من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر: 85)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة الحِجر، وهي سورة مكية، وآياتها تسع وتسعون(99) بعد البسملة، وقد سُميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى أصحاب الحِجر، وهم قبيلة ثمود، قوم نبي الله صالح -على نبينا وعليه من الله السلام- ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
وتبدأ سورة الحجر بالحروف المقطعة الثلاثة "ألر" التي تكررت في مطلع خمس من سور القرآن الكريم هي: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، والحجر، وقد سبق لنا مناقشة هذه الفواتح الهجائية، ولا أرى داعيا لتكرار ذلك هنا، وبعد هذا الاستهلال تمتدح الآيات كلا من القرآن الكريم والإسلام العظيم، مهددة كلا من الكفار والمشركين وأعداء الدين بعقاب رب العالمين، وفي ذلك تقول:(ألر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ* رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ* وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ* مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (الحجر:1-5).
ثم تنتقل الآيات إلى استنكار تطاول أهل الكفر والشرك والضلال على شخص خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- مؤكدة أن الله -تعالى- هو الذي أنزل القرآن الكريم، وتعهد بحفظه تعهدا مطلقا فتقول:(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ*لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ*مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ*إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:6- 9).
وتؤكد السورة الكريمة أن هذا الموقف الجاحد تكرر من الكفار والمشركين مع جميع أنبياء الله ورسله، فاستحق هؤلاء الجاحدون أشد العقاب من رب العالمين في الدنيا قبل الآخرة، وفي ذلك تقول الآيات مخاطبة خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ*وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ*كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ*لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)(الحجر:10-13).
وفي الآيات(14- 27) استعرضت سورة الحجر عددا من بديع صنع الله في الكون، مما يشهد له -تعالى- بالألوهية، والربوبية، والخالقية، والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه، وجاء في كل آية من هذه الآيات عدد من ومضات الإعجاز العلمي في كتاب الله يتمثل في السبق بالإشارة إلى عدد من حقائق الوجود التي لم تدرك إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وإن كانت أعين الكفار والمشركين لا تبصر، وعقولهم لا تعي ولا تفهم، وأسماعهم عن الحق قد صُمَّت، ثم تنتقل الآيات إلى حقيقة خلق الإنسان، وإلى موقف الشيطان منه فتقول:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ*فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ*قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ*قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ*إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ*قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ*قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ*إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ*وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ) (الحجر:28-44).
وفي المقابل تنتقل الآيات إلى وصف الجنة التي يدخلها عباد الله المتقون، وإلى وصف جانب من نعيمهم فيها، آمرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبشر برحمة الله ومغفرته، وأن ينذر من أليم عذابه فتقول:(إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ*وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ*لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ*نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ)(الحجر:45-50).
وفي الآيات(51- 84) استعراض لقصص عدد من أنبياء الله ورسله، ولتفاعل أقوامهم معهم، ولعقاب الله الذي وقع بالكفار والمشركين، والعصاة المتجبرين منهم، حتى تعتبر الأمم من بعدهم، فلا يقعوا فيما وقع هؤلاء العصاة فيه، ومن أنبياء الله الذين ورد ذكرهم في سورة الحجر ساداتنا إبراهيم، لوط، شعيب، وصالح -على نبينا وعليهم وعلى أنبياء الله جميعا من الله السلام-، ثم تتجه الآيات بالخطاب مرة أخرى إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- فتقول له:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ*إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ*وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ المَثَانِي وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ*لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ*وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ المُبِينُ*كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ*الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ*فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الحجر:85-93).
و(المقتسمون) هم كفار أهل الكتاب ومشركوهم الذين تحالفوا على مخالفة أنبياء الله وتكذيبهم وإيذائهم، وتقاسموا على ذلك، والذين اقتسموا الكتب التي أنزلت إليهم فآمنوا ببعضها وكفروا بالبعض الآخر، وهم (الذين جعلوا القرآن عضين) أي أجزاء متفرقة، يستشهدون بما يروق لهم من آياته، خداعا ومواربة، ولعبا بالألفاظ، ويغفلون منه ما يدين عقائدهم الباطلة.
وجاءت الإشارة إلى هؤلاء الكفار والمشركين مواساة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موقف كفار ومشركي العرب من القرآن الكريم الذي تطاولوا عليه كفرا وشركا وفجرا وافتراء بوصفه بالسحر تارة، وبالشعر تارة أخري، وبالشعوذة والأساطير تارة ثالثة، مع عجزهم الكامل عن الإتيان بشيء من مثله، وهم في قمة البلاغة والفصاحة وقوة البيان، وتبقى هذه الآيات مواساة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك في حال كل متطاول على شخصه الكريم أو على القرآن الكريم من كفار ومشركي كل عصر، وكل جيل، إلى قيام الساعة، ولذلك ختمت سورة الحجر بقول ربنا -تبارك وتعالى- له:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ*إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ*الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ*وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ*وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ) (الحجر:94- 99).
