من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
"يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُه" (الأنبياء: 104)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
يعتبر مجال الخلق وإفنائه وإعادة خلقه من المجالات الغيبية التي لا يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلى تصور صحيح بغير هداية ربانية، ومن هنا فإن العلوم التجريبية لا يمكن لها أن تتجاوز في تلك المجالات مرحلة التنظير، بمعنى وضع نظرية من النظريات، أو اقتراح فرض من الفروض.
وتتعدد الفروض والنظريات بتعدد خلفية واضعيها العقدية، والثقافية، والتربوية، والنفسية، ويبقى للمسلم في هذا المجال نور من الله الخالق في آية من كتابه الكريم، أو في حديث مروي بسند صحيح عن خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين- يمكن أن يعينه على الارتقاء بإحدى تلك النظريات العلمية إلى مقام الحقيقة لمجرد ورود إشارة لها في أيٍّ من هذين المصدرين من مصادر وحي السماء اللذين حُفظا بحفظ الله باللغة نفسها التي نزل الوحي بها -اللغة العربية- على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد دون نقص أو زيادة، ونكون في هذه الحالة قد انتصرنا للعلم بالوحي الثابت من كتاب الله المحفوظ بحفظه، أو بسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وهي من الوحي-ولم ننتصر لهما بالعلم المكتسب؛ لأنهما فوق ذلك وأعظم وأجل.
فمجرد ورود إشارة في كتاب الله أو في حديث مروي بسند صحيح عن خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- إلى ما يدعم إحدى النظريات العلمية التي لم يتوصل إليها العلم المكتسب إلا بعد مجاهدة كبيرة عبر سنوات طويلة، استغرقت جهود آلاف من العلماء، يرقى بهذه النظرية إلى مقام الحقيقة، ويعتبر إعجازًا علميًّا في كتاب الله، أو في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لمجرد السبق بالإشارة إلى تلك الحقيقة العلمية قبل وصول الإنسان إليها بفترة زمنية طويلة، تقدر بأكثر من ثلاثة عشر قرنًا من الزمان. وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى- في محكم كتابه: "مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا" (الكهف:51).
والقرآن الكريم الذي يقرر أن أحدًا من الإنس أو الجن لم يشهد خلق السماوات والأرض، هو الذي يأمرنا بالنظر في قضية الخلق -خلق السماوات والأرض، خلق الحياة، وخلق الإنسان- بعين الاعتبار والاتعاظ، فيقول -عز من قائل-: "أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ"(الأعراف: 185)، ويقول -سبحانه-:"لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"(غافر:57)، ويقول -سبحانه وتعالى-:"أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" (الغاشية:17)، ويقول -تبارك وتعالى-: "أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت: 19، 20).
وبالنظر في السماء توصل علماء الفلك والفيزياء الفلكية إلى عدد من النظريات المُفسِّرة لنشأة الكون وإفنائه، وأكثر هذه النظريات قَبُولًا في الأوساط العلمية اليوم هما نظريتا الانفجار العظيم(The Big Bang Theory)، والانسحاق العظيم (The Big Crunch Theory)، وكلاهما يستند إلى عدد من الحقائق المشاهدة.
الشواهد العلمية على صحة نظرية الانفجار العظيم:
(1) التوسع الحالي للكون المُشاهَد:
وهي حقيقة اكتُشفت في الثلث الأول من القرن العشرين، ثم أكدتها حسابات كلٍّ من الفيزيائيين النظريين والفلكيين، والتي لا تزال تقدم مزيدًا من الدعم والتأييد لتلك الحقيقة المشاهدة بأن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تكاد تقترب -أحيانًا- من سرعة الضوء (المقدرة بحوالي 300000 كيلو متر في الثانية)، وقد سبق القرآن الكريم كل تلك المعارف بأكثر من ثلاثة عشر قرنًا؛ إذ يقول الحق -تبارك وتعالى-:"وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات:47).
