من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
(وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير: 17، 18)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في بدايات النصف الثاني من سورة "التكوير"، وهي سورة مكية، وآياتها تسع وعشرون (29) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بذكر أربع عشرة علامة من علامات الساعة، وأولها تكون الشمس.
والشمس تبدو لنا –نحن أهل الأرض– مكورة لعظم المسافة بين الأرض والشمس، والمُقدَّرة بحوالي مائة وخمسين مليون كيلومتر، ولكنها في الحقيقة لها بروزات عديدة تعرف باسم البروزات الشمسية (Solar Prominances)، يتعدى أطوال بعضها عدة آلاف من الكيلومترات فوق سطحها، وتندفع هذه البروزات الشمسية إلى تلك المسافات البعيدة فوق سطح الشمس بفعل التفاعلات النووية العنيفة في قلبها، ومع الضعف التدريجي لتلك التفاعلات تنسحب البروزات الشمسية بالتدريج إلى داخل الشمس حتى تختفي بالكامل وحينئذ تتكور الشمس، وهذا التكور في الآخرة لن يتم بالسنن السائدة في الدنيا، لأن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا بالكامل، فهي لا تأتي إلا بغتة كما وصفها ربنا –تبارك وتعالى– في محكم كتابة بقوله العزيز:(... ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ...) (الأعراف: 187).
ويدور المحور الرئيس لسورة "التكوير" حول قضيتين من قضايا العقيدة الإسلامية، وهما: الإيمان بكل من الوحي ويوم القيامة، وتبدأ في نصفها الأول باستعراض عدد من علامات الساعة ومنها:
(1) تكور الشمس: إشارة إلي انطفاء جذوتها، وضعف التفاعلات النووية بداخلها وانسحاب البروزات الشمسية المندفعة منها إلي خارج سطحها ولذلك قال -تعالى-:(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(التكوير: 1).
(2) انكدار النجوم: أي انطفاء لمعانها، ومعروف أن هذا الانكدار هو من مراحل احتضار النجوم قبل اختفائها بالكامل، إما بالانفجار والتحول إلى دخان الكون، أو بالتكدس على الذات حتى تبلغ حدا من الكثافة لا يمكن للعقل البشري أن يتصوره، فيطمس نورها بالكامل لأن الضوء لا يستطيع الانفلات من عقال جاذبيتها الفائقة، وإذا سقط عليها ابتلعته بالكامل ولذلك أطلق عليها علماء الفلك اسم الثقوب السود (Black Holes) وسماها القرآن الكريم في منتصف هذه السورة المباركة باسم (... بِالْخُنَّسِ.الجَوَارِ الكُنَّسِ) وانكدار النجوم وطمسها من الظواهر الفلكية التي عرفت في أواخر القرن العشرين، وإشارة القرآن الكريم إليها من قبل أربعة عشر قرنًا مما يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق، ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة، ولذلك قال -تعالى-:(وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ) (التكوير:2)،ومع تسليمنا بأن انكدار جميع النجوم في الآخرة لن يتم بالسنن الدنيوية التي ينكدر بها بعض النجوم في زماننا الراهن، لأنه سوف يحدث بأمر من الله –تعالى– بـ(كن فيكون) إلا أن إثبات علوم الفلك لحقيقة انكدار النجوم كمرحلة من مراحل احتضارها في الحياة الدنيا يبقي شهادة للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق، وشهادة للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة.
(3) تسيير الجبال من أماكنها: وفي ذلك إشارة إلى بداية تهدم الأرض، لأن الجبال تثبت بأمر الله –تعالى– ألواح الغلاف الصخري للأرض مع بعضها البعض بأن فاعليتها إلى ما دون الغلاف الصخري للأرض لتطفو في نطاق الضعف الأرضي الذي توجد فيه الصخور في حالة شبه منصهرة، لدنة، عالية الكثافة واللزوجة، تماما كما تطفو جبال الجليد في مياه البحار والمحيطات كذلك فإن توزيع الجبال على سطح الأرض يقلل من شدة ترنحها أثناء دورانها حول محورها، فإذا زالت الجبال زادت الأرض من ترنحها في سبيلها للتدمير الكامل ولذلك قال -تعالى-: (وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ) (التكوير: 3) ومن معاني تسيير الجبال من الآيات القرآنية الأخرى.
(4) تعطيل العشار: وهي النوق الحبالى في شهرها العاشر، وتعطيلها يعني تخلي أصحابها عنها لا يرعاها أحد، وإهمالها حتى لا يهتم بشأنها أحد، وهي أغلى ما تكون عند البدوي، لأنها مرجوة الولد واللبن، قريبة النفع، ولكن أهوال الآخرة تصرفه عنها، وتضطره إلى إهمالها وتركها وتسببها، وقيل في العشار: إنها السحاب يعطل عن المسير بين السماء والأرض لخراب الدنيا وتدمير النظام الكوني، وقيل: إنها الأرض الزراعية التي تعشر، وقيل: إنها الديار التي كانت تُسكن، تُهجر وتُعطل لهروب أصحابها منها وابتعادهم عنها، وكل ذلك إشارة إلى بدء تهدم الكون وانهيار كل شيء فيه، وإن كان الراجح أنها العشار من الإبل، وهي خيارها والحوامل منها، التي وصلت في حملها إلى الشهر العاشر، وواحدتها عشراء، ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وفي التعبير إشارة إلى إهمال الناس كل حامل من الأحياء لما دهاهم من عظائم الأمور وقت قيام الساعة، ولذلك قال -تعالى-: (وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ) (التكوير: 4).
