news-details
الإعجاز التشريعي

"وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ‏" (الحجر: 14، 15)

"وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ‏" (الحجر: 14، 15)

من أسرار القرآن

مقالات جريدة الأهرام المصرية

بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار

هاتان الآيتان الكريمتان وردتا في سياق الحديث عن عناد كفار قريش ومكابرتهم لخاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم‏-‏ وتكذيبهم ببعثته‏،‏ وتشكيكهم في الوحي الذي أنزل إليه من ربه‏،‏ واتهامهم له بالجنون‏،‏ وهم أعرف الناس بأنه -‏صلى لله عليه وسلم‏-‏ كان أرجح الناس عقلا‏،‏ وأعظمهم خُلُقا‏،‏ وأشرفهم نسبا‏،‏ ولذلك نزلت الآيات في مطلع سورة الحجر لتشيد بالقرآن الكريم‏،‏ ولتهدد هؤلاء الجاحدين بمشهد يوم عظيم يعانون فيه أهوال الآخرة، فيتمنون لو كانوا في الدنيا قد أسلموا لرب العالمين‏،‏ وآمنوا ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏،‏ وبآيات هذا الكتاب المبين‏،‏ وبيوم البعث الذي كانوا به ينذرون‏.‏

       وليهوِّن القرآن الكريم على هذا النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم‏-‏ صلف هؤلاء المتكبرين، تطلب منه الآيات القرآنية أن يدعهم في غيهم يأكلون ويتمتعون‏،‏ ويشغلهم الأمل بطول الأجل عن التفكير فيما سوف يلقونه من عذاب مهين في الدنيا قبل الآخرة‏،‏ وذلك جزاء كفرهم وعنادهم وكبرهم‏.‏

       وهذا التهديد والوعيد من الله‏ -‏تعالى‏- لهؤلاء المجرمين من الكفار والمشركين‏،‏ يتبعه تذكير بمصائر غيرهم من الأمم السابقة عليهم‏،‏ وبأن الله -‏تعالى‏- لم يهلك أيًّا من تلك القرى الظالمة التي كذبت بآياته ورسله؛ إلا لأنه جعل لهلاكها أجلًا محددًا‏.‏

       وتذكر الآيات تحديات كفار قريش لرسول الله‏ -‏صلى الله عليه وسلم‏- واستهزائهم به‏،‏ و استنكارهم لشرف بعثته؛ حتى طلبوا منه أن يأتيهم بالملائكة ليشهدوا له بصدق نبوته‏،‏ فيرد الحق‏ -‏تبارك وتعالى‏-‏ عليهم أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق‏،‏ وأن من هذا الحق أن يدمر المكذبون بآيات الله ورسله بعد أن جاءتهم نذر ربهم‏.‏

       ثم تؤكد تلك الآيات الكريمة على أن الله -تعالى- هو الذي أنزل القرآن العظيم‏،‏ وأنه -تعالى- قد تعهد بحفظه فحُفظ‏،‏ فلا يمكن لمحاولة تحريف أن تطوله‏،‏ ولا لمؤامرة تبديل أن تصيبه‏،‏ مهما حاول المحرفون‏،‏ وتضافر المتآمرون‏، وهذا الحفظ الرباني لآخر الكتب السماوية وأتمها وأكملها‏،‏ لهو بحق أعظم المعجزات المبهرة لهذا الكتاب الخالد‏،‏ وعلى الرغم من ذلك كله فقد كذب به هؤلاء المعاندون‏،‏ كما يكذب به نفر من كفار هذا الزمان الرديء و مشركيه و ملاحدته‏.‏

