(عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ...) (الجن: 26، 27) ج2
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في ختام سورة "الجن"، وهي سورة مكية، وآياتها ثمان وعشرون (28) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالإخبار عن استماع نفر من الجن لتلاوة من القرآن الكريم وتأثرهم بها، وإيمانهم بما جاء منها من حق، وبرب العالمين الذي أنزل القرآن الكريم، وتنزيهه -تعالى- عن الشريك والصاحبة والولد. وقد سبق لنا استعراض سورة "الجن" وما جاء فيها من ركائز العقيدة الإسلامية التي آمن بها صالحو الإنس والجن، وما احتوته من إشارات علمية، ونركز هنا على حقيقة الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
الغيوب في اللغة العربية:
(الغَيْبُ) -وجمعه (الغُيُوبُ)- ما غاب عنك أو عن حسِّك أو علمك، وهو مصدر الفعل (غَابَ) أي استتر عن العين. يقال: (غَابَ) (يَغِيبُ) (غَيْبَةً) و(غَيْبُوبَةً) و(غَياَبًا) و(غُيُوبًا) و(مَغِيبًا)، فهو (غَائِب)، وجمعه (غُيَّبٌ) (غُيَّابٌ) و(غَيَبٌ). ويقال للشيء (غَيْبٌ) و(غَائِب) بالنسبة إلى الإنسان؛ لأن الله - تعالى - لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.
والغيب كل ما لا يقع تحت حواس الإنسان، ولا تقتضيه بداية العقول، والإيمان به إنما هو إيمان بما يُعلَم عنه من إخبار الأنبياء -عليهم السلام-، وإنكاره يوقع المنكر في دوائر الكفر والإلحاد -أعاذنا الله منهما-.
و(المُغَايَبَة) هي خلاف المخاطبة. يقال (غَابَتِ) الشمس (غِيَابةً) أي اختفت عن الأنظار بهبوطها الظاهري بالنسبة لحركة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس.
و(الغَيَابَةُ) كل منهبط من الأرض، و(غَيَابَةُ) الجب: قعره، و(الغِيْبَةُ) أن يذكر الإنسان غيره بما فيه من عيب دون داعٍ منطقي مقبول لذلك، فإن كان صدقًا سمي (غَيْبَةً)، وإن كان كذبًا سمي بُهْتَانًا، والفعل من (الغِيبَة) يغتاب.
و(الغَابَةُ) هي الأَجَمَة، وجمعها (غَابٌ) و(غَاباَتٌ).
و(يَغْتَابُون) أي لا يحضرون ولا يشهدون،يقال: (تَغَيَّبَ) عني فلان، وجاء في الشعر (تَغَيَّبَنَى). وقول ربنا -تبارك وتعالى- في صفة النساء الصالحات أنهن (... حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ...)(النساء: 34)، أي لا تفعل كل واحدة منهن في غيبة الزوج ما يكرهه.
و(الغيب) إما أن يكون غيبًا نسبيًّا -أي يعرفه بعض الناس ولا يعرفه الآخرون- أو غيبًا مرحليًّا يغيب عن علم الناس في وقت من الأوقات -وإن كان احتمال الكشف عنه في مرحلة لاحقة بواسطة نَفَر من بني الإنسان هو أمر وارد، وهو ما يجري وراءه العلماء من أجل تحقيق الكشوف العلمية- أو أن يكون غيبًا مطلقًا لا يعلمه إلا الله -تعالى- ولا يطلع على شيء منه إلا من ارتضى من رسول.
الغيب في القرآن الكريم:
جاءت لفظة (الغَيْب) ثمانٍ وأربعين (48) مرة في القرآن الكريم، وجاءت بصيغة الجموع -(الغُيُوب)- أربع (4) مرات، وبكلٍ من صيغة (غيبة) و(غائبة) مرة (1) واحدة لكلٍ منها، وبصيغة (غائبين) ثلاث (3)مرات، وبلفظة (غيابة الجب) مرتين (2)، ومجموع ذلك تسع وخمسون (59) مرة.
ومن الآيات الدالة على الغيب المطلق من بين هذا العدد الكبير من الآيات نختار من أقوال ربنا -تبارك وتعالى- الآيات القرآنية التالية:
(1) (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُون وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 33].
(2) (... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ...) [آل عمران: 179].
(3) (قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَي...) [الأنعام: 50].
(4) (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59].
(5) (فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ) [يونس: 20].
(6) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ...) [هود: 123].
(7) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...) [النحل: 77].
(8) (... لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...) [الكهف: 26].
(9) (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ...) [النمل: 65].
(10) (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [النمل: 75].
(11) (...عَالِمِ الغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 3].
وجاءت إشارة الخالق -سبحانه وتعالى- إلى ذاته العلية في محكم كتابه بوصف (عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) عشر مرات، وبوصف (عَلَّامُ الغُيُوبِ) أربع مرات.
وهذه الآيات القرآنية الكريمة -وأمثالها كثير- تقطع بأن العلم بالغيوب المطلقة هو لله -تعالى- وحده، ولا يشاركه في ذلك أحد من خلقه إلا من ارتضى من رسول، فيطلعه بقدر ما يشاء من هذا الغيب؛ ليعينه بذلك على أداء رسالته.