(5)حشر الوحوش: أي جمعها، فإن هذه الخلائق كلها سوف تبعث ليقضي الله –تعالى– فيها ما يشاء، وهذه الوحوش المتعدية الجائرة قد حولها الرعب الناتج عن مخالفة بعضها بعضا، وافتراس بعضها للبعض الآخر وتجمعت على بعضها ناسية، وهي الشاردة النافرة في شغاب الأرض، أو المنزوية في حجورها وبيوتها فخرجت هائمة على وجوهها لا تدري أين تذهب، وقد أنساها هول التدمير الكوني عن كل عاداتها وطبائعها وغرائزها وخصائصها، فحشرت وتكدست على بعضها بعضا واختلط منها الحابل بالنابل ولذلك قال -تعالى-:(وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير: 5).
(6)تسجير البحار: وهو تسعيرها حتى تصير نارا تأجج، أو إحماء قيعانها كما تحمى اليوم صهارات الصخور المندفعة بملايين الأطنان عبر الخسوف الأرضية المكونة لتلك القيعان، وبعض البحار وجميع المحيطات قيعانها مُسجرة اليوم بالثورات البركانية المندفعة من أغوار قيعانها، ولكن تسجير الآخرة سيكون أدهى وأشد، كما سيتم بعدد من السنن والقوانين المغايرة لسنن الدنيا تماما، ولكن من رحمة الله –تعالى– بنا أن أبقي لنا في قيعان كل محيطات الأرض، وفي قيعان أعداد من بحارها صورة من صور التسجير بواسطة ثورة البراكين فوق قيعان المحيطات وقيعان عدد من البحار فيلتقي الأضداد: الماء والنيران دون أن يلغي أحدهما الآخر ليقرب لنا صورة من صور تسجير البحار –كل البحار– في الآخرة حتى لا يستبعد وقوعها مؤمن، وإن تم ذلك بسنن وقوانين مغايرة لسنن الدنيا بالكامل، ولذلك قال -تعالى-: (وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ) (التكوير: 6).
(7)تزويج النفوس: وهو يحتمل أن يكون عودة الأرواح إلى أجسادها، أو هو الجمع بين الأمثال من الناس، والتأليف بين كل شيعة على حدة انطلاقا من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: "الضرباء من قول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (الواقعة: 7– 10) فيقرن بين المؤمنين الصالحين في الجنة كما يقرن بين الفاسدين أصحاب السوء في النار، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى-: "احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ" أي أقرانهم.
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما– أنه قال: "يسيل واد من أصل العرش من ماء، فيما بين الصيحتين، ومقدار ما بينهما أربعون عاما، فينبت منه كل خلق بَلِيَ من الإنسان أو طير أو دابة، ولو مرَّ عليهم مارُّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض قد نبتوا، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد"، فذلك قال الله -تعالى-: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ).
(8)،(9) (وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)(التكوير: 8، 9)، والموؤودة هي المولودة الأنثى التي كان كثير من أهل الجاهلية يئدونها أي يدسونها في التراب كراهية البنات، أو خوف العار أو خوف الفقر، فيوم القيامة تسأل:"بأي ذنب قتلت"فيكون في ذلك من التهديد والوعيد لقاتلها ما فيه، لمطالبتها من الله بدمها من وائدها، لأنه إذا كانت الموؤودة ستسأل عن وأدها فما بال الوائد لها؟
(10) نشر الصحف: أي صحف الأعمال، ونشرها يفيد كشفها بالكامل، وفيها من المساوئ ما يخجل صاحبها من ذكرها فضلا عن علانية كشفها، فهذا الكشف هو لون من ألوان الأهوال التي يتعرض لها أغلب الناس في يوم القيامة، حين يعطى كل إنسان صحيفة أعماله بيمينه أو بشماله، ويقال له:(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الإسراء: 14).
وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى-: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة: 18)
ويقول -تعالى-:(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (التكوير: 10)
(11) كشط السماء: ويعني إزالتها من الوجود حين يبدأ تدمير الكون كله، لأن السماء هي كل ما يقابل الأرض من الكون كله، وهي ذلك العالم العلوي من حولنا، والذي يضم مختلف صور المادة والطاقة، والمكان والزمان، ويشمل ذلك كل ما نراه في السماء الدنيا من الأجرام المتعددة، وصور المادة والطاقة المتباينة في أشكالها، وهيئاتها، وكثافتها، وأحجامها وكتلها، وسرعاتها، ومداراتها، وذلك من مثل الكواكب والكويكبات، والأقمار والمذنبات، والنجوم والبروج، والسدم والمجرات، وتجمعات ذلك مما نرى ولا نرى من أجرام السماء الدنيا ومختلف صور المادة والطاقة التي تملأ أرجاءها، وكل ذلك مترابط بقوى الجاذبية، والقوى الكهرومغناطيسية، والقوى النووية الشديدة والضعيفة، وهذه القوى جميعا هي صورة لقوة واحدة تشهد للخالق العظيم بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه، كما يشهد بذلك رد مختلف صور المادة كلها إلى غاز الإيدروجين.
فإذا جاء أمر الله –تعالى– بزوال هذا الكون انفرط عقده وتناثرت مكوناته قبل طيها وزوالها، ولعل هذا ما يشير إليه الوصف القرآني بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ) (التكوير: 11)، وقوله –عز من قائل-:(إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) (الانفطار: 1)، وقوله -وقوله الحق-: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)(الانشقاق: 1).