       ومن قبيل تهوين الأمر على خاتم الأنبياء والمرسلين‏ -‏صلى الله عليه وسلم-‏ وعلى أتباعه الصالحين في زماننا وفي كل زمان، تذكره الآيات وتذكرهم أنه‏ -‏صلى الله عليه وسلم‏-‏ لم يكن متفردًا بجحود قومه‏،‏ وتكذيبهم‏،‏ ومكابرتهم‏،‏ وعنادهم‏،‏ واستهزائهم‏،‏ فقد سبقه من الأنبياء والمرسلين من تعرضوا لذلك وأشد منه‏،‏ فاستحقت أقوامهم المكذبة عقاب الله في الدنيا قبل الآخرة‏، ومن الغريب أن الجاحدين من الخلق‏‏ الذين أشركوا بالله‏ أو كفروا به‏ -‏سبحانه‏- وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، في كل زمان ومكان‏،‏ لم يكن لينقصهم الدليل المنطقي على قبول وحي السماء‏،‏ وما فيه من آيات بينات، ولكنه الصلف والعناد والمكابرة في مقابلة الحق‏،‏ ومواجهة كل حجة أتتهم‏،‏ وكل بينة جاءتهم‏،‏ تمامًا‏ كما كان موقف كفار قريش من خاتم الأنبياء والمرسلين‏ -صلى الله عليه وسلم‏-‏ ومما أُنزل إليه من قرآن كريم‏،‏ فتصور لنا الآيات في مطلع سورة الحجر نموذجًا صارخًا لمكابرة أهل الباطل وعنادهم في مواجهة الحق‏،‏ وذلك بقول ربنا‏ -‏تبارك وتعالى-:‏ "وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ"‏ (الحجر:14، 15)، بمعنى أنه حتى لو فتح الله‏ -تعالى-‏ على هؤلاء المكابرين بابًا من السماء‏،‏ وأعانهم على الاستمرار بالعروج فيه بأجسادهم وكامل حواسهم‏،‏ حتى يطلعوا على بديع صنع الله في ملكوته‏،‏ وعلى عظيم قدرته في إبداع خلقه‏،‏ وعلى اتساع سلطانه وملكه‏،‏ وعلى حشود الخاضعين له بالعبادة والطاعة والتسبيح في خشية وإشفاق بَالغَيْن‏،‏ لشكُّوا في تلك الرؤية المباشرة‏،‏ ولكذبوا أبصارهم وعقولهم وباقي حواسهم‏،‏ ولاتهموا أنفسهم بالعجز التام عن الرؤية تارة‏،‏ وبالوقوع تحت تأثير السحر تارة أخرى‏،‏ وذلك في محاولة لإنكار الحق من فرط مكابرتهم وصلفهم وعنادهم‏.

       وعلى الرغم من كون (لو) حرف امتناع لامتناع‏،‏ وكون هاتين الآيتين الكريمتين قد وردتا في مقام التشبيه والتصوير لحال المكابرين من الكفار والمشركين وعنادهم وصلفهم‏،‏ إلا أن صياغتهما قد جاءت -كما تجيء صياغة كل آيات القرآن الكريم- على قدر مذهل من الدقة العلمية، والشمول للحقيقة الكونية، والكمال المطلق، مما يشهد بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته‏،‏ وأن خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله‏ -‏صلوات الله وسلامه عليه‏-‏ كان موصولًا بالوحي‏،‏ ومعلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض‏ -سبحانه وتعالى-‏.‏

       وأحاول في هذا المقال عرض عدد مما استطعت إدراكه من ملامح الإعجاز العلمي في هاتين الآيتين الكريمتين على النحو التالي‏:‏
‏(1)‏ اللمحة الإعجازية الأولى‏:‏

       وقد وردت في قول الحق‏ -تبارك وتعالى-:‏ "وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ"مما يؤكد أن السماء ليست فراغًا كما كان يعتقد الناس إلى عهد قريب‏،‏ حتى ثبت لنا أنها بنيان محكم‏،‏ يتعذر دخوله إلا عن طريق أبواب تفتح للداخل فيه‏.‏ و(السماء) لغةً‏،‏ هي‏:‏ كل ما علاك فأظلك‏،‏ و اصطلاحًا،‏ هي‏:‏ ذلك العالم العلوي الذي نراه فوق رؤوسنا بكل ما فيه من أجرام، وعلميًّا، هي: كل ما يحيط بالأرض من مختلف صور المادة والطاقة بدءًا من غلافها الغازي‏،‏ وانتهاءً بحدود الكون‏،‏ والذي أدرك العلماء منه مساحة يبلغ قطرها ‏24‏ ألف مليون سنة ضوئية على الأقل (أي حوالي ‏228×2110‏ كيلو متر‏)،‏ و حصوا فيه أكثر من مائتي ألف مليون مجرة أمثال مجرتنا المعروفة باسم سكة التبانة‏ -‏أو درب اللبانة‏- والتي حصى العلماء فيها حوالي مليون مليون نجم كشمسنا‏،‏ والكون فوق ذلك دائم الاتساع إلى نهاية لا يعلمها إلا الله‏ -سبحانه وتعالى-.‏

