من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
(أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) (النبأ 6، 7)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
استضاءةً بمفهوم تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض وصلت الدراسات الحديثة في هذا المجال إلى أن الأرض بدأت بمحيط غامر، ثم بتصدع قاع ذلك المحيط وبدء تحرك الألواح الصخرية المكونة لذلك القاع متباعدة عن بعضها البعض في أحد أطرافها، ومصطدمة في الأطراف المقابلة، ومنزلقة عبر بقية الأطراف، نتج عند الأطراف المتصادمة أعداد من أقواس الجزر البركانية التي نمت بالتدريج إلى عدد من القارات بمزيد من تصادمها، فتمايزت ألواح الغلاف الصخري للأرض إلى الألواح المحيطية، وتلك القارية، وبتصادم ألواح قيعان المحيطات بكتل القارات تكونت سلاسل الجبال الشبيهة بجبال الإنديز على الحافة الغربية لأمريكا الجنوبية، وبتصادم ألواح القارات مع بعضها تكونت أعلى السلاسل الجبلية على سطح الأرض من مثل سلاسل جبال الهيمالايا التي نتجت عن اصطدام كتلة الهند بكتلة قارتي آسيا وأوروبا.
ومع تكون الأطواق والمنظومات والسلاسل والأحزمة الجبلية ومجموعاتها المعقدة، أصبح سطح الأرض على درجة من وعورة التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدأت عمليات التجوية والتحات والتعرية في بري تلك المجموعات الجبلية والأخذ من ارتفاعاتها باستمرار، وبنقل الفتات الصخري الناتج عن تلك العمليات إلى أحواض المحيطات والبحار بدأت دورة الصخور التي لا تزال تتكرر ملايين المرات إلى يومنا الراهن لتكسو منخفضات الأرض بالتربة اللازمة للإنبات والزراعة، ولتركز العديد من الثروات المعدنية، ولتزيد من ملوحة البحار والمحيطات حتى تجعلها صالحة لحياة البلايين من الكائنات الحية، ولتحفظ هذا الماء من الفساد، ولتركز معادن المتبخرات في صخور الأرض.
ولما كانت عمليات التجوية والتحات والتعرية تزيل كميات كبيرة من الصخور المكونة لمرتفعات سطح الأرض كان من ضرورات الاتزان الأرضي أن تتحرك الصهارة الصخرية تحت الغلاف الصخري للأرض لتعوض فقدان الكتل التي تمت تعريتها، ولتحقق الاتزان الأرضي بتعديل الضغوط في داخل الأرض، ويؤدي ذلك إلى رفع الجبال بطريقة تدريجية.
وباستمرار تفاعل تلك القوى المتصارعة من عمليات التجوية والتعرية المقترنة بعمليات تحرك الصهارة الصخرية تحت الغلاف الصخري للأرض وفي داخله، وعمليات رفع الجبال لتحقيق التوازن الأرضي لفترات زمنية طويلة فإنها تنتهي بإنقاص سُمك سلسلة الجبال إلى متوسط سمك لوح الغلاف الصخري الذي تتواجد عليه، وذلك بسحب جذور الجبال (الامتدادات الداخلية للجبال) من نطاق الضعف الأرضي ورفعها حتى تظهر على سطح الأرض، وبخروج جذور الجبال من نطاق الضعف الأرضي الذي كانت طافية فيه كما تطفو جبال الجليد في مياه المحيطات، فإن الجبال تفقد القدرة على الارتفاع إلى أعلى، وتظل عوامل التعرية في بريها حتى تسويها بسطح الأرض تقريبا، وحينئذ تنكشف جذور الجبال، وبها من الثروات المعدنية ما لا يمكن أن يتواجد إلا تحت مثل ظروف أوتاد الجبال التي تتميز بقدر هائل من الضغط والحرارة.
