"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ" (آل عمران: 97)
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
الحج يعني قصد مكة المكرمة لأداء عبادة الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وما يتبع ذلك من مناسك يؤديها كل مسلم، بالغ، عاقل، حر، مستطيع، ولو مرة واحدة في العمر؛ وذلك استجابة لأمر الله، وابتغاء مرضاته، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفرض من الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة، وحق لله –تعالى- على المستطيعين من عباده ذكورًا وإناثًا لقول الحق -تبارك وتعالى-:
"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ" (آل عمران:97).
والحج هو عبادة من أجلِّ العبادات وأفضلها عند رب العالمين بعد الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، وذلك لما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور"، أي الذي لا يخالطه إثم. (أخرجه الإمام أحمد).
وأصل(العبادة) الطاعة، و(التَّعَبُّد) هو التنسك. والطاعة المبنية على أساس من الطمأنينة العقلية والقلبية الكاملة لا تحتاج إلى تبرير، ولكن إذا عرفت الحكمة من ورائها أدَّاها العبد بإتقان أفضل، وكان سلوكه في أدائها أنبل وأجمل، خاصة أن من مآسي عصرنا الجلية ظاهرة المفاضلة بين العبادة والسلوك، مما يُفقد العبادة دورها في ترقيق القلب، وتهذيب النفس، وضبط السلوك، وزيادة الإحساس بمعية الله –تعالى-، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في أثناء أداء فريضة الحج، وذلك لشدة الزحام، ولمحدودية كلٍّ من الوقت والمكان، ولكثرة التكاليف الشرعية في هذه الفترة المحدودة، ولجهل القطاع الغالب من الناس بحقيقة هذه العبادة والحكمة من أدائها، ولكن إذا فُهمت الحكمة من أداء هذه الفريضة العظيمة أدَّاها العبد أحسن الأداء وأكمله، وأعان غيره من إخوانه على حسن أدائها، وذلك بحسن الفهم، والالتزام بالنظم، والإيثار على النفس، تقربًا إلى الله –تعالى- وتضرعًا، وحبًّا في عون عباد الله والمبادرة إلى نجدتهم، واعتبار ذلك من تمام أداء هذه العبادة التي يساويها خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وعليه وسلم- بالجهاد،وذلك بقوله الشريف: "جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج" (النسائي).
من مقاصد الحج:
لهذه الفريضة الإسلامية الجليلة حِكَم عديدة منها:
أولًا: تعريض كل من حَجَّ البيت -ولو لمرة واحدة في العمر- لكرامة أشرف بقاع الأرض في أشرف أيام السنة؛ فالله –تعالى- خلق كلًّا من المكان والزمان، وجعلهما أمرين متواصلين، فلا يوجد مكان بلا زمان، ولا زمان بلا مكان، وكما فضَّل الله بعض الرسل على بعض، وبعض الأنبياء على بعض، وبعض أفراد البشر على بعض، فضَّل -سبحانه وتعالى- بعض الأزمنة على بعض، وبعض الأماكن على بعض؛ فمن تفضيل الأزمنة جعل ربنا -تبارك وتعالى- يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وجعل شهر رمضان أفضل شهور السنة، وجعل الليالي العشر الأخيرة من هذا الشهر الفضيل أشرف ليالي السنة، وجعل أشرفها على الإطلاق ليلة القدر التي جعلها الله –تعالى- خيرًا من ألف شهر.
ومن بعد رمضان يأتي فضل أشهر الحج، ومن بعدها تأتي بقية الأشهر الحرم، ومن الأيام جعل ربنا -تبارك وتعالى- أشرفها العشرة أيام الأولى من شهر ذي الحجة، وجعل أشرفها على الإطلاق يوم عرفة، وفي ذلك يروى عن جابر -رضى الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة، فقال رجل: هن أفضل، أم عدتهن جهادا في سبيل الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: هن أفضل من عدتهن جهادًا في سبيل الله، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله -تبارك وتعالى- إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهلَ السماء فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعْثًا غُبْرا ضاحين. جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ يوم أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة. (رواه أبو يعلي، والبزار، وابن خزيمة، وابن حبان، واللفظ له)،ولذلك كان الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم.