       وقد ثبت مؤخرًا أن السماء مليئة بمختلف صور المادة والطاقة التي انتشرت بعد انفجار الجرم الكوني الأول، ‏(والذي كان يضم كل مادة الكون‏،‏ ومختلف صور الطاقة المنبثَّة في أرجائه اليوم‏)‏، وذلك عند تحوله من مرحلة الرتق إلى مرحلة الفتق كما يصفهما القرآن الكريم‏،‏ ويقدر علماء الكون أن ذلك قد حدث منذ فترة تقدر بحوالي العشرة بلايين من السنين على أقل تقدير.‏

       وعند انفجار ذلك الجرم الكوني الأول تحولت مادته ومختلف صور الطاقة المخزونة فيه إلى سحابة هائلة من الدخان ملأت فسحة الكون‏،‏ ثم أخذت في التبرد والتكثف بالتدريج حتى وصلت إلى حالة من التوازن الحراري بين جسيمات المادة و فوتونات الطاقة‏،‏ وهنا تشكلت بعض نوى الإيدروجين المزدوج‏ -‏الديوتريوم‏-‏ وتبع ذلك تخلق النوى الذرية لأخف عنصرين معروفين لنا، وهما الأيدروجين و الهيليوم‏،‏ ثم تخلق نسب ضئيلة من العناصر الأثقل وزنًا.‏

 

       وبواسطة دوامات الطاقة التي انتشرت في سحابة الدخان التي ملأت أرجاء الكون تشكلت السدم،وهي أجسام غازية في غالبيتها‏،‏ تتناثر بين غازاتها بعض الهباءات الصلبة‏،‏ وتدور المادة فيها في دوامات شديدة تساعد على المزيد من تكثفها في سلسلة من العمليات المنضبطة حتى تصل إلى مرحلة الاندماج النووي التي تكون النجوم بمختلف أحجامها‏،‏ وهيئاتها‏،‏ ودرجات حرارتها‏،‏ وكثافة المادة فيها‏،‏ ومنها النجوم العادية أو نجوم النسق الأساسي المفردة والمزدوجة‏،‏ والمستعرات شديدة الحرارة‏ -‏العمالقة الحمر والعمالقة الكبار‏- والنجوم البيضاء القزمة‏،‏ ومنها النجوم النيوترونية النابضات منها وغير النابضات(‏التي تصل كثافة المادة فيها إلى خمسين بليون طن للسنتيمتر المكعب‏)،‏ وأشباه النجوم‏(‏التي تقل كثافة المادة فيها عنها في شمسنا)، ومنها الثقوب السود (التي تصل كثافة المادة فيها إلى مائتي بليون طن للسنتيمتر المكعب‏)،‏ والثقوب الدافئة، وغير ذلك من أجرام السماء مما يشكل المجرات والتجمعات المجرية‏،‏ وغيرها من نظم الكون المبهرة‏.‏

       ومن أشلاء النجوم تكونت الكواكب والكويكبات‏،‏ والأقمار والمذنبات‏،‏ والشهب والنيازك‏،‏ والأشعات الكونية التي تملأ فسحة الكون بأشكالها المتعددة‏،‏ وغير ذلك مما لا نعلم من أسرار هذا الوجود‏.‏

       وقبل سنوات قليلة لم يكن أحد من الناس يعلم أن السماء على اتساعها ليست فراغًا،‏ ولكنها مليئة بالمادة على هيئة رقيقة للغاية‏،‏ تشكلها غازات مخلخلة يغلب على تركيبها غازا الإيدروجين و الهيليوم‏،‏ مع نسب ضئيلة جدًّا من الأوكسجين‏،‏ والنيتروجين‏،‏ والنيون‏،‏ وبخار الماء‏،‏ وهباءات نادرة من المواد الصلبة‏،‏ مع انتشار هائل للأشعات الكونية بمختلف صورها في مختلف جنبات الكون‏.‏ 

