"... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ" (المؤمنون: 14)
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هـذا النص القرآني المعجز جاء في بدايات سورة المؤمنون، وهي سورة مكية، وعدد آياتها ثماني عشرة ومائة(118) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لإشادتها بالمؤمنين من خلق الله المُكلَّفين، وقد استعرضت عددًا من صفاتهم الكريمة تجسيدًا للنموذج الذي يرتضيه ربنا -تبارك وتعالى- من عباده، والذي حددته الآيات في مطلع هذه السورة المباركة بقول الله -وهو أحكم القائلين-:
"قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (المؤمنون: 1-11).
وتُعاود السورة الكريمة في منتصفها إلى زيادة وصف للمؤمنين فتقول:
"إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ"(المؤمنون: 57-61).
وفي التأكيد على طلاقة القدرة الإلهية في إبداع خلق الإنسان جاء قول ربنا -تبارك وتعالى-:
"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ" (المؤمنون:12-14).
ووصْف مراحل الجنين في الإنسان بهذه الدقة العلمية المتناهية، وفي أطواره المتتابعة تتابعًا دقيقًا مُحكَمًا، (وهي مراحل وأطوار تتراوح أبعادها بين الأجزاء من الملليمتر إلى أعداد من الملليمترات القليلة، وذلك في غيبة كاملة من وسائل التكبير أو التصوير أو الكشف، وفي بيئة بدائية بسيطة من قبل أربعة عشر قرنًا، وفي ظل سيادة الاعتقاد بأن الإنسان يُخْلق خلقًا كاملًا في هيئة متناهية الضآلة من دم الحيض وحده، أو من ماء الرجل وحده) يعتبر -بلا منازع- صورة من صور الإعجاز العلمي في كتاب الله، تشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، في نفس لغة وحيه -اللغة العربية- وحفظه حفظًا كاملًا، حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة بكل إشراقاته الربانية، وحقائقه النورانية؛ ليبقى حجة على الناس كافة إلى يوم الدين.
ولذلك خُتمت هذه الآيات الثلاث (المؤمنون: 12-14) بقول ربنا -عز من قائل-: "... فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ"، أي أتقن الصانعين صنعًا؛ لأن الخلق يعني إتقان الصنعة، وتقديرها التقدير السليم، كما يعني الإيجاد من العدم على غير مثال سابق، ويعني إيجاد شيء من شيء آخر بطريق التحويل، ومعنى الإبداع أو الإيجاد من العدم على غير مثال سابق لا يكون إلا لله -تعالى- أما إتقان الصنعة وحسن التقدير لها، أو تحويلها من هيئة إلى أخرى، فيكون للخالق -سبحانه وتعالى- كما يكون للمجيدين من المخلوقين.
وبعد تفصيل خلق الإنسان، ووصف مراحله الجنينية بدقة تعجز عنها جميع المعارف المكتسبة، تنتقل الآيات في سورة المؤمنون إلى الحديث عن الموت وحتميته، وعن البعث وضرورته، حتى يجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، وهذه كلها عمليات متلازمة في حياتنا الدنيا إلى قيام الساعة.
وبعد الحديث عن خلق الإنسان وعن تقدير الموت والبعث عليه، انتقلت السورة الكريمة إلى استعراض عدد من آيات الله في الخلق الدالة على طلاقة قدرته في إبداعه لخلقه، والشاهدة على ألوهيته، وربوبيته، ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه، والناطقة بقدرته على بعث خلقه بعد الموت، أو بعد التدمير والإفناء؛ ومن هذه الآيات خلق السماوات السبع حول الأرض، ورعاية الله -تعالى- لهذا الخلق، وإنزال الماء من السماء بقدر وإسكانه في الأرض، والتأكيد على أن الله قادر على الذهاب بمخزون الماء الأرضي وتدميره بعد إنزاله من السماء بقدر،أي بتقدير محكم دقيق، وبكميات محسوبة بدقة وإحكام بالغين. وهذه هي أول إشارة إلى دورة الماء حول الأرض، وإلى أن أصل الماء المخزون في صخور الغلاف الصخري للأرض هو ماء المطر، وهي حقائق لم تبدأ العلوم المكتسبة في الوصول إليها إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وإن سبقت لها إرهاصات قليلة في أواخر القرن السادس عشر الميلادي يبدو أنها منقولة عن أصول إسلامية.
