأمر بالمحافظة على حرمات الدين وشعائره: مثل حرمة الكعبة المشرفة، وحرمة كلٍّ من الحج ومناسكه، والأشهر الحرم، وما يُهدَى إلى البيت الحرام، وما يقلد به الهَدْيُ، وحرمة قاصدي البيت الحرام من الحجاج والمُعتَمِرِين، وحرمة أمنهم وسلامتهم.
(4) الأمر بالتعاون على البر والتقوى،أي على حسن الخلق وفعل الطاعات، والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان ، أي عن فعل المنكرات والمنهيات، وعن مجاوزة حدود الله.
(5) الأمر بالجهاد في سبيل الله؛ طلبًا لمرضاته، وابتغاء للوسيلة إليه.
(6) تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وتحديد عقوبة القتل.
(7) تحريم قطع الطريق والاعتداء على الخلق، وتحديد عقوبة ذلك.
(8) تحريم السرقة، وأكل السحت بمختلف أشكاله وألوانه -ومنه الرشوة- والربا، والغش في التجارة، وتطفيف الموازين والمكاييل، وعدم الأمانة في الصنعة والعمل، وتحديد عقوبة كل واحدة من تلك الأعمال السيئة والخاطئة.
(9) تحليل أكل لحوم الأنعام وشرب ألبانها، (مثل كلٍّ من الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، وما يمثلها من الثدييات اللبونة المجترة والمقتصرة على أكل الأعشاب، كالظباء، والغزلان، والزراف، وبقر الوحش، وأشباهها).
(10) تحريم أكل كلٍّ من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع -إلا ما أدرك ذكاؤه من الأصناف الخمسة الأخيرة، أي إتمام ذبحه قبل أن يموت- وما ذُبِحَ على النصب، إلا من اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم.
(11) تحريم الصيد على المُحْرِم، وكفارة ذلك، وهذا التحريم يشمل مجرد الانتفاع بالصيد سواء كان المُحْرِم في الحِلَّ أو في الحرم، ويقع في حكم المُحْرِم من كان مقيمًا في الحَرَم وليس مُحْرِمًا.
(12) تحريم كلٍّ من الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، والاستقسام بالأزلام يشمل كل محاولة لاستشراف الغيب بواسطة القداح، وهي سهام كانت لدى أهل الجاهلية، وذلك مثل قراءة الطالع، أو الكف، أو الفنجان، أو فتح أوراق اللعب، وغيرها من وسائل الدجل والنصب المتعددة.
(13) تحليل صيد البحر وطعامه، وصيد البر المباح بعد ذكر اسم الله على وسيلة الصيد من الجوارح قبل إطلاقها.
(14) تحليل طعام أهل الكتاب، وتحليل ذبائحهم إذا ذكروا اسم الله -تعالى- عليها أثناء الذبح.
(15) تحليل زواج المحصنات من المؤمنات -أي العفيفات المترفعات عن الرذائل- وزواج المحصنات من الذين أوتوا الكتاب بعد دفع مهورهن، ومع عدم الاختلاء بهن قبل الزواج.
(16) تفصيل أحكام الطهارة في جميع الحالات.
(17) تفصيل أحكام الوصية.
(18) الحكم بـ"... أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..." (المائدة:32).
(19) الحكم بأن حزب الله هم الغالبون، وأن "... الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (المائدة:36).
من ركائز العقيدة في سورة المائدة:
(1) الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبأن لله المصير، وتحريم الشرك بالله تحريمًا قاطعًا لقوله -عز من قائل-: "إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ" (المائدة:72).
(2) الإيمان ببعثة الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- الذي أكمل الله -سبحانه وتعالى- ببعثه الدين، وأتم النعمة بتعهده -جل شأنه- بحفظ القرآن الكريم، وبرضاه لعباده الإسلام دينًا.
(3) الإيمان بوحدة رسالة السماء، وبالأخوة بين الأنبياء الذين بعثهم الله -سبحانه وتعالى- جميعًا برسالة واحدة هي الإسلام الذي دعا إلى عبادة الله -تعالى- وحده بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد، وإلى الالتزام بمكارم الأخلاق، وإلى حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض، وإلى الاتباع في الدين، وإلى عدم الابتداع فيه.