(12) تسعير الجحيم: أي أوقد عليها حتى حميت وازداد لهبها واشتدت حرارتها، أما أين هي؟ وكيف توقد وتستعر، وما وقودها؟ لا نعلم من ذلك إلا قول ربنا -تبارك اسمه-: (...وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ...) (البقرة: 24)،وذلك بعد إلقاء أهلها فيها، أما قبل ذلك فأمرها من الغيوب المطلقة التي لا سبيل لنا إليها إلا ما نزل عنها في كتاب الله –سبحانه وتعالى– أو في أقوال خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين-، وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى-:(وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (التكوير: 12).
(13) (وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (التكوير: 13)، أي قُرّبَت إلى أهلها حتى يسهل دخولهم فيها، وهو من قبيل التكريم لأهل الجنة في مقابلة إذلال أهل النار.
(14) (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14)، وهذا هو جواب كل ما سبق من أحداث جسام، أي إذا وقعت هذه الأمور كلها حينئذ تعلم كل نفس ما عملت، وأحضر ذلك لها، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى-:(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا …) (آل عمران: 30).
وهنا تعلم كل نفس مالها وما عليها، وسط الأهوال المحيطة بها، وهي لا تملك أن تغير شيئا مما سُطِّر عليها ودُوِّن في صحائفها، وقد انقطع العمل، كما انقطع الرجاء إلا في الله –تعالى– ووجهه الكريم، وعفوه ورحمته، ولعل في هذه الحقيقة ما يدفع العقلاء من الناس إلى محاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وأن يزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم، وأن يستعدوا للعرض الأكبر أمام خالقهم الذي يقول لهم:(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة: 18).
وهنا ينتهي النصف الأول من سورة التكوير، وسوف نعرض للقسم الثاني في المقال القادم إن شاء الله –تعالى– فإلى ذلك الحين أستودعكم الله الذي لا تضيع عنده الودائع داعيا لكم بكل خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في بدايات النصف الثاني من سورة "التكوير"، وهي سورة مكية، وآياتها تسع وعشرون (29) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بذكر تكور الشمس كواحدة من أربع عشرة علامة من علامات الساعة.
ويدور المحور الرئيس لسورة "التكوير" حول قضيتين أساسيتين من قضايا العقيدة الإسلامية، وهما: الإيمان بكل حقيقة من الوحي السماوي، وحتمية يوم القيامة، وقد اشتمل النصف الأول من هذه السورة الكريمة على عدد من علامات الساعة، ويؤكد قسمها الثاني على حقيقة الوحي الذي نزل به جبريل –عليه السلام– إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله –صلوات الله وسلامه عليه– كما أنزل إلى عدد كبير من الأنبياء والمرسلين من قبل.
ويقسم ربنا –تبارك وتعالى– على صحة ذلك –وهو الغني عن القسم لعباده– بعدد من الأمور الباهرة في خلقه فيقول: (فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الجَوَارِ الكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)(التكوير: 15– 20).
ونفي القسم في اللغة العربية مبالغة في توكيده، والوصف (... الْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ)ينطبق على حقيقة كونية باهرة تمثل مرحلة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السود (Black Holes)، وهذه المرحلة لم تُكتشف إلا فى العقود المتأخرة من القرن العشرين، والإشارة إليها في القرآن الكريم من قبل أربعة عشر قرنا بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة(... بالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ) أي "النجوم الخانسة الكانسة"، وهي تسمية أبلغ وأدق من التسمية العلمية (الثقوب السود) هي شهادة لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزل بعلمه، وحُفظ بعهده في نفس لغة وحيه، وهي كذلك شهادة للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه بأنه كان موصولا بالوحي ومعلما من قِبَلِ خالق السماوات والأرض.
وقد سبق لنا استعراض ومضة الإعجاز العلمي فى قول ربنا -تبارك وتعالى-: (فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الجَوَارِ الكُنَّسِ)ونركز هنا على ما جاء من إعجاز علمي فى الآيتين التاليتين اللتين يقول فيهما ربنا -تبارك وتعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)
وقبل الوصول إلى ذلك نستمر فى استعراض بقية هذه السورة الكريمة فنقول: إنه بعد القسم بكل من "الخنس الجوار الكنس" وبـ "الليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس" يأتي جواب القسم بقول ربنا –تبارك وتعالى-: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ*) (التكوير: 19-21).
والرسول الكريم هو جبريل -عليه السلام- وهو ملك شريف، حسن الخلقة، بهي المنظر لذلك وصف بوصف الكريم، "ذي قوة"أي شديد القوة والفعل،"عند ذي العرش" أي عند الله –تعالى– "مكين"أي له مكانة عظيمة عند رب العالمين،"مطاع ثَم" أي مطاع فى الملأ الأعلى أي في السماوات العلا، "أمين" وصف لجبريل –عليه السلام– من الله –تعالى– بالأمانة، وتزكية من الله –سبحانه وتعالى– لهذا الملك المطهر، وتأكيد على صدق الوحي الذي حمله إلى خاتم الأنبياء والمرسلين –صلى الله عليه وسلم– كما حمله من قبل إلى عدد كبير من أنبياء الله ورسله.
ومعني جواب القسم: أن هذا القرآن الكريم –ومنه الآيات الواردة في النصف الأول من هذه السورة الكريمة واصفة لعدد من علامات الساعة– هو كلام الله الموحى به إلى خاتم أنبيائه ورسله بواسطة ملك من ملائكة السماء المقربين إلى رب العالمين، ولذلك فهو عزيز على الله –تعالى-، وهذا الملك المبلغ عند الله -سبحانه وتعالى- هو جبريل الأمين –عليه السلام– وقد تمت نسبة القول إليه هو باعتباره القائم بالتبليغ إلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين.