       ولقد كان السبب الرئيس لتصور أن الكون فراغ تام هو التناقص التدريجي لضغط الغلاف الغازي للأرض مع الارتفاع عن سطحها حتى لا يكاد يدرك بعد ألف كيلو متر فوق سطح البحر‏،‏ ومن أسباب زيادة كثافة الغلاف الغازي للأرض بالقرب من سطحها هو انطلاق كميات هائلة من بخار الماء وغازات عديدة أغلبها أكاسيد الكربون والنتروجين من جوفها أثناء تبرد قشرتها‏،‏ وعبر فوهات البراكين التي نشطت -ولا تزال تنشط- على سطحها، وقد اختلطت تلك الغازات الأرضية بالسحابة الغازية الكونية‏،‏ وساعدت جاذبية الأرض على الاحتفاظ بالغلاف الغازي للأرض بكثافته التي تتناقص باستمرار بالبعد عنها حتى تتساوى مع كثافة الغلالة الغازية الأولية التي تملأ أرجاء الكون وتندمج فيها‏.‏

       وعلى ذلك فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن السماء بناء محكم‏،‏ تملؤه المادة والطاقة‏،‏ و لا يمكن اختراقه إلا عن طريق أبواب تفتح فيه‏،‏ وهو ما أكده القرآن الكريم قبل ألف وأربعمائة سنة في أكثر من آية صريحة‏،‏ ومنها الآية الكريمة التي نحن بصددها"وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ .‏..‏"، وهي شهادة صدق على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق‏،‏ الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته‏،‏ وأنزل القرآن الكريم بعلمه الحق‏.‏
 

(2)‏ اللمحة الإعجازية الثانية‏:‏

       وتتضح من وصف الحركة في السماء بالعروج‏:‏"فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ" ‏والعروج لغةً: هو سير الجسم في خط منعطف منحنٍ‏،‏ فقد ثبت علميا أن حركةالأجسام في الكون لا يمكن أن تكون في خطوط مستقيمة‏،‏ بل لابد لها من الانحناء نظرًا لانتشار المادة والطاقة في كل الكون‏،‏ وتأثير كلٍّ من جاذبية المادة ‏-بأشكالها المختلفة‏-، والمجالات المغناطيسية للطاقة‏ -بتعدد صورها‏- على حركة الأجسام في الكون‏،‏ فأي جسم مادي مهما عظمت كتلته أو تضاءلت لا يمكنه التحرك في الكون إلا في خطوط منحنية، وحتى الأشعة الكونية على تناهي دقائقها في الصغر‏، وهي تتكون من اللبنات الأولية للمادة مثل البروتونات والنيوترونات والإليكترونات‏،‏ فإنها إذا عبرت خطوط أي مجال مغناطيسي فإن هذا المجال يحني مسار الشعاع بزاوية قائمة على مساره؛ ‏فانتشار كلٍّ من المادة والطاقة في الكون عبر عملية الفتق، وما صاحبها من انفجار عظيم كانت من أسباب تكوره‏،‏ وكذلك كان انتشار قوى الجاذبية في أرجاء الكون من أسباب تكور كل أجرامه‏،‏ وكان التوازن الدقيق الذي أوجده الخالق العظيم بين كلٍّ من قوى الجاذبية، والقوى الدافعة الناتجة عن عملية الفتق هو الذي حدد المدارات التي تتحرك فيها كل أجرام السماء‏،‏ والسرعات التي تجري بها في تلك المدارات، والتي يدور بها كلٌّ منهم حول محوره، ‏فعند انفجار الجرم الكوني الأول، انطلق كل ما كان به من مخزون المادة والطاقة بالقوة الدافعة الناتجة عن ذلك الانفجار العظيم‏ -‏عملية الفتق‏- والتي أكسبت كل صور المادة والطاقة المنطلقة إلى فسحة الكون طاقة حركة هائلة‏،‏ وجعلتها بذلك واقعة تحت تأثير قوتين متعارضتين، هما قوة التجاذب الرابطة بينها‏،‏ والقوة الطاردة الناتجة عن ذلك الانفجار الكوني‏،‏ والتوازن الدقيق بين هاتين القوتين المتعارضتين هو الذي يحفظ أجرام السماء في مداراتها‏،‏ ويجعلها تتحرك فيها حركة دائرية بخطوط منحنية باستمرار‏،‏ كما جعلها تدور حول محاورها بسرعات محددة، ودوران الأجرام السماوية حول محاورها وفي مداراتها يخضع لقانون يعرف باسم قانون بقاء التحرك الزاوي أو قانون العروج.
وينص هذا القانون على أن كمية التحرك الزاوي لأي جرم سماوي تقدر على أساس نسبة سرعة دورانه حول محوره إلى نصف قطره على محور الدوران‏،‏ وتبقى كمية التحرك الزاوي تلك محفوظة في حالة انعدام مؤثرات أخرى‏،‏ ولكن إذا تعرض الجرم السماوي إلى مؤثرات خارجية أو داخلية، فإنه سرعان ما يكيف حركته الزاوية في ضوء التغيرات الطارئة‏.‏