(4) اليقين الجازم بأن المسيح عيسى ابن مريم هو عبد الله ورسوله، وأنه قد خلت من قبله الرسل، وأن أمه صديقة، وأنهما كانا يأكلان الطعام، وأنه بُشِّر بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- وأن الإيمان بالمعجزات التي أجراها الله -تعالى- له وعلى يديه كما رواها القرآن الكريم هو جزء لا يتجزأ من إيمان المسلمين، وأن الفضل فيها يعود لله وحده.
(5) التسليم بالحقيقة القرآنية التي مؤداها أن اليهود قد زيفوا رسالة الله إليهم، وأنهم سماعون للكذب، أكالون للسحت، مسارعون في الإثم والعدوان، ولذلك وصفهم الحق -تبارك وتعالى- بقوله -عز من قائل-:"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (المائدة:82).
من الإشارات العلمية في سورة المائدة:
(1) تحريم أكل كلٍّ من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما تمت تذكيته من الأنواع الأربعة الأخيرة قبل وفاته، وما ذبح على النصب. والتجارب المختبرية والسريرية تؤكد أخطار تناول كل هذه الأطعمة المحرمة.
(2) التأكيد على البينية الفاصلة بين الأرض والسماوات، والعلوم المكتسبة قد بدأت في إدراك تلك الحقيقة مع تبين أن الغلاف الغازي للأرض هو خليط بين مادتي الأرض والسماء، وليس خالصًا لأيٍّ منهما.
(3) تحريم كلٍّ من الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، والدراسات العلمية والإنسانية تؤكد حتمية ذلك التحريم من أجل سلامة وأمن كلٍّ من الإنسان ومجتمعه.
(4) تأكيد كرامة الكعبة المشرفة، والبحوث العلمية تؤكد تميز موقعها، وتفرده بالعديد من الشواهد الحسية والروحية التي تشهد بتلك الكرامة.
(5) اختيار الغراب دون غيره من الطيور لتعليم قابيل بن آدم كيف يواري سوءة أخيه بعد أن قتله، والدراسات في علم سلوك الحيوان تثبت أن الغراب هو أدنى الطيور على الإطلاق.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، ولذلك فسوف أقصر حديثي على الجزء الأخير من النقطة الأولى في القائمة السابقة، وهو ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة، وقد سبق أن تناولنا الجزء الأول من هذه الآية الكريمة في مقال سابق، ولكن قبل الوصول إلى ذلك لابد من استعراض سريع لما قاله عدد من المفسرين في شرح هذا النص القرآني الكريم.
من أقوال المفسرينفي تفسير قوله -تعالى-:"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ..." (المائدة:3):
ذكر صاحب الظلال-رحمه الله رحمة واسعة- ما مختصره:... وأما المنخنقة -وهي التي تموت خنقًا-، والموقوذة -وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت-، والمتردية -وهي التي تتردى من سطح أو جبل، أو تتردى في بئر فتموت-، والنطيحة -وهي التي تنطحها بهيمة فتموت-، وما أكل السبع -وهي الفريسة لأيٍّ من الوحوش-، فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" فحكمها هو حكم الميتة، وأما ما ذبح على النصب -وهي أصنام كانت في الكعبة، وكان المشركون يذبحون عندها، وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية، ومثلها غيرها في أي مكان، فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام حتى لو ذكر اسم الله عليه، لما فيه من معنى الشرك بالله. (انتهى قول المفسر)
وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه مع اختلاف في تعريف "النُّصُبِ" بأنها كانت أحجارًا منصوبة حول الكعبة، وكان الجاهليون يذبحون عليها، ويعظمونها، ويلطخونها بالدماء، وهي غير الأصنام، إنما الأصنام هي الأحجار المصورة المنقوشة.