والقسم القرآني بكل من"الخنس الجواري الكنس، وبالليل إذا عسعس وبالصبح إذا تنفس" جاء للتأكيد على حقيقة الوحي الإلهي الخاتم الذي أنزل إلى خاتم الأنبياء والمرسلين –صلى الله عليه وسلم– هداية للخلق أجمعين ومنهم الإنس والجن، لينقلهم من ظلمات الشرك والكفر والضلال إلى نور التوحيد الخالص لله –تعالى– ومن فوضى وحشية الإنسان الضال إلى ضوابط المؤمن بالله، القائم على حدوده، المتقي لمحارمه، والمرتقي بملكاته إلى مقامات التكريم التي كرمه بها الله، وكما جاء هذا القسم بشيء من صفات الملك الذي حمل هذا الوحي، جاء بشيء من صفات النبي والرسول الخاتم الذي حمل إليه الوحي الخاتم فقال ربنا –تبارك وتعالى– مخاطبا أهل مكة: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ*وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ* وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ* فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ* لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ) (التكوير: 22– 29).
والمقصود بتعبير "صاحبكم" هو سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم– والذي عرفت فيه قريش كل صفات الحمد فوصفته قبل بعثته الشريفة بالصادق الأمين، فلما جاءهم بالحق الذي أوحي إليه تقولوا عليه الأقاويل من وصف بالسحر والشعوذة إلى الجنون وقول الشعر، وهم يعرفون فيه رجاحة العقل، وصدق القول، وأمانة الكلمة وانضباط السلوك.
ولقد رأى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- جبريل -عليه السلام- رأى العين فى الصورة التى خلقه الله -تعالى- عليها له ستمائة جناح،"بالأفق المبين"أي البين الواضح، وهي الرؤية الأولى التى وقعت في بطحاء مكة، وجاء وصفها في مطلع سورة "النجم"، وفى قوله -تعالى- (وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وما هو بكاذب على الغيب، أو بخيل به لأنه يبذله للخلق أجمعين، فقد كان القرآن غيبا فأنزله الله –تعالى– على خاتم أنبيائه ورسله، فما ضن به هذا الرسول الخاتم على أحد، بل بلغه ونشره، وبذل حياته كلها من أجل التبليغ عن ربه سبحانه وتعالى.
وفى قوله -تعالى-:(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) تأكيد على أنه لا ينبغي للشيطان الرجيم أن يحمل هذا القرآن الكريم، وجاء ذلك ردا على كفار قريش الذين اتهموا النبي الكريم كذبا بأن شيطانا يتنزل عليه بما يقول، وجاء هذا الافتراء منهم كيدا له وحسدا، أو عجبا ودهشة من هذا القول الذي فاق كل وصف فى الفصاحة والبلاغة وجمال النظم ودقته، تماشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد، وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد، وانصرفوا عن التعليل الوحيد الصادق أنه وحي من رب العالمين.
وفى السؤال القرآنى:(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) خطاب لكفار قريش ولكل منكر للوحي بالقرآن الكريم إلى قيام الساعة، ومعني التساؤل: أين تذهب عقولكم فى تكذيبكم بهذا القرآن الكريم؟ مع وضوح حجته وصدق محتواه، ومع عظم الفارق بينه وبين كلام البشر مما يشهد له بأنه حقا كلام الخالق –سبحانه وتعالى– فى صفائه الرباني وإشراقاته النورانية، ومن معاني هذا التساؤل الاستنكاري التوبيخي:أين تذهبون عن كتاب الله وعن طاعته؟ أي: أين تذهبون في حكمكم وقولكم منصرفين عن هذا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ ويرد عليهم ربنا -تبارك وتعالى-بحكمه القاطع:(إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) أي: إن هذا القرآن الكريم ذكر للخلق أجمعين الذين جمعهم الخالق –سبحانه وتعالى– في عدد من العوالمالتي يعرف الإنسان منها عوالم الإنس والجن والملائكة، وعوالم الحيوان والنبات، وعوالم الجمادات والسوائل والغازات، وغير ذلك من العوالم التى لا نعرفها، وهذا الذكر الحكيم جاء لكل هذه العوالم من أجل أن يُذكِّر كل مخلوق بحقيقة وجوده، وبتفاصيل رسالته في هذه الحياة وبمصيره من بعدها.
وهذا "الذكر الحكيم" ميسر لكل من يريد الهداية الى دين الله –تعالى– والاستقامة على شرعه ولذلك قال –تعالى-:(لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ)أي: أن يستقيم على هدى رب العالمين، خاصة في الأمور التي تقع في صميم الغيب المطلق أو الأوامر الإلهية المطلقة كالعقيدة والعبادة، وكلاهما لا سبيل للإنسان إليه إلا بوحي من الله –تعالى– وخاصة كذلك في الأمور التي هي من ضوابط السلوك كالأخلاق والمعاملات، والتاريخ يؤكد على عجز الإنسان دوما عن وضع ضوابط لسلوكه من تصوراته، ومن هنا كانت ضرورة الدين الذي ينذر دوما بأن من ينحرف عن طريق الله بعد إقامة الحجة عليه فلا عذر له ولا مبرر لاختياره.
وحرية الاختيار فى أمر الدين هى من أساليب الابتلاء للإنسان في هذه الحياة الدنيا، ليثبت جدارته بالخلود فى الجنة أو استحقاقه للخلود فى النار، وحرية الاختيار الإنسانى هي -على الرغم من ذلك- مرتبطة بالمشيئة الإلهية المطلقة، فإذا كان في علم الله الشامل أن فى إنسان ما شيئا من الخير، أعانه الله -تعالى- على الالتزام بالخير فيما يقول وما يعمل، وإذا ثبتت النوايا الخبيثة في إنسان ما تركه الله –تعالى– لاختياره الذي اختار، وحسابه على الله.