وإذا عدنا بهذا الاتساع الكوني الراهن إلى الوراء مع الزمن، فإن كافة ما في الكون من صور المادة والطاقة والمكان والزمان لابد أن تلتقي في جرم واحد، متناهٍ في ضآلة الحجم إلى ما يقترب من الصفر أو العدم، فيتلاشى كلٌّ من المكان والزمان، ومتناهٍ في ضخامة الكتلة والحرارة إلى الحد الذي تتوقف عنده قوانين الفيزياء النظرية، وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله -تعالى- فنشر مختلف صور الطاقة والمادة الأولية للكون في كل اتجاه، وتخلقت من تلك الطاقة المادة الأولية، ومن المواد الأولية تخلقت العناصر على مراحل متتالية، وبدأ الكون في الاتساع، ومع اتساعه تعاظم كلٌّ من المكان والزمان، وتحولت مادة الكون إلى سحابة من الدخان الذي خلقت منه الأرض وكل أجرام السماء، وما يملأ المسافات بينها من مختلف صور المادة والطاقة، وظل الكون في التمدد والتوسع منذ لحظة الانفجار العظيم إلى يومنا الراهن وإلى أن يشاء الله.
والانسحاق الشديد هو عملية معاكسة لعملية الانفجار الكوني الكبير تمامًا .
(2) اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك:
وقد اكتشفها بمحض المصادفة باحثان بمختبرات شركة بل للتليفونات بمدينة نيوجرسي هما أرنو أ. بنزياس (Arno A.Penzias) وزميله روبرت و. ويلسون (Robert W.Wilson) سنة 1965 م على هيئة إشارات راديوية منتظمة وسوية الخواص، قادمة من كافة الاتجاهات في السماء، وفي كل الأوقات دون أدنى توقف أو تغير، ولم يمكن تفسير تلك الإشارات الراديوية، المنتظمة، السوية الخواص إلا بأنها بقية الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم، وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة،أي ثلاث درجات فوق الصفر المطلق الذي يساوي 273 درجة مئوية، وفي نفس الوقت كانت مجموعة من الباحثين العلميين في جامعة برنستون تتوقع حتمية وجود بقية للإشعاع الناتج عن عملية الانفجار الكوني الكبير، وإمكانية العثور على تلك البقية الإشعاعية بواسطة التليسكوبات الراديوية، وذلك بناءً على الاستنتاج الصحيح بأن الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار تلك قد صاحب عملية التوسع الكوني، وانتشر بانتظام وسوية عبر كلٍّ من المكان والزمان في فسحة الكون، ومن ثم فإن بقاياه المنتشرة إلى أطراف الجزء المُدرَك من الكون لا بد أن تكون سوية الخواص، ومتساوية القيمة في كل الاتجاهات، ومستمرة ومتصلة بلا أدنى انقطاع، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الإشعاع الكوني لابد أن يكون له طيف مماثل لِطَيف الجسم المعتم، بمعنى أن كمية الطاقة الناتجة عنه في مختلف الموجات يمكن وصفها بدرجة حرارة ذات قيمة محددة، وأن هذه الحرارة التي كانت تقدر ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة عند لحظة الانفجار الكوني لابد أن تكون قد بردت عبر عمر الكون المقدر بعشرة بلايين من السنين على الأقل إلى بضع درجات قليلة فوق الصفر المطلق.
وانطلاقًا من تلك الملاحظات الفلكية والنظرية، كان في اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون دعم عظيم لنظرية الانفجار الكوني، وقضاء مبرم على نظرية ثبات الكون واستقراره التي اتخذت تُكَأَةً لنفي الخلق، وإنكار الخالق -سبحانه وتعالى- منذ مطلع القرن العشرين.
ولم تكن مجموعة جامعة برنستون بقيادة كلٍّ من روبرت دايك (Robert Dick)، ب.ج. إ. بيبلز(P.J.E.Peebles)، ديفيد رول (David Roll)، وديفيد ولكنسون (David Wilkinson) هي أول من توقع وجود الخلفية الإشعاعية للكون، فقد سبقهم إلى توقع ذلك كلٌّ من رالف ألفر (Ralph Alpher)، وروبرت هيرمان (Robert Herman) سنة 1948 م، وجورج جامو (George Gamow) سنة1953 م، ولكن استنتاجاتهم أُهملت ولم تتابع بشيء من الاهتمام العلمي فطُوِيَت في عالم النسيان.