ومن تفضيل الأماكن، فضل ربنا -تبارك وتعالى- مكة المكرمة وحرمها الشريف على جميع بقاع الأرض، ومن بعدها فضَّل مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدها فضَّل بيت المقدس، كما جاء في العديد من أحاديث رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- فإذا اجتمع فضل المكان وفضل الزمان، تضاعفت البركات والأجور إن شاء الله.
ومن هنا كان من حِكَم فريضة الحج -بالإضافة إلى كونها طاعة للأمر الإلهي- تعريض كل مسلم، بالغ، عاقل، حر، مستطيع،ذكرًا كان أو أنثى، ولو لمرة واحدة في العمر، لبركة أشرف بقاع الأرض "الحرم المكي الشريف" في بركة أشرف أيام السنة "الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة-" ولذلك قال –تعالى-:"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ" (آل عمران:97)، وقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-:"هذا البيت دعامة الإسلام، فمن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر، كان مضمونًا على الله، إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن ردَّه، ردَّه بأجر وغنيمة".
وروى كلٌّ من الإمامين البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".(أخرجه الإمامان البخاري ومسلم).
وروى كلٌّ من الإمامين الترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة".
ثانيًا: تذكير الحاج بمرحلية الحياة، وبحتمية الرجوع إلى الله -تعالى-:
على الرغم من حقيقة الموت الذي كتبه الله –تعالى- على جميع خلقه والذي يشهده أو يسمع به كل حي في كل لحظة، وعلى الرغم من إيماننا -نحن معشر المسلمين- بحتمية البعث والحساب والجزاء، ثم الخلود في الحياة القادمة، إما في الجنة أبدًا أو في النار أبدًا، وهي من الأصول الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم وروتها أحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- فإن دوامة الحياة ومشاغلها تكاد تنسي الناس هذه الحقائق التي هي من صلب الدين، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى-:
"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ" (آل عمران:185).
"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء:35).
"الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ" (الملك:2).
وعلى الرغم من أن الموت ليس انتهاءً إلى العدم المحض والفناء التام؛ لأن الروح لا تبلى، بل تصعد إلى بارئها، ويبلى الجسد ويتحلل، وتبقى منه فضلة يعاد بعثه منها، وهي عجب الذنب كما سماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن الموت يبقى مصيبة -كما سماه القرآن الكريم- ويبقى الأخطر من مصيبة الموت غفلة الناس عنه، وإعراضهم عن ذكره، وقلة تفكرهم فيه، وانصرافهم عن العمل له، وانشغالهم بالدنيا حتى أنستهم إياه أو كادت.
وهنا تأتي شعيرة الحج لتخرج الناس من دوامة الحياة -ولو لفترة قصيرة- وتذكرهم بحتمية العودة إلى الله -تعالى- على النحو التالي:
(أ) هناك أعمال إجرائية عديدة قبل القيام برحلة الحج منها ما يلي:
(1) التوبة إلى الله –تعالى- من الذنوب والمعاصي، وفي ذلك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائةمرة" (صحيح مسلم).
(2)وصل كل مقطوع من صلات الرحم لقوله -صلوات الله وسلامه عليه-: "الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" (الترمذي).
(3) قضاء الديون ورد المظالم وغير ذلك من حقوق العباد، وفي ذلك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلل منه اليوم، من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" (البخاري).
(4) أن تكون النية بالحج خالصة لله –تعالى- في صدق وإخلاص تامَّين، ومتجردة عن كل هوى وسمعة، وفي ذلك يقول خاتم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (رواه كلٌّ من الإمامين البخاري ومسلم).
وقال : "أخلص دينك يكفك العمل القليل" (الإمام الحاكم).
(5) الحرص على أن تكون نفقات الحج من أحل حلال المال.
(6) الحرص على تسديد زكاة المال قبل الخروج بالحج.
(7) كتابة الوصية وتوضيح كافة الحقوق فيها.
وفي إتمام هذه الأعمال تهيئة للنفس تهيئة كاملة لعملية مفارقة الحياة الدنيا، والرجوع إلى الله –تعالى- والاستعداد لحساب القبر وجزائه، ثم للبعث والحشر والعرض الأكبر، وتلقي الحساب والجزاء، ثم الخلود في الحياة الآخرة، إما في الجنة أبدًا، أو في النار أبدًا.
(ب) وهناك أعمال تنفيذية أثناء الحج منها ما يلي:
(1)غسل الإحرام يذكر الحاج بغسله ميتًا وهو لا يملك لنفسه شيئًا بين أيدي مغسله، وهو رمز للتطهر من الذنوب والآثام.