من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم:
يدل هذا النص القرآني الكريم على أن الغيوب المطلقة هي في علم الله -تعالى- وحده، وأنه لا يُطلع أحدًا من خلقه على هذه الغيوب إلا من ارتضى من رسله الكرام، ويطلع من يصطفي منهم بالقدر الذي يعينه على إبلاغ رسالة ربه إلى قومه أو إلى الناس جميعًا كما هو الحال مع الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-.وتؤكد العلوم المكتسبة -في عصر التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه- على أن الإنسان محدود بنسبية قدرات حسه وعقله، وبنسبية مكانه في بقعة محددة من الأرض، وبنسبية زمانه -أي عمره- والعصر الذي خلق فيه. وبهذه الحدود الضيقة جدًّا لا يمكن للإنسان أن يَطَّلع على الغيب المطلق أبدًا، وقد اختص الله -سبحانه وتعالى- به ذاته العلية.
ضآلة الإنسان بالنسبة إلى الكون:
يقدر متوسط عمر الإنسان بحوالي خمسين سنة، بينما يعيش فوق صخور يقدر عمر أقدمها بخمسة آلاف مليون من السنين،وفي كون يقدر عمره بحوالي (15) إلى (20) مليونًا من السنين.
وأسرع حركة يدركها الإنسان هي حركة الضوء الذي يتحرك بسرعة تقدر بحوالي (300.000) كيلو متر في الثانية الواحدة، وبواسطة سرعة الضوء أمكننا قياس أبعاد أجرام السماء عنَّا، فثبت أن القمر يبعد عنَّا بأقل من 1.5 ثانية ضوئية في المتوسط، وأن الشمس تبعد عنَّا 8.33 دقيقة ضوئية، وأن الضوء يستغرق نصف يوم تقريبًا -12ساعةوثلاثين ثانية- ليفارق مجموعتنا الشمسية، ويستغرق4.3 سنة ليصل إلى الأرض من أقرب النجوم إلينا بعد الشمس -وهو نجم القنطورس الأدنى (الأقرب القنطوري)-، ويستغرق (150- 200) ألف سنة ليصل إلينا الضوء من "سحب ماجلان" أقرب المجرات إلينا، ويستغرق مليوني سنة ليصلنا من "مجرة المرأة المسلسلة". وهذا معناه أن الضوء ينقل إلينا صورة النجوم من قبل عدد من السنين مساوية لبعدها عنا، فالإنسان من على سطح الأرض لا يرى أيًا من النجوم، ولكن يرى أضواءً لها انبثقت عنها من مواقع كانت فيها تبعد عنَّا بعدد السنين الفاصلة بيننا وبين كلٍّ منها.
فإذا علمنا أن بمجرتنا -سكة التبانة أو درب اللبانة- أكثر من بليون نجم، ولكل نجم من هذه النجوم توابعه كما أن لشمسنا توابعها. وإذا علمنا أن رحلة مجموعتنا الشمسية حول مركز مجرتنا تستغرق (250) مليون سنة، وأن تاريخ الإنسان المدون لا يتعدى عشرة آلاف سنة، وأن أبعد "أشباه النجوم" عنا يصل إلى عشرة آلاف مليون سنة ضوئية، وأن قطر الجزء المدرك من الكون يصل إلى (24) بليون سنة ضوئية، وأن طول السنة يقدر بحوالي (9.5) مليون مليون كم. وإذا علمنا أن ما يعرفه الفلكيون في الجزء المدرك من السماء الدنيا يتراوح بين مائتي بليون وثلاثمائة بليون مجرة، وأن الحسابات الفلكية أثبتت أن كل ذلك لا يمثل إلا أقل من (10%) من كتلة الجزء المدرك من الكون والذي يتصور العلماء أغلبه من المواد المظلمة التي لا سبيل للإنسان في الوصول إلى معرفة كنهها.إذا علمنا كل ذلك أيقنَّا أن الإنسان في مجموعه معزول عزلًا كاملًا عن العديد من الغيوب المطلقة التي لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-.
من هنا كانت ومضة الإعجاز العلمي في قول ربنا -تبارك اسمه- (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ...) [الجن: 26، 27].
ومن هنا أيضًا ومضة الإعجاز السلوكي في نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إتيان الكُهَّان والعرافين في أقوال عديدة منها:
(1) "لا تَأْتُوا الْكُهَّانَ" (رواه الإمام أحمد في مسنده).
(2) "الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِن الْجِبْتِ" (رواه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده).
(3) "مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه من أئمة الحديث أحمد).
(4) وعن أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- قالت: سأل أناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكهان، فقال لهم: "لَيْسُوا بِشَيْءٍ"، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّي فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُون فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ" (رواه كلٌ من الإمامين البخاري ومسلم).
هذا هو حال الكهان والعرافين والبصارين وغيرهم من الكذبة الدجالين،ومن هنا تأتي الحقائق القرآنية المؤكدة على أن الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله -تعالى-، وتأتي أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشدَّدة في عدم إتيان الكهنة والسحرة والعرافين الذين يعبثون بعقول الناس ويعيثون في الأرض فسادًا بادعاء القدرة على معرفة الغيب والغيب لا يعرفه إلا الله -سبحانه وتعالى-.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام الذي بعثه الله -تعالى- بالحق ليظهره على الدين كله، ويطهر به الأرض من الكفر والشرك والضلال والدجل والخرافة، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.