من ركائز العقيدة في سورة الحجر:
(1) الإيمان بالله -تعالى- الخلاق العليم، والغفور الرحيم، صاحب العذاب الأليم، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، وبأنه -تعالى- هو الذي أنزل القرآن الكريم على خاتم أنبيائه ورسله، وتعهد بحفظه تعهدا مطلقا.
(2) اليقين بأن الدين الذي يرتضيه ربنا -تبارك وتعالى- من عباده هو الإسلام، ولا يرتضي منهم دينا سواه.
(3) التصديق بحقيقة الآخرة، وبحتميتها، وضرورتها، وبكل أحداثها: من البعث إلى الحشر، والحساب، والجزاء، والجنة ونعيمها، والنار وجحيمها.
(4) التسليم بكل ما جاء في القرآن الكريم من قصص الأنبياء والمرسلين وتفاعل أممهم معهم، وعقاب الذين استهزؤوا منهم بأنبياء الله ورسله، وكيف كان لكل أمة منهم أجل استوفته بالكامل، وكيف كانت نهايتها.
(5) الإيمان بحقيقة الروح التي هي من أمر الله.
(6) اليقين بأن الشيطان للإنسان عدو مبين.
(7) التصديق بفضل فاتحة الكتاب التي امتدحتها السورة كما امتدحتها أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
(8) التسليم بأن الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- هو النذير المبين للحق أجمعين.
(9) الإيمان بمسؤولية الإنسان عن أعماله في الحياة الدنيا.
(10) اليقين بأن الله -تعالى- قد تكفل بالدفاع عن خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم- حيا وميتا، فما ضاق صدره بما قال السفهاء من الناس في زمانه ولن يسيؤه ذلك بعد وفاته.
(11) التصديق بأن الموت حق على كل العباد.
من الإشارات العلمية في سورة الحجر
(1) التأكيد على أن السماء بناء محكم، وعلى وصف الحركة فيها بالعروج.
(2) الإشارة إلى رقة طبقة النهار وإلى ظلمة الكون.
(3) وصف بروج السماء بأنها زينة لها، ووصف الشهب بأنها رجوم للشياطين.
(4) التأكيد على كروية الأرض بالوصف (مددناها) وذلك لأن المد بلا نهاية هو قمة التكوير.
(5) الإشارة إلى إلقاء الجبال في الأرض، ووصفها بالرواسي، والتأكيد على إنبات كل شيء بميزان دقيق في هذه الأرض.
(6) وصف قدرة الله -تعالى- البالغة في توفير أرزاق الإنسان على الأرض، وأرزاق من لا يستطيع الإنسان إعاشته من أحياء الأرض.
(7) التأكيد على أن خزائن كل شيء عند الله -تعالى- وما ينزل الأرزاق منها إلا بقدر معلوم، وإلا فسدت الحياة علي الأرض، ومن هذه الأرزاق المطر، ومختلف أنواع العناصر والمركبات، والقرارات الإلهية بإنزال الرزق.
(8) الإشارة إلى دور الرياح في تلقيح السحب بنوى التكثف، ومن ثم إنزال الماء لسقيا كل من الإنسان والحيوان والنبات، وخزن الفائض في صخور الأرض عالية المسامية وعالية النفاذية، وبين طبقات مصمتة في مخازن للماء محكمة، أحكمها صنعا الخالق -سبحانه وتعالى- من أجل استقامة الحياة علي الأرض.
(9) التأكيد على حتمية فناء الكون بقول الحق -تبارك وتعالى-:(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوَارِثُونَ) (الحجر:23)، وقوله -تعالى-: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر:85).
(10) وصف خلق الإنسان من صلصال من حمإ مسنون.
(11) الإشارة إلى عدد من الأنبياء السابقين، وإلى المكذبين من أممهم وما أصابهم من عقاب الله، والدراسات الأثرية تؤكد ذلك وتدعمه.