وعلى هذا النحو فإن الجبال قد لعبت -ولا تزال- دورا مهما في بناء قارات الأرض، وفي الزيادة المستمرة لمساحة تلك القارات بإضافة الكتل الجبلية إلى حواف تلك القارات بطريقة مستمرة، ومعنى ذلك أن كل قارات الأرض بدأت بسلاسل من أقواس الجزر البركانية في وسط المحيط الغامر، وأن باصطدام تلك الجزر تكونت القارات على هيئة أطواف ومنظومات وسلاسل وأحزمة جبلية معقدة، وأن تلك المرتفعات جعلت سطح الأرض على درجة من وعورة التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدأت سلسلة من الصراع بين العمليات الأرضية الداخلية البانية للجبال والرافعة لها، والعمليات الهدمية الخارجية التي تبريها وتعريها، وفي نهاية هذا الصراع تنتصر العوامل الهدمية الخارجية فتسوي الجبال، وتخفض من ارتفاعاتها بالتدريج في محاولة للوصول بها إلى مستوى سطح البحر، ولذلك فإن كل سهول ومنخفضات اليابسة الحالية كانت في يوم من الأيام جبالا شاهقة، ثم برتها عوالم التجوية والتحات والتعرية حتى أوصلتها إلى مستوياتها الحالية، وأن الكتل الصخرية القديمة التي تعرف باسم الرواسخ (أو المجن) وهي كتل مستقرة نسبيا موجودة في أواسط القارات ما هي في الحقيقة إلا جذور السلاسل الجبلية القديمة التي تم بريها.
هذه العمليات المعقدة من الصراع بين القوى البانية في داخل الأرض والقوىالهدمية من خارجها هي التي أدت -بتخطيط من الخالق سبحانه وتعالى)-إلى بناء القارات، ورفعها فوق مستوى البحار والمحيطات على هيئة مجموعات من أطواف ومنظومات وسلاسل وأحزمة جبلية شاهقة ظلت تضاف إلى بعضها البعض بانتظام وبطء لتزيد من مساحة القارات، التي كانت في بادئ الأمر جبلية وعرة، لا تسمح وعورتها بعمرانها، ثم بدأت عوامل التعرية في الأخذ من تلك الجبال الشاهقة بالتدريج حتى حولتها إلى السهول الواسعة، والهضاب، والنجود المنخفضة، والأودية المحفورة، والرواسخ الثابتة التي تشكل أواسط القارات اليوم حتى وصلت الأرض إلى صورتها المناسبة للعمران بواسطة الإنسان، ولذلك يمن علينا ربنا -تبارك وتعالى- بتمهيد الأرض، ويلوم المنكرين للبعث بتوجيه هذا اللون من الاستفهام التقريري، التوبيخي، التقريعي الذي يقول فيه الحق -تبارك وتعالى-: "ألم نجعل الأرض مهادا"؟ أي ألم نجعل لكم الأرض فراشا موطأ كالمهد لتمكينكم من الاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها، والانتفاع بما أودعناه لكم فيها؟ كما أشار صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن -رحمه الله- لأن الأرض لو بقيت جبالا شاهقة الارتفاع، متشابكة التضاريس، معدومة الممرات والمسالك، لما أمكن العيش على سطحها، فسبحان الذي أنزل هذه اللفتة القرآنية الباهرة في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين، وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين!
والجبال أوتادا في منظور العلوم الحديثة:
من الأمور المشاهدة أن سطح الأرض ليس تام الاستواء، وذلك بسبب اختلاف التركيب الكيميائي والمعدني، وبالتالي اختلاف كثافة الصخور المكونة لمختلف أجزاء الغلاف الصخري للأرض، فهناك قمم عالية للسلاسل الجبلية، وتنخفض تلك القمم السامقة إلى التلال، ثم الروابي أو الربى (جمع ربوة أو رابية)، أو الآكام (جمع أكمة)، أوالنتوءات الأرضية، ثم الهضاب أو النجود (جمع نجد)، ثم السهول، ثم المنخفضات الأرضية والبحرية.
ويبلغ ارتفاع أعلى قمة على سطح الأرض (وهي قمة جبل إفرست) في سلسلة جبال الهيمالايا 8840 مترا تقريبا فوق مستوى سطح البحر بينما يقدر منسوب أخفض نقطة على سطح اليابسة (وهي حوض البحر الميت) بحوالي 395 مترا تحت مستوى سطح البحر، ويقدر متوسط منسوب سطح اليابسة بنحو 840 مترا فوق مستوى سطح البحر، ويبلغ منسوب أكثر أغوار المحيطات عمقا 10800 متر (وهو غور ماريا نوس في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين) بينما يبلغ متوسط أعماق المحيطات نحو أربعة كيلو مترات (3729 - 4500 متر) تحت مستوى سطح البحر.