فإعطاء الإنسان حرية اختيار الدين الذي يدين به نفسه لله هو جزء من الأمانة التى حملها الإنسان باختياره، وإن لم يخرج ذلك عن مشيئة الله التى يُرَدُّ إليها كل أمر، ولذلك قال ربنا فى ختام هذه السورة المباركة -وهو أصدق القائلين-:(وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ).
من ركائز العقدية فى سورة "التكوير":
(1) الإيمان بالآخرة و بكل ما جاء عنها فى كتاب الله –تعالى– من علامات ومشاهد وأوصاف.
(2) اليقين في وحي السماء الذي حمله جبريل -عليه السلام- إلى خاتم الأنبياء والمرسلين كما حمل لجميع الأنبياء والمرسلين من قبل.
(3) التصديق ببعثة النبي والرسول الخاتم –صلى الله عليه وسلم– وبأنه كان موصولا بالوحي ومعلما من قِبَلِ خالق السماوات والأرض.
(4) التسليم بأن دين الله الذي علمه لأبينا آدم –عليه السلام– لحظة خلقه، وأنزله على سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين من بعده قد ختم بالرسالة المحمدية التى أصبحت ذكرا ودينا وهداية للعاملين.
(5)الرضا بأن حرية اختيار الدين مكفولة لكل عبد من عباد الله، يدين نفسه بالدين الذي يرتئيه، لأنه على أساس ذلك سيكون حسابه فى الآخرة، وهذا من صميم الأمانة التى عرضها الله –تعالى– على جميع خلقه(...فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ...) ولذلك قال -تعالى-: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ. لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) (التكوير: 27– 28).
(6)الإيمان بأن مشيئة الإنسان محصورة في دائرة إرادته، وهي داخله في دائرة قدر الله، أي أن مشيئة الإنسان المحدودة جدًّا داخلة في مشيئة الله الكبرى التى يرجع إليها كل أمر.
(7) أن الله –تعالى– هو رب العالمين، أي رب كل شيء، ومليكه،وخالقه، وحافظه، ومدبر أمره، ومسترجعه بعد حياته الدنيا أو وجوده فيها.
من الإشارات العلمية فى سورة "التكوير":
(1) الإشارة إلى أن من علامات الساعة تكور الشمس، والعلوم المكتسبة تثبت أن للشمس الحالية بروزات تتعدى أطوالها فى بعض الأحيان عدة آلاف من الكيلو مترات، وأن انسحاب تلك البروزات إلى داخل الشمس هو من علامات إنطفاء شدة التفاعلات النووية في داخل هذا النجم.
(2)وصف مرحلة من مراحل احتضار النجوم بالانكدار، وهو ما أثبتته العلوم المكتسبة مؤخرا.
(3)الإشارة إلى تسيير الجبال وقت تهدم النظام الكوني، والعلوم المكتسبة تشير إلى إمكانية ذلك.
(4)ذكر تسجير البحار في الآخرة، والعلوم المكتسبة تؤكد أن جميع محيطات الدنيا وأعدادًا من بحارها وقيعانها مسجرة تسجيرا حقيقيا بملايين الأطنان من الحمم المندفعة إلى تلك القيعان بواسطة الثورات البركانية.
(5) الإشارة بكشط السماء إلى بداية تهدم النظام الكوني.
(6) السبق العلمي بالإشارة إلى الثقوب السود بوصف "الخنس الجوار الكنس" وهو وصف أدق من الناحيتين اللغوية والعلمية فى التعبير عن تلك المرحلة من مراحل حياة النجوم التى لن تعرف إلا فى العقود المتأخرة من القرن العشرين.
(7) القسم بالليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، ولذلك فسوف أركز الحديث فى المقال القادم إن شاء الله –تعالى– على النقطة الأخيرة من القائمة السابقة فإلى ذلك الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في بدايات النصف الثاني من سورة "التكوير"، وهي سورة مكية، وآياتها تسع وعشرون (29) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بذكر تكور الشمس كواحدة من أربع عشرة علامة من علامات الساعة، ويدور المحور الرئيس لهذه السورة المباركة حول قضيتين أساسيتين من قضايا العقيدة الإسلامية، وهما: الإيمان بوحي السماء والتسليم بحتمية الآخرة، وقد سبق لنا استعراض سورة التكوير وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية، ونركز هنا على الدلالات اللغوية العلمية في الآيتين الكريمتين رقم (17)، (18) من هذه السورة المباركة واللتين اتخذناهما عنوانا لهذا المقال.
من الدلالات اللغوية للآيتين الكريمتين:
أولا: في قوله -تعالى-: (وَاللَّيْلِ ...):
(الليل) واحد بمعنى جمع، وواحدته (ليلة)، وقد جُمع على (ليالٍ) فزادوا فيها الياء لتصبح (ليالي) على غير قياس (كما فعلوا في كلمة أهل وأهالٍ فصيروها أهالي).وتُجمع لفظة (ليل) على (ليائل)، وتجمع لفظة (ليلة) على (ليلات) ويُقال: (ليل لائل) و(ليلة ليلاء) وأصلها (ليلاة) للتعبير عن طول الليل وشدة إظلامه، كذلك يقال: (لَايِلْهُ مُلَايَلَةً) أي: عامله (بالليلة) وذلك مثل قولهم (مُيَاوَمَة أي: باليوم)، و(الليل) هو الفترة الزمنية من اليوم الممتدة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق كما حدده القرآن الكريم بقول ربنا -تبارك وتعالى-:(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)(البقرة: 187).