       فعلى سبيل المثال تزداد سرعة التحرك الزاوي للجرم كلما انكمش حجمه‏،‏ وكما سبق وأن ذكرنا فإن جميع الأجرام الأولية قد تكثفت مادتها على مراحل متتالية من سحابة الدخان الكوني التي نتجت عن انفجار الجرم الابتدائي الذي حوى كل مادة الكون وطاقته‏،‏ تاركة كميات هائلة من الغازات والغبار والأشعات الكونية‏،‏ وعلى ذلك فقد كانت الكواكب الابتدائية -على سبيل المثال- أكبر حجمًا بمئات المرات من الكواكب الحالية‏،‏ وكانت أرضنا الابتدائية مائتي ضعف حجم الأرض الحالية‏ -على الأقل‏- وهذه الكواكب الابتدائية أخذت في التكثف على مراحل متتالية حتى وصلت إلى صورتها الحالية، وبمثل عملية نشأة الكون تمامًا، وبالقوانين التي تحكم دوران أجرامه حول محاورها‏،‏ وفي مدارات لكل منها حول جرم أكبر منه تتم عملية إطلاق الأقمار الصناعية، ومراكب الفضاء من الأرض إلى مدارات محددة حولها‏،‏ أو حول أي من أجرام مجموعتنا الشمسية‏،‏ أو حتى إلى خارج حدود المجموعة الشمسية‏،‏ وذلك بواسطة قوى دافعة كبيرة تعينها على الإفلات من جاذبية الأرض‏،‏ مثل صواريخ دافعة تتزايد سرعتها بالجسم المراد دفعه إلى قدر معين من السرعة‏،‏ ولما كانت الجاذبية الأرضية تتناقص بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض‏،‏ فإن سرعة الجسم المرفوع إلى الفضاء تتغير بتغير ارتفاعه فوق سطح ذلك الكوكب‏،‏ وبضبط العلاقة بين قوة جذب الأرض للجسم المنطلق منها إلى الفضاء والقوة الدافعة لذلك الجسم -‏أي سرعته‏-‏ يمكن ضبط المستوى الذي يدور فيه الجسم حول الأرض‏،‏ أو حول غيرها من أجرام المجموعة الشمسية، أو حتى إرساله إلى خارج المجموعة الشمسية تمامًا،‏ ليدخل في أسر جرم أكبر يدور في فلكه‏.‏

       وأقل سرعة يمكن التغلب بها على الجاذبية الأرضية في إطلاق جرم من فوق سطحها إلى فسحة الكون تسمى باسم سرعة الإفلات من الجاذبية الأرضية‏،‏ وحركة أي جسم مندفع من الأرض إلى السماء لابد وأن تكون في خطوط منحنية، وذلك تأثرًا بكلٍّ من الجاذبية الأرضية‏،‏ والقوة الدافعة له إلى السماء‏،‏ وكلتاهما تعتمد على كتلة الجسم المتحرك‏،‏ وعندما تتكافأ هاتان القوتان المتعارضتان يبدأ الجسم في الدوران في مدار حول الأرض مدفوعًا بسرعة أفقية تعرف باسم سرعة التحرك الزاوي أو سرعة العروج.