(3) تصوير الدخان الكوني على أطراف الجزء المدرك من الكون:
في سنة1989 م أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا(NASA) مركبة فضائية باسم مستكشف الخلفية الكونية أو (كوبي) ( (Cosmic Background Explorer(COBE)، وذلك لدراسة الخلفية الإشعاعية للكون من ارتفاع يبلغ ستمائة كيلو متر حول الأرض، وقد قاست تلك المركبة درجة الخلفية الإشعاعية للكون وقدرتها بأقل قليلًا من ثلاث درجات مطلقة،أي بحوالي 2,735 + 0,06 من الدرجات المطلقة، وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويها التام في الخواص قبل الانفجار وبعده، أي من اللحظة الأولى لعملية الانفجار الكوني العظيم، وانتشار الإشعاع في كلٍّ من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة (Dark Matter) بعد ذلك.
كذلك قامت تلك المركبة الفضائية بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم على أطراف الجزء المدرك من الكون (على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية)، وأثبتت أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق السماوات والأرض، وقد سبق القرآن الكريم جميع المعارف الإنسانية بوصف تلك الحالة الدخانية منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة بقول الحق -تبارك وتعالى-:
"ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فصلت:11) وكان في اكتشاف هذا الدخان الكوني ما يدعم نظرية الانفجار الكوني العظيم.
(4) عملية الاندماج النووي وتآصل العناصر:
فتق الرتق الأول ثم طيه ثم فتق الثانى كى تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
تتم عملية الاندماج النووي داخلَ الشمس وداخلَ جميع نجوم السماء بين نوى ذرات الإيدروجين لتكوين نوى ذرات أثقل بالتدريج وتنطلق الطاقة، وقد أدت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج الصحيح بتأصيل العناصر، بمعنى أن جميع العناصر المعروفة لنا، والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر قد تخلقت كلها في الأصل من غاز الإيدروجين بعملية الاندماج النووي، فإذا تحول لب النجم المستعر إلى حديد، انفجر النجم وتناثرت أشلاؤه في صفحة السماء، حيث يمكن لنوى الحديد تلقي اللبنات الأساسية للمادة من صفحة السماء، فتتخلق العناصر الأعلى في وزنها الذري من الحديد.
وقد جمعت هذه الملاحظات الدقيقة بين فيزياء الجسيمات الأولية للمادة وعلم الكون، وأيدت نظرية الانفجار العظيم التي بدأت بتخلُّق المادة وأضدادها مع اتساع الكون، وتخلُّق كلٍّ من المكان والزمان، ثم تخلُّق نويات كلٍّ من الإيدروجين والهيليوم والليثيوم، ثم تخلُّق بقية العناصر المعروفة لنا، ولذا يعتقد الفلكيون في أن تخلُّق تلك العناصر قد تم على مرحلتين، نتج في المرحلة الأولى منهما العناصر الخفيفة، وفي المرحلة الثانية العناصر الثقيلة، والتدرج في تخليق العناصر المختلفة بعملية الاندماج النووي داخلَ النجوم أو أثناء انفجارها على هيئة فوق المستعرات هو صورة مبسطة لعملية الخلق الأول يدعم نظرية الانفجار العظيم، ويعين الإنسان على فهم آلياتها، والحسابات النظرية لتخليق العناصر بعملية الاندماج النووي تدعمها التجارب المختبرية على معدلات تفاعل الجسيمات الأولية للمادة مع نوى بعض العناصر، وقد بدأ هذه الحسابات هانز بيته(Hans Bethe) في الثلاثينات من القرن العشرين، وأتمها وليام فاولر (William Fowler) الذي مُنِحَ جائزة نوبل في الفيزياء مشاركة مع آخرين في سنة1983 تقديرًا لجهوده في شرح عملية الاندماج النووي، ودورها في تخليق العناصر المعروفة، ومن ثم المناداة بتآصل العناصر، وهي صورة مصغرة لعملية الخلق الأول.
(5) التوزيع الحالي للعناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون:
تشير الدراسات الحديثة عن توزيع العناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون إلى أن غاز الإيدروجين يكون أكثر قليلًا من 74% من مادته، ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي24% من تلك المادة، ومعنى ذلك أن أخف عنصرين معروفين لنا يكونان معا أكثر من 98% من مادة الكون المنظور، وأن باقي105 من العناصر المعروفة لنا يكون أقل من 2%، مما يشير إلى تآصل العناصر، ويدعم نظرية الانفجار العظيم؛ لأن معظم النماذج المقترحة لتلك النظرية تعطي حوالي75% من التركيب الكيميائي لسحابة الدخان الناتجة من ذلك الانفجار غاز الإيدروجين 25% من تركيبة غاز الهيليوم، وهي أرقام قريبة جدًّا من التركيب الكيميائي الحالي للكون المدرك، كما لخصها عدد من العلماء، مثل:(Alpher , Gamow , Wagonar , Fowler, Hoyle , Schramm , Olive ,Walker Steigman ,Rang ) etc
هذه الشواهد وغيرها دعمت نظرية الانفجار الكوني العظيم وجعلتها أكثر النظريات المُفسِّرة لنشأة الكون قبولًا في الأوساط العلمية اليوم، ونحن -المسلمين- نرقى بهذه النظرية إلى مقام الحقيقة الكونية لورود ما يدعمها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة من السنين يخبرنا بقولالخالق -سبحانه وتعالى-:"أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء:30).