وهذا هو تحديد الخالق -سبحانه وتعالى- وإن كان غير المسلمين يحددون النهار بالفترة بين شروق الشمس وغروبها، ويحددون الليل بالفترة الممتدة بين غروب الشمس وشروقها، وهم يعتبرون النهار سابقًا لليل، وربنا -تبارك وتعالى- يقرر أن الليل سابق للنهار، وذلك لأن الأصل في الكون الظلمة، ونور النهار نعمة يمن بها الخالق -سبحانه وتعالى- على عباده في نصف الأرض المواجه للشمس لارتفاع لا يتعدي مائتي كيلو متر فوق مستوى سطح البحر.
والواو في قوله -تعالى- "والليل"هي واو القسم، والله -تعالى- غني عن القسم لعباده، ولكن الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت بصيغة القسم يقصد بها تنبيهنا إلى أهمية الأمر المقسم به، وقد سبق لنا استعراض أهمية تبادل الليل والنهار من أجل استقامة الحياة على الأرض، ومن هنا جاء القسم بالليل.
ثانيا: في قوله -تعالى-:(... إِذَا عَسْعَسَ):
(العسعسة) و(العساس) رقة الظلام في طرفي الليل، وعلى ذلك فإن من معاني قوله -تعالى- (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) أي إذا أقبل وأدبر وذلك في أول الليل وآخره.و(العس)و(العسس) نَقْضُ الليل عن أهل الربية كما يفعل رجال الشرطة فيوصف الرجل منهم بوصف (عاسٌ) و(عَسَّاسٌ) والجمع (العَسَسُ).
ثالثا: في قوله -تعالى-:(وَالصُّبْحِ ...):
(الواو) هنا للقسم، و(الصبح) و(الصباح) و(الإصباح) هو أول النهار، ووقت احمرار الأفق بحاجب الشمس، أي بما يسبق طلوع الشمس من الأشعة تحت الحمراء، و(المصبح) موضع الإصباح ووقته أيضا.
و(الصبح) ضد المساء، وكذا (الصبيحة) ضد الأمسية، يقال: (أصبح) الرجل أي طلع عليه (الصبح)، ويقال: (صَبَّحَهُ) الله (تَصْبِيحًا) بنفس المعنى، وكمايقال: (صبحته) أي: قلت له: عِمْ صباحا أو أتيته (صبحا) أو سقيته (صبوحا)، و(الصَّبُوح)، شراب (الصباح) أو الغداة، وهو ضد الغبوق، و(الصَّبْحَانُ) هو (المصطبح)،و(اصطبح) أي شرب (صبوحا) فهو (مُصْطَبحٌ) و(صُبْحَانٌ) والمرأة (صَبْحَى)، و(أصبح) فلان عالما أي صار كذلك، ويقال: فلان ينام (الصَّبْحَةَ) -بفتح الصاد وضمها مع سكون الباء فيها- أي ينام حين (يصبح)، و(التصبيح) هو النوم بالغداة، و(المصباح) ما يسقى منه، ولذلك يقال للسراج (مصباح) لأنه مصدر الضوء، وجمع (المصباح) (مصابيح) فإذا أسرجه (استصبح) به، ويقال: (صبحتهم) ماء كذا أي: أتيتهم به (صباحا).
والصبح كذلك شدة حمرة في الشعر تشبيها (بالصبح) و(الصباح) ويقال: (صَبُحَ) فلان فهو (صبيح) أي: وَضُؤَ من الوَضَاءَةِ أو (الصَّبَاَحةِ) وهي الملاحة والجمال.
رابعا: في قوله –تعالى-:(...إِذَا تَنَفَّسَ):
(إذا) اسم يُعَبَّرُ به عن كل زمان مستقبل ولا يستعمل إلا مضافا لجملة، وقد يُضَمَّنُ معنى الشرط، كما تكون للشيء توافقه في حالة أنت فيها.
(تنفس) أي استنشق الهواء وأخرجه، و(النَّفَسُ) واحد (الأنفاس) وهي الرياح الداخلة والخارجة إلى الرئتين ومنها، وبدونها تنقطع الحياة، يقال (تنفس) الرجل أي استنشق الهواء وأخرجه، و(تنفس) الصعداء أي فرج الله عنه كربه حتى استراح، وكل ذي رئة (مُتَنَفِّس)، و(تنفس) الصبح أي تَبَلَّجَ، و(تنفس) النهار عبارة عن توسعه أى: امتداده إلى الظهيرة.
من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين
أولًا: في قوله -تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ):
قيل في الفعل (عسعس) إنه مكون من مقطعين: عس، عس وهو من أفعال الأضداد أو من الأفعال المشتركة في المعنى، لأن من معانيه: أقبل ظلامه أو أدبر، وفي القسم بإقبال الليل وإدباره إشارة ضمنية رقيقة إلى كل من كروية الأرض، ودورانها حول محورها أمام الشمس، فلو لم تكن الأرض كرة، ولو لم تكن تلك الكرة تدور حول محورها أمام الشمس ما أقبل ظلام الليل ولا أدبر.
وهذه الإشارة الضمنية الرقيقة إلى هاتين الحقيقتين العلميتين من حقائق الأرض، وهما: كرويتها ودورانها حول محورها أمام الشمس، هي من الدلالات القاطعة على صدق القرآن الكريم، وعلى سلامته من أي نقص خاصة وقد نزل في زمن سادت الخرافات والأساطير، وغلبت على أذهان الناس، فرأوا في الحركة الظاهرية للشمس أن الأرض ثابتة والشمس هي التى تدور من حولها، ورأوا في أبعاد الأرض الكبيرة شهادة على انبساطها وعدم تكورها، ولم تثبت كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس إلا بعد تنزل القرآن الكريم بعدد من القرون المتطاولة، وهذا السبق القرآني بأعداد من الحقائق العلمية هو ما يعرف باسم "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم".