ومن آيات الله في الخلق التي استعرضتها سورة المؤمنون ما أنشأ الله -سبحانه وتعالى- بماء السماء من جنات النخيل والأعناب وغيرهما من أشجار الفواكه العديدة، والمحاصيل المختلفة اللازمة لحياة كلٍّ من الإنسان والحيوان، ومنها شجرة الزيتون -خاصة ذلك الذي ينبت في طور سيناء- وهي شجرة تنبت بالدهن ـ-زيت الزيتون- وصبغ للآكلين، وهو الإدام المصاحب لزيت الزيتون، والذي يصبغ الخبز المغموس في هذا الزيت، وفي ذلك إشارة إلى ما في شجر الزيتون الذي ينبت في طور سيناء من كرامات خاصة يلزم تقصيها ودراستها دراسة علمية منهجية دقيقة.
ومن هذه الآيات خلق الأنعام وإعطاؤها القدرة على إنتاج اللبن في بطونها وضروعها، وإنتاج اللحم مما تأكل من أعشاب، وما لها من منافع أخرى عديدة للإنسان، مثل حمله في البر كما تحمله الفلك في البحر.
وبعد استعراض هذا العدد من آيات الله في الخلق انتقلت سورة المؤمنون إلى الحديث عن قصص عدد من أنبياء الله، وتفاعل أممهم معهم، منهم نوح -عليه السلام- ومن جاء بعده من الرسل إلى كلٍّ من موسى وهارون، ثم عيسى ابن مريم -على نبينا وعليهم من الله السلام- مؤكدة وحدة رسالة السماء، والأخوة بين جميع الأنبياء، وإلى وحدة الجنس البشري الذي ينتهي نسبه إلى أب واحد وأم واحدة، ومشيرة إلى جحود الغالبية من الناس لوحي السماء، ومحاربتهم للأنبياء على الرغم من صدق جميع أنبياء الله، ووضوح حجتهم، وتأييد الله -تعالى- لهم بالمعجزات العديدة، وعلى الرغم من تيقن كل أمة من أمم هؤلاء الأنبياء من عقاب العصاة والكافرين من الأمم السابقة عليهم.
وفي التأكيد على انحرافهم عن منهج ربهم، واختلافهم فيما بينهم إلى العديد من الطوائف والفِرق يقول ربنا -تبارك وتعالى- في سورة المؤمنون: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ" (المؤمنون: 51-56).
وكما عرضت هذه السورة الكريمة جانبًا من صفات المؤمنين، فقد ذكرت في المقابل جانبًا من صفات الكفار والمشركين في المجتمع المكي وفي غيره من المجتمعات إلى يوم الدين، وصوَّرت جانبًا من ذُلهم ومهانتهم في الآخرة فتقول:
"حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ"(المؤمنون: 64-69).
وتؤكد الآيات أن النبي والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه والناس جميعًا "وإنك لتدعوهمإِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ" (المؤمنون: 73-74).
ولعلم الله -تعالى- بهم وبطبائعهم لم يرحمهم، وفي ذلك يقول -عز من قائل-:
"وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ. حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ" (المؤمنون: 75-77).
ثم تنتقل الآيات في سورة المؤمنون إلى ذكر عدد من نعم الله على عباده، منها إنشاء السمع والأبصار والأفئدة مما يستحق الشكر لله -تعالى- ومنها انتشار الناس في الأرض حتى الوفاة، ومن بعدها البعث والحشر إلى الله -تعالى- ومنها أن الله -تعالى- هو الذي يحيي ويميت، وأن له اختلاف الليل والنهار، وعلى الرغم من ذلك فإن كثيرًا من الناس ينكرون البعث، ويعتبرون القول به من أساطير الأولين مع اعترافهم بأن الأرض لله -تعالى- رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.
وفي خواتيم سورة المؤمنون تنفي الآيات كل دعاوى الشرك بالله -تعالى- فتقول:
"بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ"(المؤمنون:90- 92).
وبعد ذلك تنتقل الآيات بالخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- موصية إياه بعدد من الأدعية الخاصة، وآمرة إياه بعدد من السلوكيات النبيلة، ومؤكدة ذل الكفار والمشركين، والظلمة المتجبرين لحظة احتضارهم، وهم موقوفون بين يدي الله -تعالى- يستعطفونه من أجل إرجاعهم إلى الحياة الدنيا لعلهم يعملون صالحًا فيها، فيرد عليهم الحق -سبحانه وتعالى- بقوله العزيز:
"... كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وَجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ"(المؤمنون: 100-108).
وتستمر الآيات في استعراض خطاب الله -تعالى- إلى الضالين من الكفار والمشركين حتى تصل إلى قوله -سبحانه وهو أصدق القائلين-:
"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ" (المؤمنون: 115-117).