وهذه الآية القرآنية الكريمة التي جاءت بصيغة الاستفهام التوبيخي للكافرين والمشركين والملاحدة تشد انتباههم إلى قدرة الله التامة، وسلطانه العظيم اللذين يتضحان من إبداعه في خلقه، ومن صور ذلك الإبداع خلق السماوات والأرض من جرم ابتدائي واحد، سماه ربنا -تبارك وتعالى- باسم مرحلة الرتق، والرتق في اللغة الضم والالتئام والالتحام، وهو ضد الفتق، يقال رتقت الشيء فارتتق، أي التأم والتحم، ثم أمر الله -تعالى- بفتق هذا الجرم الابتدائي فانفتق، وهي مرحلة يسميها القرآن الكريم باسم مرحلة الفتق، وتحول إلى سحابة من الدخان.
(مرحلة الدخان) الذي خلق منه ربنا -تبارك وتعالى- كلًّا من الأرض والسماء، وما ينتشر بينهما من مختلف صور المادة والطاقة مما نعلم وما لا نعلم، ثم يأتي العلم المكتسب في منتصف القرن العشرين ليكتشف شيئًا من معالم تلك الحقيقة الكونية، ويظل يجاهد في إثباتها حتى يتمكن من شيء من ذلك بنهايات القرن العشرين؛ حيث نادى بحتمية انعكاس تلك النظرية تحت مسمى نظرية الانسحاق الكبير، ويبقى هذا السبق القرآني بالإشارة إلى الفتق بعد الرتق، أو مايسميه علماء الفلك بالانفجار العظيم، وما أدى إليه من تحول الجرم الابتدائي إلى سحابة دخانية خلقت منها الأرض والسماوات، وإلى توسع الكون إلى عصرنا الراهن وإلى أن يشاء الله، ثم طي ذلك كله مرة أخرى إلى جرم واحد، وانفجاره وتحوله إلى دخان، وخلق أرض غير الأرض، وسماوات غير السماوات، يبقى ذلك كله من أعظم الشهادات على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وعلى أن هذا النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- كان موصولًا بالوحي، ومعلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض .
ماذا بعد اتساع الكون؟
أدت الملاحظات العلمية الدقيقة عن توسع الكون،واكتشاف أشباه النجوم (Quasars)، كما أدى اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك، وتصوير الدخان الكوني على أطراف هذا الجزء المدرك من الكون، واستنتاج عملية الاندماج النووي، وتخلُّق العناصر من غاز الإيدروجين داخلَ الشمس، وداخلَ غيرها من النجوم، والتوزيع الحالي للعناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون، أدى ذلك كله إلى دعم نظريتَي الانفجار الكوني العظيم، والانسحاق الكوني الكبير، وإلى دحض غيرهما من النظريات، وفي مقدمتها نظرية الكون الثابت، والتي نادى بها كلٌّ من هيرمان بوندي (Hermann Bondi)، وتوماس جولد(Thomas Gold)، وفريد هويل (Fred Hoyle) في الأربعينات من القرن العشرين، والتي طُرحت انطلاقا من الاعتقاد الخاطئ بأزلية الكون، والذي ساد الغرب طوال النصف الأول من القرن العشرين، واستمر معه إلى اليوم على الرغم من دحض المعطيات الكلية للعلوم لتلك الفرية الكبيرة.
ونحن كمسلمين نرتقي بنظريتي الانفجار الكوني الكبير والانسحاق الكوني الشديد إلى مقام الحقيقة لوجود إشارة لهما في كتاب الله، على الرغم من وجود بعض المعارضين والرافضين لقبول كلتا النظريتين من الغربيين أنفسهم، وحتى الذين اقتنعوا بالنظريتين، ودافعوا عنهما انقسموا حيالهما إلى مجموعات في غيبة اتباعهم للهداية الربانية في أمر مستقبلي من أمور الغيب، ومقدرة العلوم المكتسبة على التنبؤ بالأمور المستقبلية محدودة جدًّا.