ثانيًا: في قوله -تعالى-: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) :
التنفس عملية حيوية يأخذ فيها كل من الإنسان والحيوان غاز الأكسجين من الهواء الجوى ليتم بواسطته أكسدة الدم الفاسد المتحرك إلى الرئتين، وذلك في عملية (الشهيق) التى تتمدد فيها الرئتان تمددًا ملحوظًا، ثم يخرج الغازات السامة من مثل غاز ثاني أكسيد الكربون ومعه بعض بخار الماء وذلك في عملية (الزفير) التى تنكمش فيها الرئتان انكماشا واضحًا، وهذه الآية الكريمة تشبه عملية تمدد نطق الغلاف الغازي للأرض مع بدء طلوع الشمس حتى غروبها، ثم انكماشها مع غياب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق بعملية تنفس الأحياء من أمثال كل من الإنسان والحيوان وهو تشبيه معجز خاصة وأن نطق الحماية في الغلاف الغازي للأرض لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
نطاق الغلاف الغازي للأرض:
تحاط الأرض بغلاف غازي يقدر سمكه بعدة آلاف من الكيلومترات، ويتناقص فيه الضغط مع الارتفاع من كيلو جرام واحد على السنتيمتر المكعب تقريبا (1.0336 كج/سم3) عند مستوى سطح البحر إلى قرابة الصفر عند ارتفاع ستين كيلومترًا فوق مستوى سطح البحر.
وعموما تحوى المسافة من سطح البحر إلى ارتفاع 35 كيلومترات على حوالى 99% من كتلة الغلاف الغازى للأرض المقدرة بحوالي خمسة آلاف مليون مليون طن، ويقسم هذا الغلاف الغازي للأرض على أساس من درجة حرارته إلى عدة نطق من أسفل إلى أعلى على النحو التالي:
(1) نطاق التغيرات الجوية ](نطاق المناخ أو نطاق الرجع) (The Troposphere):[
ويمتد من مستوى سطح البحر إلى ارتفاع (16كيلومترات) فوق خط الاستواء، ويتناقص سمكه إلي حوالي عشرة كيلو مترات فوق قطبي الأرض، وإلى حوالي (7– 8كيلومترات) فوق خطوط العرض الوسطى وعندما تغيب الشمس فوق تلك المناطق يتقلص هذا السمك تقلصا ملحوظا،ويحتوى هذا النطاق على حوالي 80% من كتلة الغلاف الغازي للأرض، وعلى جميع مابه من بخار ماء.
وعندما يتحرك الهواء من خط الاستواء في اتجاه القطبين فإنه يهبط فوق هذا المنحنى الوسطي فتزداد سرعته، ثم إن حركة الأرض في دورانها حول محورها من الغرب إلى الشرق تجبر كتل الهواء على التحرك تجاه الشرق بسرعة فائقة على هيئة تيار هوائي يعرف باسم التيار النفاث (The Jet Stream)، وينخفض الضغط الجوى في قمة نطاق الرجع إلى عُشر ضغطه عند مستوى سطح البحر، كما تنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق باستمرار مع الارتفاع بمعدل 10درجات لكل كيلومتر ارتفاع إذا كان الهواء جافا، و6.5درجة للهواء المشبع ببخار الماء حتى تصل إلى (-60°م) في قمته فوق خط الاستواء، وذلك نظرًا للابتعاد عن سطح الأرض الذي يعمل على تدفئة هذا النطاق بعد غياب الشمس، فسطح الأرض يمتص حوالي 47% مما يسقط عليه من أشعة الشمس فترتفع درجة حرارته أثناء النهار، وعند غياب الشمس تبدأ صخور الأرض في إعادة إشعاع الحرارة التى امتصتها على هيئة أشعة تحت حمراء إلى الغلاف الغازي للأرض، خاصة إلى ما به من جزيئات ثاني أكسيد الكربون وقطيرات الماء المعلقة في السحب فترد السحب 98% من تلك الأشعة على هيئة "رجع حراري" لولاه لتجمدت الأرض بما عليها من مختلف صور الحياة بمجرد غياب الشمس، ويحد هذا النطاق من أعلى سطح افتراضي يعرف باسم سطح توقف نطاق المناخ(Tropopause) ينتهى عنده فيض الحرارة المنسابة من سطح الأرض.
(2) نطاق التطابق أو التطبق (The Stratosphere):
ويمتد من فوق نطاق التغيرات الجوية إلى حوالي (50كم) فوق مستوى سطح البحر، وترتفع فيه درجة الحرارة من (-60°م) إلى الصفر المئوي في قمته، وفي قاعدة هذا النطاق توجد طبقة أو نطيق الأوزون(The ozone layer or the ozonosphere)، وتمتد من ارتفاع (20) كيلو متر حتى (45) كيلو متر في المتوسط، وينتهي هذا النطاق عند سطح افتراضي ينتهي عنده التأثير الحرارى لطبقة الأوزون، ويعرف باسم خط توقف نطاق التطبق(Stratopause).
(3) النطاق المتوسط (The Mesosphere):
ويمتد من فوق خط توقف نطاق التطابق إلى ارتفاع يتراوح بين (80كم، 90كم) فوق مستوى سطح البحر، وتنخفض فيه درجة الحرارة إلي (- 120م).
