من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الربع الأول من سورة غافر، وهي سورة مكية، وآياتها(85) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم الجليل (غافر) الذي هو صفة من صفات الله العليا التي جاءت في مطلع السورة، ثم جاءت في ثناياها بصيغة (الغفار) وهو اسم من أسماء الله الحسنى.
ويدور المحور الرئيس لسورة غافر حول قضيتي الإيمان والكفر، وصراع أهليهما عبر التاريخ، وتدخل الإرادة الإلهية دوما لحسم هذا الصراع لمصلحة أهل الإيمان إذا ثبتوا على إيمانهم وصبروا واحتسبوا، أما أهل الكفر والشرك والعصيان المتجبرين في الأرض بغير الحق فيأخذهم الله -تعالى- أخذ عزيز مقتدر، ولذلك تشير هذه السورة الكريمة إلى مصارع عدد من الأمم الغابرة التي كفرت بربها، وكذبت أنبياءه ورسله، وطغت في الأرض وتجبرت، وبغت على أهلها واعتدت بغير الحق فكان جزاؤها السحق والإفناء والإهلاك والإبادة وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل.
هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة غافر، وما جاء فيها من ركائز العقيدة، والإشارات الكونية، ونوضح هنا لمحة الإعجاز العلمي في قول ربنا -تبارك وتعالى-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19)، وقبل الوصول إلى ذلك أرى ضرورة استعراض أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين في تفسير قول ربنا -تبارك وتعالى-:(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19):
* ذكر ابن كثير -يرحمه الله- ما مختصره:... يخبر -عز وجل- عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها ليَحذر الناس ربهم، فيتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه -عز وجل- يعلم العين الخائنة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والأسرار.
* وجاء في الجلالين -رحم الله كاتبيه- ما نصه:"يعلم" أي الله -تعالى-، "خائنة الأعين" بمسارقتها النظر إلى محرم، "وما تخفي الصدور" القلوب.
وأضاف الشيخ محمد أحمد كنعان الذي راجع هذا التفسير الجليل في الهامش إضافة جيدة جاء فيها:قوله -تعالى-:"يعلم خائنة الأعين" خيانة العين -كما فسرها الجلال المحلي هنا- هي: مسارقتها النظر إلى محرم، أي: ينظر إلى ما يحرم النظر إليه من امرأة مسارقة بحيث لا يشعر جليسه بذلك، وذكر في حديث شريف معنى آخر لخيانة العين وهو الغمز، كما جاء في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين أي أن يومئ بعينه ليعبر عن شيء في نفسه لا يريد الإفصاح عنه" (رواه أبو داود - والنسائي).
* وذكر صاحب الظلال -رحمه الله رحمة واسعة- ما نصه: "والعين الخائنة تجتهد في إخفاء خيانتها، ولكنها لا تخفى على الله، والسر المستور تخفيه الصدور، ولكنه مكشوف لعلم الله".
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن -رحم الله كاتبها برحمته الواسعة- ما نصه:"يعلم خائنة الأعين" أي: هو -تعالى- يعلم النظرة الخائنة، كمسارقة النظر إلى ما نهى الله عنه،"وما تخفي الصدور"أي: والذي تخفيه الصدور من المكنونات، فيجزي كل نفس بما كسبت.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم -جزاهم الله خيرا- ما نصه: "وهو -سبحانه- يعلم النظرة الخائنة للعين، وما تخفيه الصدور من المكنونات".
وذكر بقية المفسرين كلاما مشابها لا داعي لتكراره هنا.
من الدلالات اللغوية لألفاظ الآية الكريمة:
1- (خائنة) صفة موضوعة موضع المصدر من (خان) (يخون) (خيانة) فهو (خائن) وهي (خائنة)، و(الخيانة) والنفاق واحد إلا أن (الخيانة) تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين، ثم يتداخلان، فـ(الخيانة) مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة: الأمانة، يقال: (خان) فلان فلانا، و(خان) أمانة فلان، فهو خائن، و(خائنة) نحو راوية وداهية، و(الاختيان) مراودة (الخيانة) أو تحرك شهوة الإنسان لتحري (الخيانة)، وذلك هو المشار إليه بقوله -تعالى- إن النفس لأمارة بالسوء).