(2) والإحرام يذكر الحاج بالخروج من الدنيا بلا أدنى زينة أو ملك، كما يذكره بالكفن الذي سوف يُلف فيه جسده بعد تغسيله.
(3) والنية عهد بين العبد وربه.
(4) الوقوف عند الميقات يذكر الحاج بأجله الذي حدده الله –تعالى- له، والذي يقول فيه:
"وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا" (آل عمران:145)، والانتقال من الحِلَّ إلى الحرم عبر الميقات يذكر بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة عبر الموت، والتلبية نداء إلى الله، واستنجاد برحمته، واحتماء بحماه.
(5)والطواف حول الكعبة المشرفة يذكر بضرورة الانتظام مع حركة الكون في خضوعه لأوامر الله –تعالى- وانصياعه لقوانين هذا الخالق العظيم وسننه في عبادة وذكر دائمين، كما أن بداية الطواف ونهايته تؤكدان بداية الأجل ونهايته، وهي حقيقة يغفل عنها كثير من الناس حتى يفاجئهم الموت وهم أصفار الأيادي من الحسنات، فخسروا الدنيا والآخرة. والرَّمَل والاضطباع في طواف القدوم إحياء لسنة خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-.
(6) والصلاة في مقام إبراهيم تذكر بجهاد الأنبياء والمرسلين، وبمقام الصالحين عند رب العالمين.
(7)والشرب من ماء زمزم يؤكد قدرة رب العالمين التي لا حدود لها، ولا عائق يقف في سبيلها من أجل إكرام عباده الصالحين.
(8) والسعي بين الصفا والمروة يذكر بأم إسماعيل -عليه السلام- وهي تركض بين هذين الجبلين؛ بحثًا عن الماء لصغيرها، ونتيجة لإخلاصها، ولثقتها في ربها أكرمها الله –تعالى- بجبريل يضرب بجناحه، أو بعقبه فيفجر ماء زمزم من صخور مصمتة لا مسامية لها.
(9)والنفرة إلى منى ثم إلى عرفات تذكر بيوم البعث في زحامه وشدته.
(10)والوقوف بعرفات تذكر بالحشر وبالعرض الأكبر بين يدي الله –تعالى- وبالحساب.
(11)والمبيت بالمزدلفة يذكر بآلاف الأنبياء ومئات المرسلين الذين حجوا من قبل، والذين نزلوا بهذا المنزل؛ تأكيدًا على وحدة الدين، وعلى الأخوة بين أنبياء رب العالمين، وإحياءً لسنة خاتمهم أجمعين -صلى الله عليه وسلم- وبارك عليه وعليهم.
(12)والنحر والحلق أو التقصير يذكران بفداء الله لنبيه إسماعيل؛ إكرامًا لطاعته وطاعة أبيه إبراهيم -عليهما السلام- لأوامر رب العالمين، وإحياءً لسنة خاتم الأنبياء والمرسلين، ورمزًا للتطهر من الذنوب والآثام.
(13) ورمي الجمار تأكيد على حتمية انتصار العبد المؤمن على الشيطان في هذا الصراع، والرجم رمز لذلك الانتصار، وعهد مع الله –تعالى- على تحقيقه.
(14) والتحلل من الإحرام وطواف كلٍّ من الإفاضة والوداع رمز لانتهاء هذه الشعيرة العظمى، وعودة إلى دوامة الحياة من جديد بذنب مغفور، وعمل صالح مقبول، وتجارة مع الله –تعالى- لن تبور، ومن هنا كان واجب الحاج أن يبدأ مع ربه صفحة جديدة، إطارها الفهم الصحيح لرسالة الإنسان في هذه الحياة: عبدًا لله يعبده -سبحانه وتعالى- بما أمر، ويجاهد بصدق من أجل حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها، وإقامة دين الله وعدله على سطحها، والدعوة إلى هذا الدين بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة والمنطق السوي من أجل إنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس من عذاب نار جهنم.
