news-details
الإعجاز و العلم

من أسرار القرآن (وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (الشورى: 32، 33)

من أسرار القرآن

مقالات جريدة الأهرام المصرية

(وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (الشورى: 32، 33)

بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار

هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في نهاية الثلث الثاني من سورة الشورى، وهي سورة مكية، وآياتها ثلاث وخمسون (53) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لتأكيدها على مبدأ الشورى كأساس للتعامل بين المسلمين، وذلك بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى: 28).

ويدور المحور الرئيس لهذه السورة المباركة حول قضية العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية، هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الشورى وما جاء فيها من ركائز العقيدة والعبادة والسلوك، وما أوردته من إشارات كونية ونفسية، ولذلك نقصر هذا المقال على ما جاء فى الآيتين الكريمتين رقم (32)، (33) من إشارة إلى نعمة تسخير البحر والريح للإنسان، وجعل التركيب الكيميائي والصفات الطبيعية لكل من الماء فى البحر والهواء في الغلاف الغازي للأرض مناسبين وضروريين من أجل استقامة الحياة على الأرض، وقبل الوصول إلى ذلك أرى أهمية استعراض أقوال عدد من المفسرين فى شرح هاتين الآيتين الكريمتين.

من أقوال المفسرينفي تفسير قوله -تعالى-: "وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" (الشورى: 32، 33):

ذكر ابن كثير -رحمه الله- ما مختصره: ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه،تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره (كالأعلام)، أي كالجبال، أي هذه في البحر كالجبال في البر،"إن يشأ يسكن الريح"، أي التي تسير في البحر بالسفن، ولو شاء لسكنها حتى لا تتحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب، بل واقفة (على ظهره) أي على وجه الماء "إن فى ذلك لآيات لكل صبار" أي في الشدائد(شكور)، أي في الرخاء.

وجاء في تفسير الجلالين ما مختصره: "وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ" السفن، "فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ" كالجبال في العظم، "إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ" يصرن، "رَوَاكِدَ" ثوابت لا تجري، "عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" هو المؤمن يصبر فيالشدة ويشكر في الرخاء.

وذكر صاحب الظلال –رحمه الله رحمة واسعة– ما مختصره: والسفن الجواري في البحر كالجبال آية أخرى من آيات الله. آية حاضرة مشهودة، آية تقوم على آياتٍ كلها من صنع الله دون جدال. هذا البحر من أنشأه؟ مَن مِن البشر أو غيرهم يدعي هذا الادعاء؟ و من أودعه خصائصهمن كثافة و عمق وسعة حتى يحمل السفن الضخام؟ و هذه السفن من أنشأ مادتها و أودعها خصائصها فجعلها تطفو على وجه الماء؟
       وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن التي كانت مطومة وقتها للمخاطبين (و غير الريح من القوى التي سخرت الإنسان في هذا الزمان من بخار أو ذرَّة أو ما شاء الله بعد الآن) من جعلها قوة في الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام؟

"إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ" وإنها لتركد أحيانا فتهمد هذه الجواري، وتركد كما لو كانت فارقتها الحياة "إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ"في إجرائهن وفي ركودهن على السواء لآيات لكل صبار شكور، والصبر والشكر كثيرا ما يقترنان في القرآن،الصبر على الابتلاء والشكر على النعماء، وهما قوام النفس المؤمنة في الضراء والسراء. 

وجاء في "صفوة البيان لمعاني القرآن" -رحم الله كاتبها- ما مختصره: "وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ" أي السفن الجارية في البحر كأنها من عظمها أعلام أي جبال شاهقة، جمع جارية و هي السفينة، وسميت جارية لجريانها في الماء.

و(أعلام) جمع علم، وهو الجبل الطويل، فيصرن ثوابت على ظهر البحر لا يجرين.
و ذكر أصحاب "المنتخب في تفسير القرآن الكريم" –جزاهم الله خيرا– ما نصه: "ومن دلائل قدرة الله السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها. إن يشأ الله يسكن الريح فتظل السفن ثوابت على ظهر الماء لا تجري بهم إلى مقاصدهم، إن في سيرها ووقوفها بأمر الله لدلائل واضحة على قدرته يعتبر بها المؤمنون الصابرون في الضراء، الشاكرون في السراء".