       والقوة الطاردة اللازمة لوضع جرم ما في مدار حول الأرض تساوي كتلة ذلك الجرم مضروبة في مربع سرعته الأفقية -‏المماسة للمدار‏-‏ مقسومة على نصف قطر المدار‏ ت‏ المساوي للمسافة بين مركزي الأرض، والجرم الذي يدور حولها‏،‏ ولولا معرفة حقيقة عروج الأجسام في السماء لما تمكن الإنسان من إطلاق الأقمار الصناعية‏،‏ ولا استطاع ريادة الفضاء؛ فقد أصبح من الثابت أن كل جرم متحرك في السماء -مهما كانت كتلته- محكوم بكلٍّ من القوى الدافعة له وبالجاذبية، مما يضطره إلى التحرك في خط منحنٍ يمثل محصلة كلٍّ من قوى الجذب والطرد المؤثرة فيه‏،‏ وهذا ما يصفه القرآن الكريم بالعروج‏،‏ وهو وصف التزم به هذا الكتاب الخالد في وصفه لحركة الأجسام في السماء في خمس آيات متفرقات، وذلك قبل ألف وأربعمائة سنة من اكتشاف الإنسان لتلك الحقيقة الكونية المبهرة على النحو التالي‏:‏
‏(1)‏ "وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ" ‏(‏ الحجر‏:14)‏.
‏(2)‏ "يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ"‏(‏السجدة‏:5)‏.
‏(3)‏"يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ" ‏(‏سبأ‏:2)‏.
‏(4)‏ "وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ" (‏الزخرف‏:33)‏.
‏(5) "..‏. يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"(‏الحديد‏:4).
‏(6) ‏"مِنَ اللَّهِ ذِي المَعَارِجِ * تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"‏ (‏المعارج‏: 3، 4)‏.
‏(3)‏ اللمحة الإعجازية الثالثة‏:‏

       وقد وردت في قول الحق‏ -‏تبارك وتعالى-:‏ "لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ" (الحجر: 15).

       ومعنى سكِّرت أبصارنا: أُغلقت عيوننا وسُدت‏،‏ أو غُشيت وغُطِّيت لتُمنع من الإبصار‏،‏ وحينئذٍ لا يرى الإنسان إلا الظلام‏،‏ ويعجب الإنسان لهذا التشبيه القرآني المعجز الذي يمثل حقيقة كونية لم يعرفها الإنسان إلا بعد نجاحه في ريادة الفضاء منذ مطلع الستينيات من القرن العشرين، حين فوجئ بحقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس في غالبية أجزائه‏،‏ وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سُمكه مائتي كيلو متر فوق مستوى سطح البحر‏،‏ وإذا ارتفع الإنسان فوق ذلك فإنه يرى الشمس قرصًا أزرق في صفحة سوداء حالكة السواد‏،‏ لا يقطع حلوكة سوادها إلا بعض البقع الباهتة الضوء في مواقع للنجوم‏.‏

       وإذا كان الجزء الذي يتجلى فيه النهار على الأرض محدودًا في طوله وعرضه بنصف مساحة الكرة الأرضية‏،‏ وفي سُمكه بمائتي كيلو متر‏،‏ وكان في حركة دائبة دائمة مرتبطة بدوران الأرض حول محورها أمام الشمس‏،‏ وكانت المسافة بين الأرض والشمس في حدود المائة وخمسين مليون كيلو متر‏،‏ وكان نصف قطر الجزء المُدرَك من الكون يقدر باثني عشر بليون سنة ضوئية‏ -‏أي ما يساوي ‏114*2110‏ كيلو متر- اتضحت لنا ضآلة سُمك الطبقة التي يعمُّها نور النهار‏،‏ وعدم استقرارها لانتقالها باستمرار من نقطة إلى أخرى على سطح الأرض مع دوران الأرض حول محورها‏،‏ واتضح لنا أن تلك الطبقة الرقيقة تحجب عنا ظلام الكون‏،‏ خارج حدود أرضنا ونحن في وضح النهار‏،‏ فإذا جَنَّ الليل انسلخ منه النهار‏،‏ واتصلت ظلمة ليلنا بظلمة الكون‏،‏ وتحركت تلك الطبقة الرقيقة من النور لتفصل نصف الأرض المقابل عن تلك الظلمة الشاملة التي تعم الكون كله، ‏وتجلى النهار على الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض‏ (‏بسُمك مائتي كيلو متر فوق سطح البحر‏)‏ بهذا اللون الأبيض المبهج الذي هو نعمة كبرى من نعم الله على العباد‏، وتفسر بأن الهواء في هذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض له كثافة عالية نسبيًّا،‏ وأن كثافته تتناقص بالارتفاع حتى لا تكاد تدرك‏،‏ وأنه مشبع ببخار الماء، وبهباءات الغبار التي تثيرها الرياح من فوق سطح الأرض فتَعْلَق بالهواء‏،‏ وتقوم كلٌّ من جزيئات الهواء الكثيف نسبيًّا،‏ وجزيئات بخار الماء‏،‏ والجسيمات الدقيقة من الغبار بالعديد من عمليات تشتيت ضوء الشمس وعكسه حتى يظهر باللون الأبيض الذي يميز النهار كظاهرة نورانية مقصورة على النطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض في نصفها المواجه للشمس‏.‏