من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم:
أولًا: في حكمة التحريم:
سبق لنا أن ناقشنا حكمة تحريم كلٍّ من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، ونناقش هنا الحكمة من تحريم بقية المحرمات العشر المذكورة في الآية الثالثة من سورة المائدة، وهي المنخنقة -أي البهيمة التي ماتت خنقًا-، والموقوذة -أي البهيمة التي ضربت بمثقل غير محدد حتى تموت-، والمتردية -أي البهيمة التي تسقط من علو فتموت من التردي أي الهلاك-، والنطيحة -أي البهيمة التي تنطحها أخرى فتموت-، وما أكل السبع -أي ما بقي من البهيمة بعد أكل أحد الوحوش المفترسة منها-، وقول الله -تعالى-: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ"، وهو استثناء من التحريم، أي إلا ما أدركتم ذكاته من الأنواع الأربعة السابقة وفيه بقية حياة، وأضافت الآية الكريمة إلى قائمة المحرمات: "مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" أي ما ذبح لغير الله، وهذه كلها حكمها حكم الميتة، ولذلك يضيف الفقهاء إليها ما قطع من البهيمة وهي حية فحكمه حكم الميتة كذلك، وذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" (رواه كل من أبي داود والترمذي).
وأما ما ذبح على النصب فحكمه هو حكم ما أُهِلَّ لغير الله به سواء بسواء، فكلاهما ذبح لغير الله -تعالى- أو أشرك مع الله -سبحانه وتعالى- غيره في الإهلال بالذبح، فأصبح شركًا صُرَاحًا، والشرك بالله -تعالى- من أكبر الكبائر، ومن السبع الموبقات المهلكات.
وهذه الآية الكريمة كغيرها من آيات التحريم لا تفيد الحصر، فقد حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكل كل ذي مخلب -ظفر- من الطير، وهو ما يعرف باسم الجوارح، وكل ذي ناب من البهائم يسطو به على غيره، وهو ما يعرف باسم اللواحم، أو الحيوانات آكلة اللحوم فقط (Carnivorous Animals) من الوحوش المفترسة -السباع- ومنها أيضا آكلات اللحوم والأعشاب معًا (Omnivorous Animals)،وذلك لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" ( مسلم).
وحرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضا أكل (الجَلَّالَة) من الطيور والبهائم المباحة، و(الجَلَّالَة) هي الحيوانات التي دأبت على أكل النجاسات والمستقذرات من الأمور، أو التي يفرض عليها من أنواع الطعام غير الذي فطرها الله -تعالى- عليه، مثل طعام أكلات الأعشاب أو بروتينات حيوانية هي غير مهيأة لأكلها، وأوصى -صلى الله عليه وسلم- بحبس الحيوان الجَلَّال، وعلفه بالغذاء الطاهر لفترات تتناسب مع حجمه حتى يزول ما ببدنه من النجاسات، ويعود إلى طهره، وحينئذ يحل أكل لحمه، وشرب لبنه إن كان من الحيوانات اللبونة، ويسن في ذلك حبس الإبل أربعين يومًا مع علفها علفًا طاهرا، وحبس البقر ثلاثين يوما، وكلٍّ من الضأن والماعز سبعة أيام، والطيور الصغيرة -مثل البط والإوز والدجاج- ثلاثة أيام كما جاء في الحديث الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وحَرَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك لحوم كلٍّ من الحمر الأهلية والبغال، والقردة، كما حرم كل خبيث من الطعام، ولذلك وصفه الحق -تبارك وتعالى- بقوله العزيز:"... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ..." (الأعراف:157)، ويدخل في الخبائث كل مُستَقْذَر، أو ضار، أو شاذ من الأمور.
هذا وقد أثبتت الدراسات المختبرية أن لحوم كلٍّ من الجوارح والسباع -أي الطيور والبهائم المفترسة- لها حكم الدم تمامًا لكثرة ما تأكل من اللحوم النيئة وهي مليئة بالدماء، أو لكثرة ما تشرب من تلك الدماء، ويرى فقهاء المسلمين أن المقصود بالتحريم في الدم هو نجاسته، وفي الميتة هو حبس الدم في اللحم، والبدء في تحللها أو تعفينهما معًا، أما كل ما عدا اللحم والدم -مثل الجلد، والصوف أو الشعر، والقرون، والأظلاف وغيرها- فهو حلال طاهر يصح الانتفاع به ما لم يطله شيء من تعفن لحم الميتة أو دمها.