وتختتم السورة الكريمة بأمر من الله –تعالى- إلى خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم- وهو في نفس الوقت أمر إلى كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين بطلب الغفران والرحمة من رب العالمين، وفي ذلك يقول-تعالى-: "وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُالرَّاحِمِينَ" (المؤمنون:118).
من ركائز العقيدة في سورة المؤمنون:
(1) الإيمان بالله، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالخلود في الحياة القادمة إما في الجنة أبدًا، أو في النار أبدًا، وبأنه لن يرث الجنة -خلودًا بلا موت- إلا المؤمنون الذين عرضت السورة الكريمة لجانب من صفاتهم، والإيمان كذلك بأن الله –سبحانه- هو عالم الغيب والشهادة، وهو خير الرازقين، وهو الذي يحيي ويميت، وأن له اختلاف الليل والنهار، وأنه هو رب العرش الكريم.
(2) تنزيه الله -سبحانه وتعالى- عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، مثل الادعاء الكاذب بالشريك، أو الشبيه، أو المنازع، أو الصاحبة، أو الولد، وهي كلها من صفات المخلوقين، والخالق منزه عن جميع صفات خلقه.
(3) اليقين بأن الله -تعالى- قد خلق الإنسان من سلالة من طين، وقدر طريقة تناسله، ومراحل الجنين في نسله مرحلة بعد أخرى بدقة بالغة حتى تتم تسويته في خلقته البشرية الكاملة حتى يخرج إلى الحياة طفلًا ينمو حتى اكتمال عمره، ثم له بعد هذه الحياة الموت، ثم البعث والحساب، والجزاء بالخلود في الجنة أبدًا، أو في النار أبدًا؛ وذلك لأن الإنسان لم يُخْلَق عبثًا، وإنما خلق للابتلاء والاختبار في الحياة الدنيا، وأنه عائد حتمًا إلى خالقه ليجزيه على ما قدم فيها.
(4) التصديق بأن الله -سبحانه وتعالى- هو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء ومليكه ومدبر أمره، ومن خلقه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن، ومن حسن تدبيره للحياة على الأرض دورة الماء حول هذا الكوكب بتبخيره بقدر معلوم، ثم إنزاله من السماء بقدر ليلعب دورًا أساسيًّا في ازدهار الحياة على الأرض، ثم يفيض إلى البحار والمحيطات بعد أن يكون قد أسكن جزءًا منه في صخور القشرة الارضية ليكون مصدرًا للحياة في المناطق التي تفتقر إلى المياه الجارية، وهو -تعالى- الذي يحفظ هذا المخزون من الماء الأرضي برحمته وحكمته؛ لأنه قادر على تغويره والذهاب به، أي إفنائه وقتما شاء وكيفما شاء.
كما أنه -سبحانه وتعالى- هو منبت النبات، ومنشئ الزروع المختلفة، وخالق الأنعام، ومنبت اللبن في ضروعها، وجاعل لحومها مستساغة للإنسان، وجاعل فيها العديد من المنافع له، فهو -سبحانه- مبدع كل شيء، وهو بكل شيء عليم.
(5) الإيمان بوحدة رسالة السماء، بالأخوة بين الأنبياء، الذين كانت دعوتهم جميعًا واحدة، ثم تكاملت هذه الدعوة السماوية في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وبما أن حفظ الرسالات السابقة قد وكل إلى أصحابها، وبما أن الله –تعالى- قد تعهد بعدم العقاب دون بلاغ، فقد تعهد بحفظ رسالته الخاتمة في نفس لغة وحيها -اللغة العربية- حفظًا كاملًا، وقد حفظت على مدى القرون الأربعة عشر الماضية دون نقصان حرف واحد، أو إضافة حرف واحد حتى تبقى حجة على الناس أجمعين إلى يوم الدين.
(6) اليقين بأن الله -تعالى- قد قرر أنه لا عودة إلى الحياة بعد الموت إلا في يوم البعث؛ لأنه -سبحانه قد جعل من وراء الأموات برزخًا إلى يوم يبعثون، وأن الخلق سوف يبعثون بعد نفختي الصور، فبعد الأولى منهما يصعق الأحياء ويموتون، وبعد الثانية يبعث كل ميت.
(7) التصديق بأن الشرك بالله –تعالى- كفر به، وأن الكافرين لا يفلحون أبدًا، وبأن المفلحين حقًا هم الذين ثقلت موازينهم في الآخرة، فيخلدون في جنات النعيم، وأن الذين خفت موازينهم في الآخرة من الكفار والمشركين، والظلمة المتجبرين على الخلق، والمتطاولين على أوامر الخالق -سبحانه وتعالى- هم الذين خسروا أنفسهم؛ لأنهم سوف يخلدون في نار جهنم إلى أبد الآبدين.