من الإشارات العلمية في الآيتين الكريمتين:
أولا: في قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ":

       يتميز الماء بخاصية التوتر السطحي العالية (High Surface Tension)، و الماء كسائل يأتي بعد الزئبق مباشرة في شدة توتره السطحي، و تنتج هذه الخاصية بسبب القطبية الكهربية المزدوجة (Dipolarity)، التي أودعها الله تعالى في جزيء الماء الذي يتكون من ذرة أكسجين واحدة و ذرتي إيدروجين، و ترتبط هذه الذرات الثلاث برابطة تعرف باسم الرابطة التساهمية، و تترتب الذرات في جزيء الماء على هيئة غير خطية يفصل ذرتي الإيدروجين فيها زاوية تقدر بحوالي مائة وخمس درجات (105° تقريبا)، و ذرة الأكسجين تحتوي على ست إلكترونات في مدارها الخارجي، بينما تمتلك كل ذرة من ذرتي الإيدروجين إلكترونا واحدا، وهذا التوزيع غير المتساوي للإلكترونات في ذرات جزىء الماء يجعل لذرة الأكسجين شحنة سالبة، و لذرتي الإيدروجين شحنة موجبة، و هذا هو ما يعبر عنه بتعبير "قطبية جزيء الماء"، وهذه القطبية الكهربية لجزيء الماء وهبته عدد من خصائصه الفريدة التي لاتجتمع لسائل آخر، منها قدرته الفائقة على إذابة العديد من العناصر والمركبات، ومنها خاصية التوتر السطحى حيث تتجاذب الشحنات الكهربية المختلفة على ذرات الأكسجين والإيدروجين فى جزيئات الماء المتقاربة بما يعرف باسم الرابطة الإيدروجنية (The Hydrogen Bond)، وهذه الروابط على هشاشتها إلا أنها سريعة الالتئام مما يعطى لسطح الماء قدرًا هائلًا من التماسك والتلاصق الذى يعرف باسم التوتر السطحي (Surface Tension) وبهذا التوتر السطحى يتحول سطح الماء إلى درجة من الترابط الذى يشبه راقا من الجلد المشدود على إطار صلب، وبذلك يسير الكثير من الطيور والعناكب والحشرات على سطح الماء دون أن تبتل أقدامها.

       وبكل من التوتر السطحي للماء، والخاصية الشعرية (Capillarity) التي يتميز بها والناتجة عن شدة توتره السطحي، تم عملية إزاحة الماء (Displacement of water) بواسطة أية أوزان توضع فوق هذا السطح المائى المشدود فيتم طفوها على ظهر الماء حسب قوانين الطفو التى بين كل كتلة وحجم الجسم الطافي، وشدة توتر الماء عند سطحه، وكمية الماء المزاح بواسطة الجسم الطافي، وبذلك تطفو السفن والبواخر والبوارج العملاقة فوق مياه البحار.

       ولولا ماوهب الله-تعالى-الماء من صفات طبيعية وكميائية ومنها التوتر السطحي، الخاصية الشعرية، الاستقرار الحرارى المثالي، وارتفاع معامل حرارته المائية، ومنحنى الكثافة الفريد الذى وهبه الخالق-سبحانه وتعالى- للماء، وللماء فقط -الذي يزيد حجمه بالتبريد تحت أربع درجات مئوية، فتقل كثافته بمقدار العشر (10%)عنها عند درجة أربعة مئوية(4ﹾم)، فيطفو الجليد فوق سطح الماء تاركًا مجالًا أكثر دفئًا للماء من حوله وأسفل منه لمختلف صور الحياة التى تعيش فى الأوساط المائية وإلا لقضى عليها بالتجمد.

       وإشارة إلى طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في تسخير البحر للإنسان بإعطاء الماء هذا القدر الهائل من الخصائص والصفات التي مكنته من حمل السفن والبواخر على سطحه مهما بلغت أحجامها وكتلتها ومهما ثقلت أحمالها من البشر وأمتعتهم وتجارتهم وأسلحتهم، ولذلك قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ)(الشورى:32).

ولقد أكد القرآن الكريم على هذا المعنى فى عدد آخر من الآيات التي منها قوله -تعالى-:
1)(... وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ)(إبراهيم:32).
2)(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فِي البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (الإسراء:66)
3)(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (لقمان: 31).
4)(وَلَهُ الجَوَارِ المُنشَآتُ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن:24، 25).