(12) التأكيد على خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، أي حسب قوانين ثابتة لا تتخلف، ولا تتعطل، ولا تتوقف إلى ما شاء الله -تعالى-، والإشارة بالبينية الفاصلة للسماوات عن الأرض إلى مركزية الأرض من الكون وهو ما لا يمكن للمعارف المكتسبة إثباته.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، ولذلك فسوف أقصر الحديث على النقطة الأخيرة من القائمة السابقة، التي سوف نناقشها في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
255-"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ"(الحجر:85)، هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة الحجر، وهي سورة مكية، وآياتها تسع وتسعون(99) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى أصحاب الحجر، وهم قبيلة ثمود، قوم نبي الله صالح -على نبينا وعليه من الله السلام- ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية، هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الحجر وما جاء بها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية، ونخص هذا المقال بومضة الإعجاز العلمي في الآية الخامسة والثمانين من هذه السورة المباركة والتي اتخذناها عنوانا للمقال.
من الدلالات العلمية للآية الكريمة:
أولا: في قوله -تعالى-: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ":
جاءت لفظة السماء في ثلاثمائة وعشرة مواضع من القرآن الكريم، منها مائة وعشرون بالإفراد (السماء)، ومائة وتسعون بالجمع (السماوات)، كذلك جاءت الإشارة إلى (السماوات والأرض وما بينما) في عشرين موضعا من تلك المواضع، وجاء ذكر السحاب المسخر بين السماء والأرض في موضع واحد (الآية164 من سورة البقرة) والتي تشير إلي أن نطاق المناخ المحتوي على السحب هو الفاصل بين الأرض والسماء وهو نطاق لا يتعدي سمكه 16 كيلو متر فوق خط الاستواء ويحوي أغلب مادة الغلاف الغازي للأرض75% بالكتلة، وبناء على ذلك فإن السماء في القرآن الكريم تشمل كل ما يحيط بالأرض بدءا من نهاية نطاق المناخ إلى نهاية الكون التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وتشير آيات القرآن الكريم إلى أن الله -سبحانه وتعالى- خلق سماء واحدة وأرضا واحدة، ثم مايز كلا منهما إلى سبعة نطق متطابقة حول مركز واحد يغلف الخارج منها الداخل فيها بمعنى أن يكون جميع ما في السماء الدنيا داخلا في باقي السماوات ولذلك قال -عز من قائل-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق:12)،وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا* وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (نوح:15، 16).
وقال -سبحانه-: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ*ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ*وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وأعتدنا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير)(الملك: 3- 5)، وجاء ذكر السماوات السبع في سبع آيات قرآنية كريمة، ويشير هذا الكتاب العزيز إلى أن النجوم والكواكب هي من مميزات السماء الدنيا فقط وذلك بقول الحق تبارك وتعالى:(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب) (الصافات:6)، وقوله –تعالى-:(وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ) (فصلت: 12)، وقوله -سبحانه-:(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ...) (الملك:5).
ويقدر علماء الفلك قطر الجزء المُدرَك من الكون بأكثر من خمسة وعشرين بليونا من السنين الضوئية(25 بليون*9,5 مليون مليون كم) وهذا الجزء من السماء الدنيا دائم الاتساع إلى نهاية لا يعلمها إلا الله تعالى، وبسرعات لا يمكن للإنسان اللحاق بها وذلك لأن سرعة بعض المجرات عنا وعن بعضها البعض تقترب من ثلاثة أرباع سرعة الضوء المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية.
وهذا الجزء المدرك من السماء الدنيا مبني بإحكام بالغ، ودقة فائقة، وعلى وتيرة واحدة، تبدأ بتجمعات حول نجم من النجوم من مثل مجموعتنا الشمسية التي تضم عددا من الكواكب والكويكبات والأقمار والمذنبات التي يدور كل منها في مدار محدد له حول الشمس، وتنطوي ملايين الملايين من هذه المجموعات في وحدات أكبر هي المجرات، وتُكوِّن عشرات من المجرات المتقاربة ما يعرف باسم المجموعات المحلية، وتلتقي المجموعات المحلية فيما يعرف باسم الحشود المجرية، وتلتقي هذه في الحشود المجرية العظمي في ما هو أكبر من ذلك حتى نهاية السماء الدنيا، والحشد المحلي الأعظم الذي تنتسب إليه مجرتنا يضم مائة من الحشود المجرية على هيئة قرص يبلغ قطره مائة مليون من السنين الضوئية، وسمكه عُشر ذلك، وهي نفس النسبة بين طول قطر مجرتنا وسمكها، وقد اكتُشف مؤخرا حشد مجري عظيم آخر يبلغ طوله بليون ونصف البليون من السنين الضوئية، وسمكه مائتي مليون سنة ضوئية، وتدرس السماء الدنيا حاليا في شرائح تقدر أبعادها بحوالي(150 مليون*100 مليون*15 مليون سنة ضوئية)، ووصل طول إحدى هذه الشرائح إلى (250 مليون سنة ضوئية).