       وبعد تجاوز المائتي كيلو متر فوق سطح البحر، يبدأ الهواء في التخلخل لتضاؤل تركيزه‏،‏ وقلة كثافته باستمرار مع الارتفاع‏،‏ ولندرة كلٍّ من بخار الماء وجسيمات الغبار فيه؛ لأن نسبها تتضاءل كذلك بالارتفاع حتى تكاد تتلاشى‏،‏ ولذلك تبدو الشمس وغيرها من نجوم السماء بقعًا زرقاء باهتة في بحر غامر من ظلمة الكون؛ لأن أضواءها لا تكاد تجد ما يشتته أو يعكسه في فسحة الكون‏.‏

       فسبحان الذي أخبرنا بهذه الحقيقة الكونية قبل اكتشاف الإنسان لها بألف و أربعمائة سنة‏،‏ فشبَّه الذي يعرج في السماء بمن سكِّرت أبصاره فلم يعد يرى غير ظلام الكون الشامل‏،‏ أو بمن اعتراه شيء من السحر فلم يعد يدرك شيئا مما حواليه‏،‏ وكلا التشبيهين تعبير دقيق عما أصاب رواد الفضاء الأوائل حين عبروا نطاق النهار إلى ظلمة الكون فنطقوا بما يكاد أن يكون تعبير الآية القرآنية دون علم بها‏: "لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ"(الحجر:15).
‏(4)‏ اللمحة الإعجازية الرابعة‏:‏

       وتتضح في قوله -تعالى-‏: "فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ"؛ فالتعبير اللغوي (ظلوا) يشير إلى عموم الإظلام، وشموله، وديمومته بعد تجاوز طبقة النهار إلى نهاية الكون‏،‏ بمعنى أن الإنسان إذا عرج به إلى السماء في وضح النهار فإنه يفاجأ بظلمة الكون الشاملة تحيط به من كل جانب، مما يفقده النطق أحيانًا أو يجعله يهذي بما لا يعلم أحيانًا أخرى من هول المفاجأة‏.‏

       ومن الأمور التي تؤكد ظلمة الكون الشاملة أن باطن الشمسمظلم تمامًا، على الرغم من أن درجات الحرارة فيه تصل إلى خمسة عشر مليون درجة مئوية أو يزيد‏؛‏ وذلك لأنه لا ينتج فيه سوى الإشعاعات غير المرئية مثل أشعة جاما‏،‏ والأشعات فوق البنفسجية والسينية‏.‏
أما ضوء الشمس فلا يصدر إلا عن نطاقها الخارجي فقط، والذي يعرف باسم النطاق المضيء، ولا يُرى بهذا النور إلا في الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض‏،‏ وفي نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس‏،‏ فسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق‏:‏ "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏" (‏الشمس‏: 1-‏4).‏
‏(5)‏ اللمحة الإعجازية الخامسة‏:‏