2- (العين) وجمعها (أعين) و(عيون) هي جارحة الإبصار، ويقال لذي (العين) (عين)، وللمراعي للشيء (عين)، و(أعيان) القوم أفاضلهم، وفلان بعيني أي: أحفظه وأراعيه، وتستعار (العين) لِمَعانٍ هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة، ومنها (خائنة الأعين) وهي النظرة الخائنة، أو هي الغمز أي: الإشارة بجفن العين، ويقال لمنبع الماء (عين)، ومنها اشتق الوصف للماء (بالمعين) أي الظاهر للعيون.
3- (خفي) ( يخفي) ( خفية) و( خفاء) بمعنى استتر، و(الخفاء) ما يستر به كالغطاء، و(خفيته) أزلت (خفاه) وذلك إذا أظهرته، و(أخفيته) أوليته خفاء، وذلك إذا سترته، و(الاستخفاء) طلب (الإخفاء)، و(الخوافي) جمع (خافية) وهي ما يستتر من الشيء، أو هي مادون القوادم من الريش في الطيور، وشيء (خفي) أي (خاف) وجمعه (خفايا).
4- (الصدر) هو الجارحة، وجمعه (الصدور)، و (صدر) كل شيء أوله أو مقدمه على سبيل الاستعارة من مثل قولك: صدر كل من المجلس، والكتاب والكلام، ويقال (صدره) أي: أصاب صدره أو قصد قصده، ومنه قيل: رجل (مصدور) إذا كان يشكو صدره، وإذا عدي بحرف الجر (عن) اقتضى الانصراف تقول: (صدرت) الإبل عن الماء (صدرا) و(صدورا)، والمصدر (صدر) عن الماء، و(الصدار) ثوب يغطى به الصدر ويقال له (الصدرة)، و(صدر) الفرس جاء سابقا (بصدره)، والقرآن الكريم أشار في مواضع كثيرة بـ(الصدر) إلى القلب وما حوله من أغشية على أنه محتوى الفقه، والعلم، والفهم، والذاكرة، والعاطفة وغير ذلك من القوى التي وهبها الله -تعالى- للإنسان.
كلمة (الصدر) في القرآن الكريم:
جاءت كلمة (الصدر) بمشتقاتها في القرآن الكريم(46) مرة، منها(42) مرة بمعنى حاسة في داخل القفص الصدري للإنسان قد تشمل القلب وما حوله من أغشية، ومرة واحدة بمعنى الإقبال، وأخرى بمعنى الإدبار أو الانصراف، وذلك لأن الفعل (صدر) من أفعال الأضداد.
ونختار من الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيها كلمة (الصدر) بمعنى القلب وما حوله من أغشية ما يلي:
(1) اثنتا عشرة آية جاء فيها التعبير القرآني الكريم: "إن الله عليم بذات الصدور"أو "والله عليم بذات الصدور" أو "إنه عليم بذات الصدور"أو "وهو عليم بذات الصدور"، والمقصود بتعبير (ذات الصدور) محتوى القلوب وما حوله من أسرار في القفص الصدري للإنسان.
(2) (قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ...) (آل عمران:29).
(3) (...قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ...) (آل عمران:118).
(4) (...وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154).
(5) (...أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ...) (النساء:90).
(6) (... فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ...)(الأنعام:125).
(7) (...كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ...)(الأعراف:2).
(8) (قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) (التوبة:14).
(9) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًي وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57).
(10) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) (النمل:74).
من الدلالات العلمية للآية الكريمة:
في هذه الآية الكريمة سَبْق علمي بأكثر من أربعة عشر قرنا لجميع المعارف المكتسبة، وصورة من صور الإعجاز العلمي في كتاب الله المتمثل في هذا السبق الزمني، وفي نزول هذا الحق العلمي على نبي أمي -صلى الله عليه وسلم- وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، وفي زمن انتفاء وجود أي من وسائل الكشف العلمي المتوافرة اليوم.