ومجرتنا (درب اللبانة) عبارة عن قرص مفرطح يقدر قطره بمائة ألف سنة ضوئية، وسمكه بعشر ذلك، ويضم ما بين مائة بليون إلى تريليون نجم في مراحل مختلفة من العمر، ومن المنطقي أن يكون لعدد من هذه النجوم توابع كما لشمسنا عدد من التوابع، وتدور مجرتنا دورة كاملة حول مركزها في مدة تقدر بحوالي225 مليون سنة من سنيننا، وهذا هو يومها، وهذه الوحدات من اللبنات الأولية للمادة إلى نهاية الجزء المُدرَك من الكون مرتبطة بعدد من القوى التي تعرف منها القوتان النوويتان الشديدة والضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية، وقوة الجاذبية، والتي يرى العديد من العلماء أنها صور متعددة لقوة واحدة يحاول العلماء الوصول إليها فيما يسمي باسم نظريات التوحيد الكبرى أو الجاذبية العظمى، وفي هذا السبيل تم اقتراح نظرية الخيوط العظمى التي تفترض أن اللبنات الأساسية للمادة تكون من خيوط طولية غاية في دقة السمك، تلتف حول ذواتها، فتبدو كما لو كانت نقاطا متناهية في الصغر.
أما الأرض فهي كوكب صخري، شبه كروي، يبلغ متوسط قطره(12,742 كم) وكتلته حوالي (ستة آلاف مليون مليون مليون طن)، ويتكون من سبعة نطق متطابقة حول مركز واحد هي على النحو التالي:
1- قشرة الأرض (الأرض الأولي).
2- ما دون القشرة (الأرض الثانية).
3- نطاق الضعف الأرضي (الأرض الثالثة).
4- الوشاح الأعلى (الأرض الرابعة).
5- الوشاح الأسفل (الأرض الخامسة).
6- اللب السائل (الأرض السادسة).
7- اللب الصلب (الأرض السابعة).
والأرض كوكب فريد في كثير من صفاته التي هيأها له الخالق -سبحانه وتعالى- ليجعله صالحا للحياة التي نعهدها عليه، ومن ذلك أبعاده من ناحية الحجم، ومتوسط الكثافة، والكتلة، والتركيب الداخلي، والبنيات الخارجية، ونُطُق الهواء، والماء، والحياة، والصخور المحيطة به، والعمليات الداخلية البانية والهادمة فيه، والعمليات الخارجية المُشكِّلة لسطحه، ودورات الماء، والهواء، والصخور، والحياة المستمرة من حوله، كل ذلك وغيره من صفات الأرض التي نحيا عليها، نموت وندفن في ترابها يتم حسب قوانين ثابتة منضبطة لا تتوقف، ولا تتعطل، ولا تتخلف إلى أن يشاء الله.
والبينية الفاصلة بين السماوات والأرض تشير إلى حقيقتين هامتين توصلت المعارف المكتسبة إلى واحدة منهما، ولن تستطيع أبدا إثبات الثانية والحقيقة الأولى هي أن الغلاف الغازي في نطاق الرجع (نطاق المناخ والسحب) ليس من الأرض بالكامل ولا من السماء بالكامل، ولكنه خليط من مادتي الأرض والسماء، تكون باندفاع كميات هائلة من غازات وأبخرة البراكين الأرضية، واختلاط هذه الغازات والأبخرة بالمادة بين الكواكب فتُكوِّن هذا النطاق البيني، وهي حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين، أما الحقيقة الثانية فهي مركزية الأرض من الكون، وهي مما لا يستطيع الإنسان إثباته لضخامة الكون وضآلة حجم الأرض، من هنا كانت الإشارة القرآنية الكريمة إلى البينية الفاصلة بين السماء والأرض في عشرين آية قرآنية كريمة بما فيها الآية التي نحن بصددها، تأكيدا على هذه المركزية التي لا يمكن للبينية أن تتحقق بدونها ولذلك قال -تعالى-: "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق".