       وتتضح في إشارة الآيتين الكريمتين إلى الرقة الشديدة لغلالة النهار، وذلك في قول الحق -تبارك وتعالى-:‏"وَلَوْ فَتَحْنَا ‏..‏. لَقَالُوا ‏..."‏ بمعنى أن القول بتسكير العيون‏،‏ وظلمة الكون الشاملة، تتم بمجرد العروج لفترة قصيرة في السماء‏،‏ ثم تظل تلك الظلمة إلى نهاية الكون‏،‏ وقد أثبت العلم الحديث ذلك بدقة شديدة‏،‏ فإذا نسبنا سُمك طبقة النهار إلى مجرد المسافة بين الأرض والشمس لاتضح لنا أنها تساوي‏200‏ كيلو متر/150،000،000‏ كيلو متر‏= 1/750،000‏ تقريبًا، فإذا نسبناها إلى نصف قطر الجزء المُدرك من الكون اتضح أنها لا تساوي شيئا البتة‏،‏ وهنا تتضح روعة التشبيه القرآني في مقام آخر يقول فيه الحق‏ -تبارك وتعالى-‏: "وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ"(‏يس‏:37)‏؛حيث شبَّه انحسار طبقة النهار البالغة الرقة من ظلمة كلٍّ من ليل الأرض، وليل السماء بسلخ جلد الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها‏،‏مما يؤكد أن الظلام هو الأصل في الكون‏،‏ وأن النهار ليس إلا ظاهرة نورانية‏،‏ عارضة‏،‏ رقيقة جدًّا،‏ لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض‏،‏ وفي نصفها المواجه للشمس في دورة الأرض حول نفسها أمام ذلك النجم‏،‏ وبتلك الدورة ينسلخ النهار تدريجيًّا من ظلمة كلٍّ من ليل الأرض، وحلكة السماء كما ينسلخ جلد الذبيحة عن جسدها‏.‏

       وفي تأكيد ظلمة السماء يقرر القرآن الكريم في مقام آخر قول الحق‏ -تبارك وتعالى‏-:‏ "أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا" (‏النازعات‏: 27‏-‏29).‏

       والضمير في أغطش ليلها عائد على السماء‏،‏ بمعنى أن الله -تعالى- قد جعل ليل السماء حالك السواد من شدة إظلامه‏،‏ فهو دائم الإظلام، سواء اتصل بظلمة ليل الأرض‏ -‏في نصف الكرة الأرضية الذي يعمه الليل‏-‏ أو انفصل عن الأرض بتلك الطبقة الرقيقة التي يعمها نور النهار‏-‏في نصف الأرض المواجه للشمس-فيصفه ربنا-‏تبارك وتعالى-‏ بقوله‏:‏ "وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا" أي أظهر ضوء شمس السماء لأحاسيس المشاهدين لها من سكان الأرض بالنور والدفء معًا في أثناء نهار الأرض‏،‏ و الضحى هو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر ضوؤها جليًّا للناس‏،‏ بينما يبقى معظم الكون غارقًا في ظلمة السماء‏.‏

       ويؤكد هذا المعنى قسم الحق‏ -تبارك وتعالى، وهو الغني عن القسم‏- بالنهار إذ يجلي الشمس، أي يكشفها ويوضحها، فيقول‏ -عز من قائل-:‏ "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا *‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا‏ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏" (‏الشمس‏: 1‏-‏4)‏.

       أي أن النهار هو الذي يجعل الشمس واضحة جلية لأحاسيس المشاهدين لها من سكان الأرض‏،‏ وهذه لمحة أخرى من لمحات الإعجاز العلمي في كتاب الله، تقرر أن ضوء الشمس لا يُرى إلا على هيئة النور في نهار الأرض‏،‏ وأن الكون خارج نطاق نهار الأرض ظلام دامس‏،‏ وأن هذا النطاق النهاري لابد أن به من الصفات ما يعينه على إظهار وتجلية ضوء الشمس للذين يشهدونه من أحياء الأرض‏.‏

       فسبحان الذي أنزل القرآن بالحق‏،‏ أنزله بعلمه‏،‏ وجعله معجزة خاتم أنبيائه ورسله‏،‏ في كل أمر من أموره‏،‏ وفي كل آية من آياته‏،‏ وفي كل إشارة من إشاراته‏،‏ وفي كل معنى من معانيه‏،‏ وجعله معجزة أبدية خالدة على مر العصور‏،‏ لا تنتهي عجائبه‏،‏ ولا يَخْلَق من كثرة الرد إلى أن يرث الله -تعالى- الأرض ومن عليها.

       وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي شرفه ربه-تبارك وتعالى-‏ بوصفه أنه لا ينطق عن الهوى فقال -‏عز من قائل-:‏ "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى‏ *‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى" (‏النجم‏: 3‏-‏5)‏.