ومن العجيب أنه تحت دعوى الشفقة بالحيوان، فإن جميع المجازر في الدول غير الملتزمة بالقواعد الإسلامية تقوم بصعق الحيوان بالتيار الكهربائي، أو بإلقاء إبرة ملتحمة بثقل كبير في مراكز محددة من المخ لإدخاله في دورة من الإغماء قبل ذبحه حتى لا يشعر بألم الذبح، وفي الغالبية الساحقة من الحالات يموت الحيوان قبل أن يذبح، ويتجمد الدم في عروقه بالصعق الكهربي، أو بصدمة إلقاء الإبرة الثقيلة في مخه، وبذلك لا تخرج ذبائح غير المسلمين عن الميتة، والدم، والمنخنقة، والموقوذة، وكثيرًا ما يغمى على الحيوان فيتردى -المتردية- أو يصطدم ببعضه البعض -النطيحة- فلا تخرج ذبائح غيرنا عن المحرمات العشر التي نصت عليها الآية الكريمة التي نحن بصددها، وأكدتها غير واحدة من آيات القرآن الكريم، ذلك الكتاب المعجز حقًا.
وقد بلغت هيمنة الشيطان على غيرنا في الغرب والشرق على أكل ما يسمى باسم المقانق السوداء، أو السجق الأسود (The Black Sausoges)، وهو عبارة عن أمعاء الخنزير المحشوة بدمه ودهونه، وكأنهم لم يكتفوا بمصيبة واحدة وهي لحم الخنزير، فأضافوا إليه دمه ودهنه، وكل واحدة منها تدمر جسد الآدمي تدميرًا كاملًا بما تحمله من سموم ومسببات للأمراض. ويدعي مسؤولو المجلس الاستشاري البريطاني لرعاية المزارع الحيوانية (The British Farm Welfare Advisory Council) أن طريقة الذبح الإسلامية بقطع زور الحيوان بسكين حاد؛ وذلك لتخليص جسده من دمه تؤدي إلى شيء من تعذيب الحيوان، وهي في الحقيقة أخف من عمليات الصعق أو الوقذ -أي القذف بوزن ثقيل في رأسه- التي يقومون بها؛ وذلك لأنه بمجرد انقطاع تدفق الدم إلى المخ فإن الحيوان لا يشعر بأية آلام على الإطلاق، وفي ذلك من الرأفة بالذبيحة ما لا يتوفر أبدًا في عمليات الصعق الكهربي، أو بالوقذ التي يستخدمها غيرنا، وفي هذه الطريقة الأخيرة من الغياب عن الوعي ما يمكن أن يقتل الحيوان فورًا، أو يرديه أرضًا مما يؤدي إلى قتله، أو إلى اصطدامه بغيره على هيئة النطيحة، وفيها أيضًا من تعذيب الحيوان ما لا يمكن أن يوصف بكلمات إذا لم تصب القذيفة الموضع المحدد في رأسه، بينما بمجرد قطع الأوردة والشرايين الرئيسية بالعتق في عملية النحر الإسلامي يتوقف وصول الدم إلى المخ، فيغيب الحيوان عن الوعي في جزء من الثانية، ويُصَفَّى دمه في حوالي دقيقتين.
ثانيًا: الذي يستذله الشيطان يزين له أكل الخبائث:
بتاريخ 18/7/2000 م وضعت على شبكة المعلومات الدولية -المعروفة باسم الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)- استغاثة من إحدى المنظمات الأمريكية تحمل اسم "المدافعون الدوليون عن حرية الصحة تطلب من كل الناس استنكار إباحة بعض الإدارات الأمريكية بيع لحوم الحيوانات المريضة للمستهلكين في الأسواق المحلية والعالمية"، وذكرت هذه الاستغاثة أن هناك مشروع قانون أمام هذه الإدارات يخول مفتشي اللحوم بإباحة بيع الذبائح المصابة بأمراض مثل السرطان والأورام المختلفة، والقروح المتعددة للمستهلكين في داخل الولايات المتحدة وخارجها، وذلك بعد إزالة الأجزاء المصابة منها وختمها بأختام تشهد بصلاحيتها لاستهلاك الآدميين، وإنزالها إلى أسواق المستهلكين المحلية والعالمية.
وأضافت الاستغاثة بأن هناك مقبلين على برنامج مذبحة عامة للأمريكيين ولغيرهم من أبناء الدول المستوردة للحوم الأمريكية، ويقول كاتبو الاستغاثة: نحن نرى هذه المذبحة بأعيننا، ونرجو من كل من يقرأ استغاثتنا بذل الطاقة لإيقاف هذه الجريمة المقززة للأبدان.