ثانيا: في قوله -تعالى- "وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ":
تطلق الشمس من مختلف صور الطاقة ما يقدر بحوالي (خمسمائة ألف مليون مليون مليون حصان) في كل ثانية من ثواني عمرها، وهذه الطاقة تقدر بما يعادل (4,6 مليون) طن من المادة، ومعنى هذا أن شمسنا ليست خالدة، ولكنها في طريقها إلى الفناء الحتمي باحتراقها التدريجي مع الزمن، وإذا فنيت انتهى كل شيء على الأرض، وانتهت المجموعة الشمسية كلها، وإن كنا نحن -معشر المسلمين- نؤمن بأن الساعة أمر إلهي بـ( كن فيكون)، ولن تنتظر فناء الشمس باحتراقها بالكامل، ولكن تأتي بغتة دون انتظار لحركة السنن الراهنة التي أبقاها الله -تعالى- شاهدة على حتمية فناء الكون، ولما كانت الشمس تفقد من كتلتها باستمرار، فلابد أن تفقد الأرض من كتلتها باستمرار كذلك قدرا موازيا ومتناسبا مع ما تفقده الشمس، من أجل بقاء المسافة بينهما ثابتة، وهي محكومة بكتلتي هذين الجرمين، ويتحدد بواسطتها قدر الطاقة التي تصل من الشمس إلى الأرض، فإن زادت احترق كل شيء، وإن قلت تجمد كل شيء، وعلى ذلك فقد قدر الخالق -سبحانه وتعالى- أن تفقد الأرض من كتلتها باستمرار عن طريق نشاطها البركاني قدرا متناسبا من الغازات والأبخرة والأتربة الدقيقة إلى فسحة السماء متفلتة من عقال جاذبية الأرض حتى تبقى الأرض على بعد ثابت من الشمس.
كذلك فقد ثبت بالقياس أن القمر يبتعد عن الأرض بمعدل(3-4 سم) في كل سنة، مما يجزم بحتمية ابتلاع الشمس له، وبداية تهدم مجموعتنا الشمسية، إن لم يكن تهدم الكون كله، والشمس لن تبتلع القمر بهذه السُّنَّة التي أبقاها الله -تعالى- شاهدا من الشواهد الحسية على حتمية فناء الكون لأن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا تماما، وأنها لا تأتي إلا بغتة بالأمر الإلهي (كن فيكون) ولذلك قال -تعالى-: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ ...) وكل المعارف المكتسبة تؤكد على حتمية تهدم النظام الكوني القائم وحتمية فنائه، وذلك من أحق حقائق الوجود، ولذلك قال-تعالى-:"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالحَقِّ وَإنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ".
ثالثا: في قوله -تعالى-: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ":
يأمر ربنا -تبارك وتعالى- خاتم أنبيائه ورسله-صلى الله عليه وسلم- أن يصفح الصفح الجميل عن الكفار والمشركين الذين كذبوا بعثته الشريفة في القديم والحديث، وأنكروا نبوته الخاتمة في زمانه ومن بعده، وتطاولوا على شخصه الكريم وهو إمام الأنبياء وسيد المرسلين، بل سيد ولد آدم أجمعين، واتهموه -شرفه الله- بالشعر، وبالسحر، وبالكهانة، والشعوذة، وبالجنون، وهم الذين وصفوه من قبل بالصادق الأمين، وكذلك حال الناس عبر التاريخ ما أتاهم من رسول إلا استهزؤوا به، وسخروا منه، وكذبوا دعوته على الرغم من علمهم بما أصاب مكذبي أنبياء الله ورسله من الأمم السابقة من هلاك ودمار، وحتى في زمن الفتن الذي نعيشه لم يسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين -صلى الله عليه وسلم- من غمز الشياطين، وقد شرفه الله-تعالى-تشريفا لم ينله أحد من الناس، من قبل ولا من بعد، ووعده بالانتقام العاجل من كل مسيء إلى شخصه الكريم ولذلك وجَّه الخطاب إليه في ختام سورة الحجر بقوله -عز من قائل-:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ*إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ*الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ*وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ*وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ) (الحجر: 94- 99)
وهذا تهديد شديد من الله -تعالى- ووعيد أكيد لكل من جعل مع الله معبودا آخر، ولكل من آذى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بكلمة نابية، أو إشارة ساقطة، أو رسم مهين، والخطاب القرآني إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- خطاب إلى كل مؤمن برسالته إلى يوم الدين، والمتأمل للآيات في ختام سورة الحجر يرى أنها كما ناسبت مقام الحال من قبل ألف وأربعمائة سنة، فهي تنطبق على أحوال الناس في هذه الأيام، وكأن القرآن الكريم يتنزل علينا اليوم من جديد ليواجه أحداثا وقعت بعد نزوله بأكثر من أربعة عشر قرنا ليثبت لكل ذي بصيرة أنه كلام رب العالمين الذي لا تنتهي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد له على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.