الاحتمالات المتوقعة لعملية توسع الكون:
(1) الاحتمال الأول:
ويقترح فيه علماء الفلك والفيزياء الفلكية أن يستمر الكون في التمدد والتوسع إلى ما لا نهاية -هروبًا من الاعتراف بالخلق وبالآخرة- وذلك بافتراض استمرار قوة الدفع إلى الخارج بمعدلات أقوى من قوى الجاذبية التي تشد الكون إلى الداخل في اتجاه مركزه، وهذا افتراض خاطئ تمامًا في ضوء الملاحظات الراهنة على الجزء المدرك من الكون، ومن أبسطها أن استمرار تمدد الكون واتساعه يؤدي إلى خفض درجة حرارته بالتدريج حتى تنطفئ جذوة نجومه بانفجارها، أو بتحولها إلى أجسام باردة كالكواكب، أو إلى ثقوب سود تبتلع كل ما يدخل في دائرة جذبها من مختلف صور المادة والطاقة، ومن هنا كان تمدد الكون إلى ما لا نهاية -وهو ما يسمى بنموذج الكون المفتوح- أمرًا مستبعدًا في ضوء ما تفقده النجوم عن طريق إشعاعها من طاقة، والطاقة والمادة أمران متكافئان، واستمرار فقدان النجوم من طاقتها ينفي إمكانية استمرار الكون في الاتساع إلى ما لا نهاية.
فشمسنا -على سبيل المثال- تفقد كلَّ ثانية من عمرها من الطاقة ما يقدر بحوالي 4,6 مليون طن من المادة، وبافتراض استمرار الكون في التمدد سوف يستمر انتقال الطاقة من الأجسام الحارة -كالنجوم- إلى الأجسام الباردة -كالكواكب والكويكبات، والأقمار والمذنبات- حتى تأتي على الكون لحظة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام فيه، فيتوقف الكون عن التمدد إن لم يكن عن إمكانية الوجود، فالاستمرار في توسع الكون مرتبط بالقوة الدافعة للمجرات إلى التباعد عن بعضها البعض، وهي القوة الناتجة عن عملية الانفجار العظيم، وإذا كانت الحرارة التي نتجت عن تلك العملية، والتي تقدرها الحسابات الرياضية والفيزيائية ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة في لحظة الانفجار، قد انخفضت اليوم إلى أقل قليلًا من ثلاث درجات مطلقة، فلابد أن القوة الدافعة إلى الخارج، والمؤدية إلى توسع الكون قد تناقصت بنفس المعدل، خاصة أن الحسابات الرياضية تشير إلى أن معدلات التمدد عقب عملية الانفجار العظيم مباشرة كانت أعلى بكثير من معدلاتها الحالية، وهذا هو الذي دفع بفلكي مثل آلان جوث (Alan Guth) إلى وضع نظرية الكون المتضخم (TheInflationary Universe) التي تقرر أنه في وقت مبكر جدًّا من تاريخ الكون كان نموه نموًّا رأسيًّا فائق السرعة، فائق التمدد، وهذا أيضا هو الذي دفع بكلٍّ من روبرت دايك (R. H. Dick)، وب.ج.أ.بيبلز (P. J. E. Peebles) إلى القول بأن الأرصاد الحالية للكون توحي بأن عصرنا الحالي إما أن يكون عصرًا فريدًا في التمدد عقب عملية الانفجار الكبير، أو أن الشروط الأساسية للتمدد يجب أن يتم تعديلها بشكل يحقق قدرًا من التوافق مع هذه الأرصاد التي تثير تساؤلًا عما إذا كان الكون الآن مفتوحًا-أي مستمرا في التمدد إلى ما لا نهاية- أو مغلقًا-أي سوف يتمدد إلى أجل محدد ثم يبدأ في التكدس على ذاته- أو مستويًا-بمعنى انتفاء تحدب الكون-، وقد أشارت إليه كل الحسابات الرياضية كالتي قام بها أليكساندر فريدمان ( Freidman Alexander)، وألبرت أينشتاين (Albert Einstein) وغيرهما من الفيزيائيين النظريين والفلكيين.