ويبلغ الفارق بين أعلى قمة على اليابسة وأخفض نقطة في قيعان المحيطات 8840 + 10،800= 19640 مترا (أي أقل قليلا من عشرين كيلو متر) وهذا الفارق بين أعلى قمة على سطح اليابسة وأخفض نقطة في أغوار قيعان البحار العميقة والمحيطات إذا قورن بمتوسط نصف قطر الأرض والمقدر بنحو 6371 كيلو متر، فإن النسبة لا تكاد تتعدى 0،003 -%، وهذه النسبة الضئيلة تلعب دورا مهما في معاونة عوامل التعرية المختلفة على بري صخور مرتفعات الأرض، وإلقاء الفتات الناتج عنها في المنخفضات في دورات متعاقبة تعمل على تسوية سطح الأرض، وتكوين التربة، وتركيز الخامات المعدنية، وجعل الأرض صالحة للعمران كما سبق أن أسلفنا، كذلك فإن الأدلة العلمية التي تراكمت على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين تشير إلى أن الغلاف الصخري للأرض في حالة توازن تام، وإذا تعرض هذا التوازن إلى الاختلال في أية نقطة على سطح الأرض فإن تعديله يتم مباشرة؛ ومن هذه الأدلة أن القشرة الأرضية تنخفض إلى أسفل على هيئة منخفضات أرضية عند تعرضها لأحمال زائدة، وترتفع إلى أعلى على هيئة نتوءات أرضية عند إزالة تلك الأحمال عنها، ويتم ذلك بما يسمى باسم التضاغط والارتداد التضاغطي، الذي يتم من أجل المحافظة على الاتزان الأرضي، ومن أمثلة ذلك ما ينتج عن تجمع الجليد بسُمك كبير على اليابسة ثم انصهاره، أو عند تخزين الماء بملايين الأمتار المكعبة أمام السدود ثم تصريفه، أو بتراكم ملايين الأطنان من الترسبات أمام السدود، ثم إزالتها، أو بتساقط نواتج الثورات البركانية العنيفة حول عدد من فوهات البراكين ثم تعريتها.
ففي العهد الحديث بدأت في الانصهار تراكمات الجليد السميكة التي كانت قد تجمعت على بعض أجزاء اليابسة من نصف الكرة الشمالي منذ نحو المليوني سنة (خلال واحد من أكبر العصور الجليدية التي مرت بها الأرض)، ونتيجة لذلك بدأت الأرض بالارتفاع التدريجي في مناطق الانصهار التدريجي للجليد لتحقيق التوازن التضاغطي للأرض، وهو من سنن الله فيها، وقد بلغ ارتفاع الأرض بذلك 330 مترا في منطقة خليج هدسون في شمال أمريكا الشمالية، ونحو المائة متر حول بحر البلطيق حيث لا يزال ارتفاع الأرض مستمرا.
وأمام كثير من السدود التي أقيمت على مجاري الأنهار تسببت بلايين الأمتار المكعبة من المياه وملايين الأطنان من الرسوبيات التي تجمعت أمام تلك السدود في حدوث انخفاضات عامة في مناسيب المنطقة، وزيادة ملحوظة في نشاطها الزلزالي، يفسر ذلك بأن ألواح الغلاف الصخري المكونة للقارات (والتي يتراوح سُمك كل منها بين المائة والمائة وخمسين كيلو متر) يغلب على تركيبها صخور ذات كثافة منخفضة نسبيا، بينما يغلب على تركيب ألواح الغلاف الصخري المكونة لقيعان البحار والمحيطات صخور ذات كثافة عالية نسبيا (ولذلك لا يتجاوز سُمك الواحد منها سبعين كيلو متر فقط).