(15)وجموع الحُجَّاج من كل عرق ولون وجنس ولغة يتحركون في موكب واحد لأداء هذه الفريضة الكبرى؛ تأكيدًا على وحدة الجنس البشري المنبثق من أب واحد وأم واحدة، هما آدم وحواء -عليهما من الله السلام- وتأكيدًا على وحدة رسالة السماء -وهي الإسلام العظيم- وعلى الأخوة بين الأنبياء، وعلى وحدانية رب السموات والأرض بغير شريك ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد، والخالق منزه تنزيهًا كاملًا عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
(جـ) وهناك أعمال إلزامية بعد أداء فريضة الحج منها ما يلي:
(1) الزهد في الدنيا والحرص على الآخرة؛ وذلك لأن الدنيا مهما طال عمر الإنسان فيها فإن نهايتها الموت، والآخرة خلود بلا موت، وهذه الحقيقة هي من أهم الدروس المستقاة من أداء شعيرة الحج، وليس معنى ذلك إهمال مسئوليات الإنسان في الدنيا؛ لأن الإنسان مطالب بالنجاح فيها ولكن ليس على حساب الآخرة.
(2) اليقين بأن الحج يطهِّر من الذنوب والآثام انطلاقًا من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (رواه كل من الإمامين البخاري ومسلم)، ولقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن العاص -رضى الله عنه- حين قدم لمبايعته: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟" (رواه الإمام مسلم)، وانطلاقًا من هذا اليقين، كان واجبًا على كل من أدَّى فريضة الحج الحرص الشديد على عدم الوقوع في معاصي الله.
(3) الحرص على أداء العبادات المفروضة في وقتها، وعلى الإتيان من النوافل قدر الاستطاعة.
(4) التمسك بطهارة النفس، واستقامة السلوك، وعفة اللسان، وغض البصر، والتحكم في الشهوات والرغبات والأهواء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، وصدق الحديث، ورقة التعامل مع الآخرين، والتواضع للخلق، وحسن الاستماع والاتباع،والاحتشام في الزى والهيئة، وإخلاص السرائر، واجتناب سوء الظن بالآخرين في الأحكام عليهم، والتوسط والاعتدال في كل أمر، والثبات على الحق، والمجاهدة من أجل نصرته، وتحمل تكاليف ذلك، والحرص على العمل الصالح، والتنافس فيه حتى يكون في سلوك الحاج قدوة حسنة لغيره.
(5) الحرص على التزوُّد من العلوم الشرعية، والتفقه في الدين، والالتزام بما يتعلمه؛ وذلك لأن الإسلام دين لا يُبنَى على جهالة، وإنما يُبنَى على علم والتزام. ومصادر الإسلام هي كتاب الله وسنة رسوله، وعلى كل مسلم أن يجتهد في التعرف على أوامر الله –تعالى- ويُلزِم نفسه وأهله بها، وفي التعرف على نواهيه فيجتنبها ويحاربها، فإن انغلق عليه أمر من الأمور فعليه بسؤال أهل الذكر كما قال ربنا -تبارك وتعالى-: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (النحل:43) (الأنبياء:7).
(6) الحرص على الكسب الحلال، وعلى طيب المَطْعَم والمشرب، وعلى البعد كلَّ البعد عن الشبهات والمحرمات.
(7) المواظبة على الصحبة الطيبة، وعلى التزام جماعة المسلمين، وعلى الولاء لهم، والبراء من غيرهم، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى- مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم-:
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" (الكهف: 28).
ويقول -عز من قائل-:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (آل عمران:102، 103).
(8) الاهتمام بقضايا المسلمين الكبرى، ومن أبرزها قضايا الأمية بشقيها -أمية القراءة والكتابة وأمية العقيدة- وقضايا الحريات وقضايا التخلف العلمي والتقني، وتفشي كلٍّ من الفقر والمرض.
(9) المساهمة الفعالة في الدعوة إلى دين الله بالكلمة الطيبة، والحجة الواضحة، والمنطق السوي.
(10) العمل على جمع كلمة المسلمين في وحدة كاملة-ولو على مراحل متتالية- كما حدث في الوحدة الأوروبية.
ثالثًا: الاستفادة بهذا المؤتمر الدولي الأول في تاريخ البشرية لمناقشة قضايا المسلمين بخاصة وقضايا الإنسانية بصفة عامة:
فالحج هو صورة من صور المؤتمرات الدولية، فهو مؤتمر جامع للمسلمين من مختلف بقاع الأرض، يجدون فيه توحُّدهم في عبادة إله واحد، لا شريك له في ملكه، ولا منازع له في سلطانه، ولا شبيه له من خلقه، ويتوحدون إلى قبلة واحدة، هي تلك البقعة المباركة التي بُنِيَت الكعبة عليها، ويتوحَّدون تحت راية القرآن الكريم الذي يقول عنه ربنا -تبارك وتعالى-: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر: 9)، ويتوحدون تحت لواء خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- وفي نور هديه وسنته، فتتلاشى في نور الإسلام العظيم كل فوارق العرق، واللون، واللغة، والوطن، ويتجسد معنى الأخوة الإسلامية في الله ولله، وهو من أعظم عناصر القوة في زمن التكتلات الذي نعيشه.