والاستمرار في توسع الكون مرتبط بالقوة الدافعة بالمجرات للتباعد عن بعضها بعضًا، وهي مايعبَّر عنها أحيانًا بسرعة الإفلات من قوى الجاذبية (Escape Velocity)، ولكل جرم سماوي -مهما كانت كتلته- سرعة إفلات محددة من قوة جاذبيته، فسرعة الإفلات من جاذبية الأرض تقدر بحوالي 11 -22 كيلومتر في الثانية، بمعنى أنه إذا أطلق صاروخ من الأرض بهذه السرعة -أو بأعلى منها- فإنه يستطيع التغلب على الجاذبية الأرضية، ولكن هل سرعة توسع الكون الحالية تبلغ سرعة الإفلات من الجاذبية الكونية حتى يستمر في التوسع؟
يعتقد المشتغلون بكلٍّ من علمي الكون والفيزياء النظرية أن الأمر مرتبط بكثافة الكون، فإن كانت كثافته في حدود ما يعرف بالكثافة الحرجة (Critical Density)، فمعنى ذلك أن قوة الجاذبية الكونية تكفي لإيقاف توسع الكون في المستقبل الذي لايمكن لأحد أن يعلمه إلا الله، أما إذا كانت كثافة الكون أقل من الكثافة الحرجة، فمعنى ذلك أن الكون سيبقى متوسعًا إلى ما لا نهاية، وهذا ما لا يمكن إثباته؛ لأن الإنسان في زمن تفجر المعارف العلمية الذي نعيشه لا يدرك أكثر من 10% من مادة الكون المنظور، فأنَّى له أن يصل إلى معرفة كثافة هذا الجزء من الكون المليء بصور المادة غير المرئية مثل الثقوب السود، والمادة الداكنة، وجسيمات النيوترينو (Neutrino) وغيرها، فضلًاعن معرفة كثافة الكون غير المدرك؟ ولذلك يتحدث علماء الفلك عما يسمونه باسم الكتلة المفقودة (The Missing Mass) في الجزء المدرك من الكون، والتي يعللون وجودها بأن كميات المادة والطاقة المشاهدة فيه أقل بكثير عن الكمية اللازمة لإبقاء أجزائه متماسكة مع بعضها بعضًا بفعل الجاذبية، بل يحتاج ذلك إلى عشرة أضعاف الكمية المدركة من المادة لكي يبقى الجزء المدرك من الكون في تماسك واتزان، ومن هنا كان التقدير بأن 90% من مادة الجزء المدرك من الكون غائبة عن إدراكنا.
(2) الاحتمال الثاني:
ويقترح فيه علماء الكون نموذجًا للكون المتذبذب (The Oscillating Universe) بغير بداية ولا نهاية؛ هروبًا من الاعتراف بالخلق، وجحودًا بالخالق، ويبقى الكون في هذا النموذج متذبذبًا بين التكدس والانفجار -أي بين الانكماش والتمدد- في دورات متتابعة، ولكنها غير متشابهة إلى ما لا نهاية، تبدأ بمرحلة التكدس على الذات، ثم الانفجار والتمدد، ثم التكدس مرة أخرى، وهكذا.
واقترح ريتشارد تولمان (Richard Tolman) سنة1934 م أن كل دورة من دورات تذبذب الكون لا تتشابه مع ما قبلها من الدورات بافتراض أن النجوم تنشر إشعاعها في الكون، فتتزايد أعداد فوتونات الطاقة ببطء، فيأتي كل انفجار كوني أعلى حرارة من سابقيه على الرغم من التدمير الكامل الذي يعم الكون في كل مرحلة، وهو افتراض ساذج ينسى انطواء الكون على ذاته بكل ما فيه من مختلف صور المادة والطاقة والمكان والزمان، وانغلاق ذلك كله في كل عملية تكدس يمر بها الكون،ولذلك لم يستطع هذا النموذج المقترح الصمود في ضوء معطيات علم الفلك الحديثة.
(3) الاحتمال الثالث:
ويتوقع فيه العلماء تباطؤ سرعة توسع الكون مع الزمن، وهي القوة الناتجة عن عملية الانفجار العظيم، فكما أن الحرارة التي نتجت عن تلك العملية، والتي تقدر حسابيًّا ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة لحظة الانفجار قد انخفضت اليوم إلى أقل قليلًا من الثلاث درجات مطلقة -أي إلى 270 درجة مئوية- فلابد أن القوة الدافعة إلى الخارج، والمؤدية إلى توسع الكون قد تناقصت بنفس المعدل، خاصة أن الحسابات الرياضية تشير إلى أن معدلات التمدد الكوني عقب عملية الانفجار العظيم مباشرة كانت أعلى بكثير من معدلاتها الحالية (الكون المتضخم بسرعات فائقة).