من الإشارات الكونية في سورة المؤمنون:
(1) الإشارة إلى خلق الإنسان من سلالة من طين، ووصف مراحله الجنينية المتتابعة بدقة بالغة حتى إنشائه خلقًا آخر، وهي مراحل تتراوح في أبعادها بين أجزاء من الملليمترات إلى بضعة ملليمترات قليلة في غيبة تامة لجميع وسائل التكبير والتصوير والكشف، وفي زمن سيادة الاعتقاد بتخلق الجنين كاملًا دفعة واحدة من دم الحيض وحده، أو من ماء الرجل وحده.
(2) الإشارة إلى خلق السماوات السبع، وهي من الأمور التي لم تستطع العلوم المكتسبة الوصول إلى معرفة شيء عنها، نظرًا إلى ضخامة أبعاد الكون، وإلى تمدده باستمرار بمعدلات تفوق تطور تقنيات الإنسان بأرقام فلكية، وإلى نهاية لا يعلمها إلا الله.
(3) ذكر إنزال الماء من السماء بقدر، وإلى إسكان جزء منه في صخور الغلاف الصخري للأرض بتقدير دقيق، وحكمة بالغة، وهي حقيقة لم تتوصل إليها العلوم المكتسبة إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
(4) الربط بين إنزال الماء من السماء وإخراج النبات من الأرض، ووصف شجرة الزيتون بأنها تنبت بالدهن -زيت الزيتون-، وصبغ للآكلين -الإدام الذي يصبغ الخبز المغموس في زيت الزيتون- والتركيز على شجر الزيتون الذي ينبت في طور سيناء بصفة خاصة.
(5) الإشارة إلى ما في خلق الأنعام من عبر للمعتبرين، مثل ما يخرج من بطونها من لبن، ومن أبدانها من لحوم وشحوم، ومافيها غير ذلك من فوائد للإنسان، مثل اتخاذها للركوب والحمل في البر كما تُتَّخذ السفن في البحر.
(6) ذكر حاسة السمع قبل كلٍّ من الأبصار والأفئدة، وعلم الأجنة يؤكد سبق تكون حاسة السمع لبقية الحواس المذكورة، فالمولود يسمع قبل أن يرى أو يدرك.
(7) إقرار حقيقتي تكور الأرض، ودورانها حول محورها أمام الشمس بالإشارة الضمنية الرقيقة إلى اختلاف الليل والنهار.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا على إنشاء الجنين خلقًا آخر بعد تحويل المضغة إلى عظام وكسوة العظام باللحم -العضلات والجلد- كما جاء في النقطة الأولى من القائمة السابقة.
من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم:
على الرغم من أن تخلق الوجه يبدأ في فترة مبكرة من حياة الجنين البشري، فإنه لا يأخذ الشكل الآدمي إلا بعد تخلق العظام وكسوتها باللحم، ولذلك قال -تعالى-:
"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ" (المؤمنون: 12- 14).
ولتباعد الفترة الزمنية، ولضخامة النقلة النوعية بين كلٍّ من الخلق من الطين والجعل نطفةً في قرار مكين، وكذلك بين النطفة الأمشاج في القرار المكين، وتحويلها إلى ما بعد ذلك من أطوار متداخلة، استخدم القرآن الكريم حرف العطف "ثم" الذي يفيد الترتيب مع التراخي، ولتداخل المراحل التالية من العلقة إلى المضغة إلى تحويل المضغة إلى العظام وكسوة العظام باللحم -العضلات والجلد- استخدم القرآن الكريم حرف العطف "ف" الذي يفيد الترتيب مع التعقيب والتداخل، ومرة أخرى يستخدم هذا الكتاب الكريم حرف العطف "ثم" بين إتمام كسوة العظام باللحم وبين إنشاء الجنين في خلق آخر لضخامة النقلة النوعية في الخلق ولطول الفترة الزمنية اللازمة لإتمام النشأة في خلق آخر.
فطور العلقة يبدأ في نهايته تخلق أوائل الكتل البدنية (Somites)، التي تميز طور المضغة، الذي يكتمل تخلق الكتل البدنية فيه، فتعطي هذا الطور من أطوار الجنين شكل قطعة اللحم الصغيرة الممضوغة، والتي قد لاكتها الأسنان فتركت طبعاتها عليها، وهذه الكتل البدنية قد أعطاها الله -تعالى- القدرة على أن يتحول نصفها لبناء الهيكل العظمي للجنين، ولذلك يطلق عليه اسم شطر العظام، وبعد اكتمال ذلك يتحرك النصف الآخر لكسوة العظام باللحم -العضلات والجلد- ولذلك يطلق عليه اسم شطر العضلات والجلد (Myo-dexmatome).