(4) النطاق الحراري (The Thermosphere):
ويمتد من فوق النطاق المتوسط إلى عدة مئات من الكيلو مترات فوق مستوى سطح البحر، وترتفع درجة الحرارة فيه باستمرار إلي (500°م) عند ارتفاع (120كم) فوق مستوى سطح البحر، وتبقى ثابتة عند هذا الحد إلى أكثر من (600كم) ثم تقفز إلى (1500°م) في فترات نشاط البقع الشمسية، وفي أجزاء من هذا النطاق تتأين جزيئات الغلاف الغازي بفعل أشعة الشمس خاصة الأشعتين السينية وفوق البنفسجية، ولذا يعرف باسم النطاق المتأين (The Ionosphere).
(5) النطاق الخارجي (The Exosphere):
يعرف الجزء الخارجي من النطاق الحراري باسم النطاق الخارجي (The Exosphere) ويقل فيه الضغط والحرارة بشكل ملحوظ،حتى تصل إلى قرابة الصفر المطلق، ولايحده إلا نهاية النطاق المغناطيسي للأرض.
(6) النطاق المغناطيسي للأرض (The Magnetosphere):
ويمتد من مستوى سطح البحر إلى عشرات الآلاف من الكيلومترات فوق هذا المستوى، وعند قمته تتوقف آثار مغناطيسية الأرض وينتهي الغلاف الغازي للأرض الذي هو خليط من غازات الأرض ودخان السماء، وهذا النطاق يحمي الأرض من الأشعة الكونية المتجهة نحو الأرض وما يمسك به من هذه الأشعة يكون أحزمة الإشعاع، وفي النظام المغناطيسي يتضاءل الضغط، وترتفع درجات الحرارة بشكل كبير،ويصل متوسط ارتفاع هذا النطاق إلى (64.000كم) فوق مستوى سطح البحر.
(7) أحزمه الإشعاع (The Radiation Belts):
وهي عبارة عن زوجين من الهلالية الشكل التي تحيط بالأرض، مع زيادة ملحوظة في السُّمك حول خط الاستواء، ورقة شديدة عند القطبين، وهذه الأحزمة مليئة بالبروتونات والنيترونات، وهو مشحون أساسا بالبروتونات والإليكترونات التى يصطادها المجال المغناطيسي للأرض من الأشعة الكونية المتساقطة من الفضاء الكوني في اتجاه الأرض، ويتركز الزوج الداخلي من هذه الأحزمة حول ارتفاع (3200كم) فوق مستوى سطح البحر، وهو مشحون أساسا بالإليكترونات، بينما يتركز الزوج الخارجي من هذه الأحزمة حول ارتفاع (25 ألف) كيلو متر فوق مستوى سطح البحر، ويفصل هذين الحزامين منطقة خالية من الإشعاع.
هذه النطق المكوِّنة للغلاف الغازي للأرض تبدأ في التمدد مع بزوغ الفجر الصادق لتصل إلى أقصى درجات تمددها في وقت الظهيرة، ثم تبدأ في الانكماش حتى الغروب لتصل إلى أدنى سُمك لها مع دخول الليل، وهذه الحركات من التمدد والانكماش تشبه عمل الرئة في مرحلتي الشهيق والزفير، ولذلك عبر عنها القرآن الكريم بالتنفس، فقال -تعالى:(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير:18).
ونطق الغلاف الغازي للأرض لم تُكتشف بالكامل إلا بعد ريادة الفضاء في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين (سنة1958م)، ولم يثبت تمددها مع طلوع الشمس وانكماشها عند الغروب إلا بعد قياسات عديدة استغرقت جهود مئات من العلماء لعشرات من السنين حتى تأكدوا من ذلك، وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلى هذه الحقيقة الكونية من قبل ألف وأربعمائة سنة -حتى ولو جاء ذلك في مقام التشبيه- لما يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، في نفس لغة وحيه (اللغة العربية)، وحفظه حفظًا كاملا على مدى يزيد على أربعة عشر قرنا، وتعهد بهذا الحفظ تعهدًا مطلقا حتى يبقى القرآن الكريم حجة على الخلق أجمعين إلى قيام الساعة بأنه كلام رب العالمين في صفائه الرباني، وإشراقاته النورانية، وصدقه في كل ما جاء به، ويبقى هذا السبق القرآني بالعديد من حقائق الكون أيضا حجة على الخلق أجمعين بصدق نبوة النبي والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، وذلك لأن العلوم المكتسبة لم تصل إلى معرفة نُطُق الغلاف الغازي للأرض بالكامل إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، ولم تعلم شيئا عن تمددها مع طلوع الشمس وانكماشها عند الغروب إلا بعد مجاهدة العديد من العلماء لعشرات من السنين إلى نهاية القرن العشرين، وفي هاتين الآيتين الكريمتين يبلغ الإعجاز اللغوي والعلمي مداه في اختيار لفظة (الصبح) للتعبير عن هذه الظاهرة الجوية فقال ربنا -تبارك وتعالى-: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير:18)، وذلك لأن تمدد نطق الغلاف الغازي للأرض يكون في أعلى درجاته مع بداية الصبح إلي الظهيرة، ثم يأخذ فى التناقص و الانكماش بعد ذلك إلى لحظة الغروب حين يصل سمك هذه النطق إلى أدنى مستوياته، وهذا يدل على الدقة العلمية البالغة في القرآن الكريم والدالة على صدق وحيه وعلى صدق النبي الخاتم الذي تلقاه، فالحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هديه ودعا بدعوته إلي يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.