وعلى الرغم من ذلك فإن الأسواق العربية لا تزال مفتوحة على مصراعيها للحوم الأمريكية المصنعة وغير المصنعة، على الرغم من الأمراض المتفشية في الحيوانات المرباة عندهم، مثل أمراض الحمى القلاعية، وحمى ضيق التنفس (SARS)، وجنون البقر الذي يهاجم مخ الحيوان فيدمره تدميرًا بتحويله إلى حالة إسفنجية منخربة، وقد ثبت أن هذا المرض ينتقل إلى آكلي لحوم وشاربي ألبان تلك الحيوانات المصابة بهذا المرض الخطير عن بني الإنسان، فيدمر الجهاز العصبي المركزي عندهم فيما يعرف باسم مرض جاكوب.
وقد انتشر هذا المرض في العديد من الدول الغربية بسبب استخدام البروتينات الحيوانية في تغذية كلٍّ من الماشية والأغنام والدواجن، وهي حيوانات فطرها الله -سبحانه وتعالى- على أكل الأعشاب والخضراوات والحبوب (Herbivorous)، ومخالفة الفطرة وَلَّدت فيروسات غير عادية عند هذه الحيوانات العشبية تقاوم جميع المضادات الحيوية المعروفة، كما تقاوم التسخين إلى درجات الحرارة العالية، ولم يتمكن العلماء من رؤية هذا بالميكروسكوب حتى بعد استخدام المجاهر الإليكترونية والتي يصل تكبيرها إلى مليون ضعف الجسم المفحوص، ولم يمكن تتبع هذا الفيروس الخطير أيضًا عن طريق استخدام الجسيمات المضادة؛ وذلك بسبب أنه لا يثير أية جسيمات مضادة في الأبدان التي يصيبها، وهذه الحقيقة تشهد لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تحريم أكل لحم الجَلَّالة وشرب ألبانها بالإعجاز العلمي، وقد زاد بعض فقهاء المسلمين القول بتحريم ركوبها حتى تطهر خشية أن يتعرض راكبها للتلوث بنجاسة عرقها ونتنه، وهذا من منازل الطهارة في الإسلام العظيم.
والذي يأكل لحمًا أو لبنًا مصابًا بجنون البقر، فإن المرض ينتقل إليه على هيئة مرض جاكوب أو أشباهه، وفيه يهاجم فيروس المرض الجهاز العصبي للإنسان، خاصة المخ، والحبل الشوكي، والغدة النخامية، وبعض أجزاء أعصاب العين، كما يهاجم الأنسجة الضامة، والطحال، والمشيمة، واللوزتين، والزائدة الدودية، ولا يكاد المصاب أن يحيا لسنة واحدة بعد ظهور أعراض المرض عليه؛ لأن الفيروس (الموجود على هيئة بروتينات غير سوية تدعي البريونات) يهاجم المخ وينخره بثقوب ميكروسكوبية عديدة تحيله إلى ما يشبه قطعة الإسفنج.
ومن أخطار مرض جاكوب وأشباهه أن الفترة بين الإصابة بفيروس المرض وظهور أعراضه قد تطول إلى ما بين العشر والخمس عشرة سنة أو إلى أكثر من ذلك، ويمكن للمرض أن ينتقل إلى الأصحاء عن طريق تلوث الأجهزة الطبية، أو عن طريق نقل الأعضاء، أو نقل الدم، أو بتناول اللحم المصاب.
ومن أعراض أشباه مرض جاكوب (VARIANTCJD) شعور المصاب بعدد من الأعراض النفسية، مثل القلق الشديد(ANXIETY)، والاكتئاب (DEPRESSION)، والميل إلى العزلة والانسحاب من المجتمعات، والاضطرابات السلوكية المختلفة، ثم يتطور المرض إلى سلسلة من الآلام المبرحة في الوجه والأطراف، وشعور غريب في مختلف أجزاء الجسم، ثم إلى خلل في التحكم بأجهزة الحركة، فيأتي المريض بعدد من التقلصات الشديدة والحركات اللاإرادية، ثم يبدأ الفيروس حتى في مهاجمة المخ حتى يفقد المريض ذاكرته، وتأخذ حالته الصحية في التردي حتى الوفاة.