فما أحرى حكام الدول الإسلامية، ومستشاريهم، وعلمائهم، وأصحاب القرار فيهم أن يحرصوا على المشاركة في هذا المؤتمر الإسلامي الدولي مشاركة فعالة، يناقشون فيها مشاكلهم ومشاكل دولهم، ويتدارسون وسائل التعاون في مختلف أنشطة حياتهم تمهيدًا لتحقيق الوحدة الكاملة بينهم -ولو على مراحل متدرجة مدروسة- متخذين من تجربة الوحدة الأوروبية نموذجًا تطبيقيًّا لعملية التوحيد مع فارق الدوافع هنا وهنالك.
وما أحرى علماء الأمة الإسلامية، ومفكريها، وقادة الرأي من بين أبنائها، وإعلامييها أن يحرصوا على المشاركة في اجتماعات الحج، قبل أداء المناسك أو بعدها، أو في أيام التشريق لمناقشة أهم القضايا الشرعية والعلمية والإعلامية المختلفة التي تهم الأمة الإسلامية.
وما أحرى رجال الأعمال المسلمين أن يستغلوا فرصة الحج لمزيد من التعارف والتعاون والتكامل فيما بينهم،حتى تتوحد الأمة وتترابط في جسد واحد، ويبقى الحج بعد ذلك أعظم المؤتمرات الدولية للتعارف بين المسلمين، وتبادل الآراء والخبرات، والتشاور، والتنسيق، والتخطيط في مواجهة كل أمورهم ومشاكلهم وتحدياتهم ومختلف قضاياهم؛ وذلك من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي، والإداري، والإعلامي، والسياسي بينهم حتى ينتهي ذلك بوحدة كاملة على أسس راسخة مدروسة.
وكون ذلك يتم في جو من الروحانية العالية، والعبادة الخالصة، والقرب من الله –تعالى- والذكر الدائم لجلاله في أشرف بقاع الأرض وأشرف أيام السنة، يجعل من دواعي نجاح ذلك المؤتمر السنوي ما لا يمكن توافره لمؤتمر سواه، ولذلك قال –تعالى-:
"وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ" (الحج:26-30).
والمنافع التي يشهدها حُجَّاج بيت الله الحرام كثيرة جدًّا لو أحسن المسلمون الاستفادة بهذه العبادة المباركة التي تتم في أبرك بقاع الأرض عند أول بيت وضع للناس، وفي أفضل أيام السنة على الإطلاق،وهي العشر الأوائل من ذي الحجة.
ويخالط هذه العبادة الجليلة شيء من التعارف، والتواصل، والتعاون، والتنسيق والتكامل على مستوى الأفراد والمؤسسات والحكومات، وعلى ذلك فالحج فريضة تلتقي فيها الدنيا والآخرة، كما يلتقي فيها أول النبوة بخاتمها، وتلتقي فيها مسيرة النبوة والرسالة السماوية، بل ومسيرة البشرية كلها عبر التاريخ.
فأصحاب الدعوة إلى الله، وزعماء الإصلاح في العالم الإسلامي يجدون في موسم الحج فرصة ذهبية لعرض أفكارهم على الناس، وأصحاب كلٍّ من الزراعة والصناعة والتجارة يجدونها فرصة كذلك لعقد الصفقات أو لترويج ما معهم من منتجات تحمل إلى هذا المكان الطيب الطاهر من مختلف بقاع الأرض، فتحوِّله إلى سوق عالمي سنوي في ظل القيام بأداء شعائر الله، والعمل على ترسيخ دينه في الأرض، ولذلك قال تعالى: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" (الحج:48).
وإقبال الحجيج لأداء هذه الشعيرة من مختلف بقاع الأرض شهادة للقرآن الكريم بأنه كلام الله، وشهادة للنبي الخاتم بالنبوة وبالرسالة، فصلِ اللهم وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.