 

ثانيا:قوله -تعالى-: (إن يشأ يسكن الريح ...):

       تعتمد الألواح الخشبية الطافية على أسطح مياه البحار والمحيطات(Rafts) على حركة الأمواج التي تدفعها الرياح، فإذا سكنت الرياح ظلت هذه الألواح رواكد على ظهر الماء.
وبالمثل تعمد المراكب الشراعية -التي عرفها الإنسان منذ بدء التاريخ- على الاستفادة بكل من اتجاه وشدة الرياح، على حسن توظيف ذلك فى تحريك السفينة أشرعتها فى الاتجاه المناسب بالنسبة إلى اتجاه الرياح الساندة، دون الحاجه إلى أية أعمال ميكانيكية، وإن لزم الأمر أحيانًا استخدام المجاديف.

       فإذا سكنت الرياح ركدت كل المراكب الشراعية (Sailing Ships) على أسطح البحار والمحيطات؛ لأنها تعتمد فى حركتها أساسا على ديناميكية الرياح (Aerodynamics)؛ ولذلك تم التفكير فى الاستفادة بالماكينات البخارية(Steam Engines) فى تحريك السفن بمجرد تطوير تلك الماكينات في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي (1775م) فظهرت السفن البخارية-الشراعية المعروفة باسم(Mixed Steam-Sail Vessels) والتي استخدمت كلا من الأشرعة والمحركات البخارية، واستمرت في خدمة النقل والتجارة إلى مشارف القرن العشرين(1902م) ثم صنعت السفن البخارية(Steam Ships) التي استغنت عن الأشرعة بالكامل لاعتمادها كليًّا على دفع البخار في ماكينات الاحتراق الداخلي (Internal Compustion Engines) ولذا عرفت باسم السفن المتحركة بدفع الوقود(Steam Propulsion Ships).

       وبعد ذلك صنعت البواخر العملاقة التي تعمل بالطاقة النووية(Nuclear Propulsion Ships) ومنهاما يعمل بالانشطار النووي (Fission Type) وما يعمل بالاندماج النووي (Fusion Type).

       وقد دفع هذا التدرج بعدد من المفسرين إلى القول بأن المقصود بالنص القرآني (إن يشأ يسكن الريح) هي السفن الشراعية، والتي لا تزال مستخدمة في الرياضة وفى الرحلات الترفيهية حتى اليوم، كما دفع بعدد آخر إلى القول بأن المقصود بإسكان الريح هو ضياع كل مصادر القوة أي كل مصادر الطاقة، وهو تكلف ملحوظ لا يقره النص القرآني وإن اعتمد أصحاب الرأي الأخير على استخدام لفظة الريح فى مقام آخر من القرآن الكريم بمعنى القوة، وذلك فى قول ربنا-تبارك وتعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46) والعلوم المكتسبة تؤكد على حاجة كل مصادر الطاقة المستخدمة فى دفع السفن إلى أكسجين الهواء فإذا سكن الريح انعدم الأكسجين فركدت السفن.

ثالثا: في قوله تعالى: (فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ...) :

       في هذا النص الكريم تتضح ومضة الإعجاز العلمي في الآيتين الكريمتين اللتين اتخذناهما عنوانا لهذا المقال؛ وذلك لأن أيا من وسائل الدفع في السفن لا يمكن له العمل إذا سكن الريح سواء كانت تلك السفن شراعية أو شراعية/ بخارية أو بخارية، أو تعمل بواسطة ماكينات الاحتراق الداخلي المستخدمة لأي من الفحم أو النفط أو الغاز الطبيعي، أو تعمل بالطاقة النووية الانشطارية أو الاندماجية، ولذلك قال -تعالى-: (فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ...)، وهي حقيقة علمية لم تكن معروفة في زمن الوحي، ولا قرون متطاولة من بعده، وورودها بهذه الدقة العلمية الفائقة يجعل منها شهادة صدق على أن القرآن الكريم هو كلام الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه، ورسله وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، وشاهِدا للرسول الخاتم الذي تلقى القرآن الكريم شاهدًا على الخلق أجمعين إلى يوم الدين بأنه كلام رب العالمين، وشاهدًا للرسول الخاتم الذى تلقى القرآن الكريم بالنبوة وبالرسالة فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.