والطريقة الوحيدة لتشخيص مرض جاكوب وأشباهه بدقة هو بأخذ عينة من نسيج المخ بعملية جراحية، أو أثناء تشريح الجثة بعد الوفاة لمعرفة أسبابها.
ونظرًا لتركز المرض في الجهاز العصبي للحيوان المصاب، فإن أجهزة صحة الحيوان تمنع بيع كلٍّ من رؤوس الحيوانات وأمخاخها، والمجموعات العصبية المتصلة بالمخ، والعيون، واللوزتين، والحبل الشوكي والأعصاب المرتبطة به، وذلك لجميع أنواع الماشية التي تبلغ من العمر ثلاثين شهرًا فما فوق ذلك.
من هذا الاستعراض السريع تتضح الحكمة من تحريم لحوم الذبائح التي تدخل في نطاق المحرمات التي أوردتها الآية الثالثة من سورة المائدة التي نحن بصددها، وأكدتها الآيات في مواضع أخرى من كتاب الله، والذبح عند غيرنا يسبقه صعق الحيوان كهربيًّا، أو بالضرب في الرأس بثقل كبير في نهايته إبرة حادة -الوقذ- أو بالخنق، وفي أغلب هذه الحالات يموت الحيوان قبل أن يذبح، ويبقى دمه في لحمه، وتصفية الذبيحة من دمها هي عملية تطهير للحمها من السموم ومسببات الأمراض التي يحملها الدم، ومن هنا كانت تسمية الذبح الشرعي الإسلامي باسم التذكية (أو الذكاة)، ومن الغريب أن يحاول البعض فرض طرائق ذبحهم المعيبة علينا بدعوى الرفق بالحيوان، وهم الذين يساهمون في قتل الملايين من البشر بدم بارد، ثم يتباكون على ما يمكن أن يصيب الحيوان من آلام أثناء الذبح الشرعي الإسلامي له، والله -تعالى- لا يشرع إلا كل ما فيه الرحمة والخير كل الخير للإنسان، وللحيوان، ولكل خلق آخر من خلق الله.
ثالثًا: في قوله -تعالى-: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ":
يقال في اللغة العربية (ذَكَّيْتُ) الشاة أي ذبحتُها ذبحًا شرعيًّا كي تذكو وتطيب، والأصل في (الذَّكَاة) التطيب، ومنه رائحة (ذَكَيِّة) أي طيبة، ولذلك سمي الذبح الشرعي (تَذْكِيَة) لأن لحم الذبيحة يطهر به مما كان منتشرًا فيه من دماء وسوائل أخرى متصلة بتلك الدماء مثل السوائل الليمفاوية، وكلها يحمل أوساخ البدن ومسببات أمراضه، ومن هنا كان من معاني (الذَّكَاة) الشرعية هو التتميم، أي تتميم تصفية بدن الذبيحة مما بها من دماء وملوثات، ويتم ذلك بنحر الحيوان -أي بقطع مجري الطعام والشراب والنفس من الحلق، أي بقطع حلقومه ومريئه- وبذلك يقطع الودجان، وهما عرقان غليظان في جانبي ثغرة النحر، فتنهر الدماء والسوائل الليمفاوية بتدفق شديد مع التسمية والتكبير (باسم الله، الله أكبر) مستخدمًا في ذلك آلة حادة حتى لا يتألم الحيوان؛ وذلك لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"(الإمام مسلم).
من هنا كانت حكمة الخالق -سبحانه وتعالى- من إضافة هذا الاستثناء "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" بعد ذكر الحالات الخمس: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع؛ لأن كلًّا من البهيمة أو الطير -من المباحات- إذا مر بحالة من هذه الحالات وأدركها، أو أدركه الإنسان قبل أن تموت أو أن يموت، فذكاها أو ذكاه، سال دمها ودمه، وتطهر لحمها ولحمه، وصار حلالا، ولكن إذا لم يتدارك الحيوان في أي من هذه الحالات فمات قبل أن يذبح صار في حكم الميتة التي يحرم لحمها؛ لأن دمها يبقى محتبسًا في جسدها.