وإجماع المفسرين على أن أهم ما في صدر الإنسان هو القلب، وكان السائد عند أهل العلم أن القلب هو مجرد مضخة تدفع بالدم الفاسد إلى الرئتين لأكسدته، ثم تلقي الدم المصفى من الرئتين، وإعادة ضخه إلى مختلف أجزاء الجسم ومن أولها المخ الذي إذا تأخر ضخ الدم المؤكسد إليه لبضع ثوان هلك صاحبه.
ولكن الآية التي نحن بصددها، والتي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وأربعا وأربعين آية أخرى من آيات الصدور في القرآن الكريم تؤكد أنه لتعبير (ما في الصدور) وظائف أخرى غير ضخ الدم واستقباله وإعادة ضخه، وقد أثبتت أحدث دراسات القلب صدق ذلك.
فقد ثبت مؤخرا أن القلب عضو حيوي بشكل هائل وفعال في جسم الإنسان، وأن كلا من القلب وغشائه البريتوني (الصفاق) يحتويان على أكثر من أربعين ألف خلية عصبية تشبه خلايا المخ، وأنهما يفرزان كمًّا من الهرمونات إلى تيار الدم المتجه إلى المخ وإلى باقي أجزاء الجسم، فيتم بينهما وبينها نوع من التخاطب، والتنسيق، وأن المخطط الكهربائي للقلب وغشائه هو أكبر بمائة ضعف من المخطط الكهربائي للمخ، وطاقتهما المغناطيسية تفوق طاقة المخ المغناطيسية بخمسة آلاف ضعف، كذلك ثبت أنه كما ينشط المخ بمراكز ذاكرته وحسه بواسطة التغذية الراجعة عبر كل من الشبكات العصبية والدموية، فكذلك القلب وغشاؤه البريتوني ينشطان بنفس الطريقة، وكما أن بالمخ مراكز للشعور، والذاكرة والحس، والتنسيق، والعواطف، والانفعال، واتخاذ القرار، فقد ثبت أن بكل من القلب وغشائه عددا من المراكز لكل ذلك كما أثبت الدكتور بول برسال في مؤلَّفه المعنون: شيفرة القلب (Pearsall Perusal: The Heart Code) وقد تأكد ذلك بملاحظة أن أحد الأعراض الناتجة عن إجراء العمليات الجراحية بالقلب هو فقد شيء من الذاكرة، مما دفع بالعلماء إلى الاستنتاج المنطقي بأن القلب هو مستودع الذكريات، كما دفعهم إلى إثارة عدد من الأسئلة المنطقية التي منها: هل يمكن أن يكون لكل من القلب وغشائه البريتوني قدرة على التفكير، والشعور، والعاطفة، والانفعال، واتخاذ القرار، وتخزين المعلومات القريبة والبعيدة في ذاكرة تشبه تماما ذاكرة المخ إن لم تتفوق عليها؟
وجاءت إجابات أساتذة القلب بكل من جامعة ييل الأمريكية(Yale University)، ومعهد هارتمان بولاية كاليفورنيا(Hartman Institute, California) بأن كلا من القلب وغشائه البريتوني يمثلان جهازا فائق التعقيد، يشبه الجهاز العصبي للمخ تماما، وله ذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، وله قدرة على قيادة المخ، وقد تأكدت هذه الاكتشافات بعمليات نقل القلب من إنسان إلى آخر حيث اكتشف أن القلب المنقول يحمل معه من الذكريات، والملكات والمواهب والعواطف، والمشاعر، والهوايات، والخصال، والسجايا، والصفات الذاتية الأخرى الخاصة بالشخص الذي نقل منه القلب، والتي تبدو غريبة كل الغرابة عن الصفات السابقة للشخص الذي تم نقل القلب إليه.
وهنا تأتي هذه الآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها، وأمثالها في كتاب الله شهادة صدق على أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، في نفس لغة وحيه (اللغة العربية)، وحفظه كاملا على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية، وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقى القرآن الكريم شاهدا على الخلق أجمعين إلى يوم الدين بأنه كلام رب العالمين، وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.