من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (البقرة: 183) (2)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الثاني من سورة البقرة، وهي سورة مدنية، وآياتها (286) بعد البسملة، وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى تلك المعجزة الحسية التي أجراها ربنا -تبارك وتعالى- على يدي عبده ونبيه موسى بن عمران -على نبينا وعليه من الله السلام- حين تعرض شخص من قومه للقتل، ولم يعرف قاتله حتى يقتص منه، فأوحى الله -تعالى- إلى نبيه موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة، وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله -تعالى- ليخبر عن قاتله ثم يموت، وذلك إحقاقا للحق، وشهادة لله -سبحانه وتعالى- بالقدرة على إحياء الموتى.
ويدور المحور الرئيس لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي -دون إغفال لركائز العقيدة الإسلامية- مع استعراض لصفات كل من المؤمنين والمنافقين والكافرين، وتلخيص لقصة خلق الإنسان ممثلا في شخص أبوينا آدم وحواء -عليهما السلام-، وإشارة إلى عدد من أنبياء الله ورسله، وتناول لمواقف أهل الكتاب بشيء من التفصيل الذي استغرق أكثر من ثلث هذه السورة الكريمة التي ختمت بإقرار حقيقة الإيمان وبدعاء إلى الله -تعالى- يهز العقل والقلب والروح معا.
من الدلالات الإنبائية في الآية الكريمة:
في قوله -تعالى- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) [البقرة:183] إنباء بحقيقة تاريخية لم تكن معروفة في زمن الوحي، فقد كتب الله-تعالى- صيام شهر رمضان على كل أمة خلت كما كتب على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- صيام هذا الشهر الفضيل تماما بتمام، وفي ذلك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر مرفوعا).
وإذا كان صيام شهر رمضان قد فرض على كل مسلم بالغ، عاقل، صحيح، مقيم، وذلك تعظيما لهذا الشهر الكريم الذي اختاره الله -تعالى- بعلمه وحكمته وقدرته من بين شهور السنة لإنزال القرآن الكريم فيه، فإن أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تؤكد أن جميع ما نعلم من أصول الكتب السماوية السابقة قد أنزل في شهر رمضان، ومن هنا كان لزاما على جميع المؤمنين بالأصول السماوية لهذه الكتب أن يعظموا هذا الشهر الفضيل بصيامه تماما كما نصومه نحن المسلمين، أي بالإمساك عن جميع أنواع المفطرات من الفجرالصادق إلى غروب الشمس، فقد روى الإمام أحمد عن وائلة بن الأسقع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".
والثابت أن القرآن الكريم نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل بعد ذلك مفرقا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحسب الوقائع على مدى ثلاث وعشرين سنة كما روى ابن عباس - رضي الله عنهما-.
ولما كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية المنزلة هداية للبشرية فقد تعهد ربنا -تبارك وتعالى- بحفظه فقال -عز من قائل-:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).
وقد جاءت الإشارة إلى الصوم عموما فيما بقي من الكتب السماوية السابقة، وهذا مما يؤكد على وحدة رسالة السماء، وعلى الأخوة بين الأنبياء، وعلى وحدة الجنس البشري التي يقررها القرآن الكريم بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1).
ويؤكدها قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ" (قَالَ الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ).
ومما جاء في العهدين القديم والجديد ما يلي:
- جاء في "العهد القديم" (مز 35 / 13) ما نصه:
"أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع".
- وجاء في "العهد الجديد" (أعمال 13 / 2) ما نصه:
"وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس: أفرزوا لي (برنابا) و (شاول) للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذ وصلُّوا، ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما".
- وجاء في (أعمال 14 / 23) ما نصه:"وانتخبا لهم قسوسا في كل كنيسة ثم صليا بأصوام واستودعناهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به...".
وانطلاقا من ذلك فإن في قول ربنا -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183] تأكيد على وحدة رسالة السماء، وعلى صدق القرآن الكريم في كل ما جاء به، وتأكيد على صدق نبوة الرسول الخاتم الذي تلقى القرآن الكريم عن ربه الكريم، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.