والدم هو حامل فضلات وسموم الجسم المختلفة، وحامل مسببات أمراضه، فضلًا عن كونه مركبًا من مواد قابلة للتجلط وللتعفن والتحلل السريع، فإذا حُبِسَت داخل جسم الحيوان بعد موته فإنها تساعد على سرعة تحلل هذا الجسد وفساد لحمه، وهو أيضًا قابل للتحلل والتعفن والفساد خاصة إذا انقضى على موت الحيوان وقت كافٍ يسمح بذلك.
ولكون الدم يحمل نواتج التمثيل الغذائي بما فيها من مواد نافعة، وسموم قاتلة، تكون في طريقها إلى أجهزة طرحها إلى خارج الجسم، ولكون العديد من الطفيليات تمضي في الدم مراحل من دورة حياتها تطول أو تقصر، وتلقي فيه سمومها، وكذلك الفيروسات والميكروبات المختلفة، فإن الله -تعالى- قد حرم على عباده الصالحين أكل كل من الميتة والدم، خاصة الدم المسفوح، أما أكل كلٍّ من الكبد والطحال من الحيوان المباح المُذَكَّى فهو حلال لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"(رواه كل من الأئمة أحمد، وابن ماجه، والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا).
من الاستعراض السابق يتضح أن موت الحيوان دون تذكيته -أي دون إراقة دمه- يؤدي إلى احتباس الدم في العروق المنتشرة في جسمه من الأوردة والشرايين وتفرعاتهما إلى مختلف الأنسجة والخلايا، ودم الأوردة يحمل كل نفايات الجسم، وفضلات العمليات الحيوية المختلفة، كما يحمل الدم بصفة عامة الجراثيم والطفيليات المتعايشة مع الحيوان، والدم سائل قابل للتجلط السريع، فإذا مات الحيوان دون أن يُصفَّى دمه تجلط هذا الدم مختلطًا باللحم والشحم والعظم، وبدأ في التعفن والتحلل، مما يؤدي إلى فساد اللحم، خاصة إذا طالت الفترة بعد موت الحيوان، ومن هنا فإن كلًّا من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إذا لم تدرك قبل موتها وتُذَكَّى فإن حكمها هو حكم الميتة، ومن هنا يأتي تحريم أكلها.
رابعًا: "وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ":
(النُّصُب) جمع (نِصَاب)، وهي أحجار كان مشركو قريش ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عليها، ويعظِّمونها، ويلطخونها بالدماء، وهي غير الأصنام المنقوشة المصورة، وبديهي أن الذبح لغير الله هو ضرب من الشرك، ومغايرة للفطرة التي فطر الله -تعالى- خلقه عليها، وكل مغايرة للفطرة محكوم عليها بالفشل، والحيوان كغيره من مخلوقات الله متوائم مع الفطرة، ومتنافر مع مغايرتها، ولذلك فإن جسده لا يستطيع أن ينتفض، ولا عضلاته تستطيع أن تتقلص حتى يتخلص من دمائه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا إذا سمع اسم الله وتكبيره، وقد ثبت بالأبحاث المختبرية التي قام بها فريق من كبار العلماء السوريين على مدى ثلاث سنوات كاملة أن نسيج اللحم المذبوح بدون التسمية باسم الله وتكبيره كان محتقنًا بشيء من بقايا الدم، ومصابًا بمستعمرات أعداد من الجراثيم، بينما جاء لحم الذبيحة التي سمي عليها (باسم الله والله أكبر) ذكيًّا، طاهرا، خاليًا من الدماء والجراثيم؛ وذلك لشدة اختلاج أعضاء وعضلات جسم الحيوان المسمى عليه باسم الله أثناءَ ذبحه مما يؤدي إلى اعتصار دمائه، وطرد جراثيمه معها، وبذلك يطهر لحم الذبيحة ويذكو، ومن هنا كانت حكمة تحريم أكل ما ذبح على النصب، أي لغير الله.
ولو لم يرد في القرآن الكريم سوى هذا التحريم للمحرمات العشر التي جاءت في الآية الثالثة من سورة المائدة لكان كافيًا للشهادة لهذا الكتاب الخالد بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، فقال -عز من قائل-: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9).
فحفظ القرآن الكريم في نفس لغة وحيه -اللغة العربية- على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.