وكل من ألواح الغلاف الصخري القارية والمحيطية يطفو فوق نطاق الضعف الأرضي الأعلى كثافة وهو نطاق لدن (مرن)، شبه منصهر، عالي اللزوجة ولذلك فهو يتأثر بالضغوط فوقه ويتحرك استجابة لها، وبالمثل فإن قشرة الأرض المكونة لكتل القارات يتراوح سمكها بين 30 و40 كيلو متر تقريبا ويغلب على تركيبها الصخور الجرانيتية والتي تغطي أحيانا بتتابعات رقيقة ومتفاوتة السمك من الصخور الرسوبية (ومتوسط كثافة الصخور الجرانيتية يبلغ 2،7 جرام للسنتيمتر المكعب) بينما يتراوح سمك قشرة الأرض المكونة لقيعان البحار والمحيطات بين5 و8 كيلو مترات فقط، ويغلب على تركيبها الصخور البازلتية التي قد تتبادل مع الصخور الرسوبية أو تتغطى بطبقات رقيقة منها (ويبلغ متوسط سمك الصخور البازلتية 2،9 جرام للسنتيمتر المكعب)، لذلك تطفو كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات.
وبنفس هذا التصور يمكن تفسير الاختلاف في تضاريس سطح الأرض على أساس من التباين في كثافة الصخور المكونة لكل شكل من أشكال تلك التضاريس، فالمرتفعات على سطح اليابسة لابد وأن يغلب على تكوينها صخور أقل كثافة من الصخور المحيطة بها، ومن ثم فلابد وأن يكون لها امتدادات من صخورها الخفيفة نسبيا في داخل الصخور الأعلى كثافة المحيطة بها، ومن هنا كان الاستنتاج بأن الجبال لابد لها من جذور عميقة تخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل لتطفو في نطاق الضعف الأرضي، وهنا تحكمها قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات.
وقد أيدت قياسات عجلة الجاذبية الأرضية هذا الاستنتاج بإشارتها إلى قيم أقل من المفروض نظريا في المناطق الجبلية، وإلى قيم أعلى من المفروض في المنخفضات الأرضية وفوق قيعان البحار والمحيطات، ويعتبر انكشاف جذور الجبال القديمة في أواسط القارات مما يثبت حدوث عمليات إعادة التعديل التضاغطي في الغلاف الصخري للأرض.
وبفهم دورة حياة الجبال ثبت أن كل نتوء أرضي فوق مستوى سطح البحر له امتداد في داخل الغلاف الصخري للأرض يتراوح طوله بين10 و15 ضعف ارتفاعه، وكلما كان الارتفاع فوق مستوى سطح البحر كبيرا تضاعف طول الجزء الغائر في الأرض امتدادا إلى الداخل، وعلى ذلك فإن قمة مثل إفرست لا يكاد ارتفاعها فوق مستوى سطح البحر يصل إلى تسعة كيلو مترات (8848 مترا) لها امتداد في داخل الغلاف الصخري للأرض يزيد عن المائة والثلاثين كيلو مترا، يخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل ليطفو في نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق شبه منصهر، لدن أي مرن، عالي الكثافة واللزوجة، تحكمه في ذلك قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات، فكلما برت عوامل التعرية قمم الجبال ارتفعت تلك الجبال إلى أعلى، وتظل عملية الارتفاع تلك حتى يخرج جذر الجبل من نطاق الضعف الأرضي بالكامل، وحينئذ يتوقف الجبل عن الحركة، ويتم بريه حتى يصل سمكه إلى متوسط سمك اللوح الأرضي الذي يحمله، وبذلك يظهر جذر الجبل على سطح الأرض، وبه من الثروات الأرضية ما لا يمكن أن يتكون إلا تحت ظروف استثنائية من الضغط والحرارة لا تتوفر إلا في جذور الجبال.
فسبحان الذي وصف الجبال من قبل ألف وأربعمائة سنة (بالأوتاد) وهي لفظة واحدة تصف كلا من الشكل الخارجي للجبل، وامتداده الداخلي ووظيفته، لأن الوتد أغلبه يدفن في الأرض، وأقله يظهر على السطح، ووظيفته التثبيت، وقد أثبتت علوم الأرض في العقود المتأخرة من القرن العشرين أن هكذا الجبال، بعد أن ظل وصف الجبال إلى مشارف التسعينيات من القرن العشرين مقصورا على أنها مجرد نتوءات فوق سطح الأرض، واختلفوا في تحديد حد أدني لارتفاع تلك النتوءات الأرضية اختلافا كبيرا، وفي السبق القرآني بوصف الجبال بأنها أوتاد تأكيد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض حيث لم يكن لأحد من البشر إلمام بامتدادات الجبال الداخلية إلا بعد نزول الوحي بالقرآن بأكثر من اثني عشر قرنا، فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.