ومع تباطؤ سرعة توسع الكون، تتفوق قوى الجاذبية على قوة الدفع بالمجرات للتباعد عن بعضها بعضًا، فتأخذ المجرات في الاندفاع إلى مركز الكون بسرعات متزايدة، لامَّة ما بينها من مختلف صور المادة والطاقة، فيبدأ الكون في الانكماش والتكدس على ذاته، ويُطوَى كلٌّ من المكان والزمان حتى تتلاشى كل الأبعاد أو تكاد، وتتجمع كل صور المادة والطاقة المنتشرة في أرجاء الكون حتى تتكدس في نقطة متناهية في الضآلة، تكاد تصل إلى الصفر أو العدم، ومتناهية في الكثافة والحرارة إلى الحد الذي تتوقف عنده كل قوانين الفيزياء المعروفة، أي يعود الكون إلى حالته الأولى-مرحلة الرتق- ويسمى هذا النموذج باسم نموذج الكون المنغلق (The Closed Universe).
وتسمى عملية تجمع الكون بنظرية الانسحاق الكبير(The Big Crunch Theory)، وهي معاكسة لعملية الانفجار الكبير.
ونحن –المسلمين- نؤمن بتلك النظرية لقول الحق -تبارك وتعالى- في محكم كتابه:
"يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" (الأنبياء:10).
ولا يستطيع أي إنسان كائنًا من كان أن يتوقع شيئًا وراء ذلك الغيب المستقبلي بغير بيان من الله الخالق، والقرآن الكريم يخبرنا فيه بقول الحق -تبارك وتعالى-:"يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ" (إبراهيم: 48)، وبقوله -عز من قائل-:"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا" (الإسراء:99).
ومعنى هذه الآيات الكريمة أن الله -تعالى- سوف يطوي صفحة الكون جامعًا كل ما فيها من مختلف صور المادة، والطاقة، والمكان والزمان، على هيئة جرم ابتدائي ثانٍ -رتق ثانٍ- شبيه تمامًا بالجرم الابتدائي الأول -الرتق الأول- الذي نشأ عن انفجاره الكون الراهن، وأن هذا الجرم الثاني سوف ينفجر بأمر من الله -تعالى- كما انفجر الجرم الأول، وسوف يتحول إلى سحابة من الدخان كما تحول الجرم الأول، وسوف يخلق الله -تعالى- من هذا الدخان أرضًا غير أرضنا الحالية،وسماوات غير السماوات التي تظلنا، كما وعد سبحانه وتعالى.
وهنا تبدأ الحياة الآخرة، ولها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الحياة الدنيا، فهي خلود بلا موت، والدنيا موت بعد حياة، وسبحان القائل مخاطبًا أهل الجنة:"ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ" (ق:34).
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي يروى عنه قوله: "والله ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، وإنها لجنَّة أبدًا أو نار ابدًا".
ومن الأمور المعجزة حقًا أن يشير القرآن الكريم الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة من السنين إلى أهم نظريتين في خلق الكون وإفنائه، وهما نظريتا الانفجار الكبير والانسحاق الكبير، ونحن نرتقي بهاتين النظريتين إلى مقام الحقيقة لمجرد ورود إشارة إليهما في كتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومن المعجز أيضًا أن ترد الآيتان المشيرتان إلى كلتي النظريتين في سورة واحدة من سور القرآن الكريم، وهي سورة الأنبياء (الآيتان: 30 و104).
ومن المعجز حقًا تلك الإشارة القرآنية الباهرة بإعادة خلق أرض غير الأرض الحالية، وسماوات غير السماوات الحالية، وهو غيب لايمكن للإنسان أن يصل إليه أبدًا بغير هداية ربانية، وهي الهداية التي تحسم الجدل المُحيِّر في أمر من أمور الغيب المطلق، حار فيه علماء العصر.
فسبحان الذي أنزل القرآن بعلمه، فقال مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله-صلى الله عليه وسلم-: "لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا" (النساء:166).