ولضخامة النقلة من هذه الأطوار إلى ما يليها من أطوار جمعها القرآن الكريم في التعبير:"ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ..." (المؤمنون:14) باستعمال حرف العطف"ثم" الذي يفيد الترتيب مع التراخي.
وبذلك يقسم القرآن الكريم مراحل تخلق الجنين البشري إلى الأطوار الخمسة التالية:
أولًا: طور النطفة الأمشاج:
وهو طور البويضة المخصبة (The Fertilized Ovum Stage)، أو طور اللقيحة(Zygote) التي تنشط في الانقسام حتى تكون ما يسمى باسم التويتة(Morula)، أو الأرومة الجرثومية(Blastula). وهذا الطور يستمر لمدة الأسبوع تقريبًا من تاريخ بدء الإخصاب.
ثانيًا: طور العلقة:
ويبدأ بتعلق الأرومة الجرثومية بجدار الرحم في اليوم السادس بعد الإخصاب وحتى نهاية اليوم الخامس والعشرين، أي يستمر لمدة تتراوح بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، يشبه فيه دودة العلق في شكلها، وفي تعلقها بجدار العائل الذي تتطفل عليه، وفي طريقة تغذيتها على دم العائل.
ثالثًا: طور المضغة:
ويبدأ في اليوم السادس والعشرين بعد الإخصاب تقريبًا، وذلك باكتمال تخلق الكتل البدنية (Somites) التي تعطي الجنين شكل قطعة اللحم النيء الممضوغة، والتي لاكتها الأسنان وتركت طبعاتها عليها، وينتهي هذا الطور في حدود اليوم الثاني والأربعين بعد الإخصاب ببدء تكون الهيكل العظمي للجنين.
رابعًا: طور تخلق العظام وكسوتها باللحم:
يستغرق طور تخلق الأعضاء(The organogenesis Stage) الفترة من نهاية الأسبوع الرابع إلى نهاية الأسبوع الثامن، ويبلغ ذروة نشاطه بنهاية الأسبوع السادس -اليوم الثاني والأربعين بعد الإخصاب- حين تبدأ العظام الغضروفية في التكون لتستكمل انتشارها في حجم الجنين بنهاية الأسبوع الثامن، وتُكْسَى باللحم -العضلات والجلد- بدءًا من نهاية الأسبوع السابع، وتنتهي بنهاية الأسبوع الثامن.
وفي ذلك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-:"إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وعظامها، ولحمها، وجلدها، ثم قال: يا رب، ذكر أم أنثي؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتبه الملك" (أخرجه الإمام مسلم).
ويقول -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-:"وكل الله بالرحم ملكا يقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك: أي رب، أذكر أم أنثي؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه" (في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه).
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد" (أخرجه الإمام مسلم).
ومع بداية الأسبوع السابع يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي بالانتشار في الجسم كله، فيعطي للجنين بدايات الهيئة البشرية، وتكون العظام هي أبرز ما يتكون في هذه المرحلة التي يزداد فيها طول الجنين إلى حوالي23 مم، وتبدأ أعداد من العلامات الخارجية في الظهور عليه منها:
1- تكون الهيكل العظمي وكسوته باللحم -العضلات والجلد-.
2- الاعتدال في تقوس الجسم.
3- بدء تشكل الوجه وما فيه من العينين، والأذنين، والأنف.
4- بدء تحديد منطقة العنق، وتخلق الأقواس البلعومية على جانبها.
5- بدء ظهور براعم الأطراف العلوية، ثم السفلية، وبدء تشكل كلٍّ منها.
6- استطالة المعلاق ليكون الحبل السري.
7- بدء تخلق الغدد التناسلية، وإن كانت غير مميزة الجنس حتى نهاية هذه المرحلة.
خامسًا: طور النشأة:
باكتمال الأسبوع الثامن يصل طول الجنين إلى حوالي (30 مم)، ويكون تخلق الهيكل العظمي قد اكتمل وتمت كسوته باللحم -العضلات والجلد- وتكاد الأعضاء الداخلية كلها أن تكون قد اكتملت بشكل أوَّلي، وقد اتخذت مواضعها من جسد الجنين (Embryo)، فينتقل إلى طور الحميل(Fetus) الذي يبدأ مع بداية الأسبوع التاسع -أي بداية الشهر الثالث للحمل- وينتهي بالولادة، أي يستغرق أغلب فترة الحمل وتقدر بسبعة أشهر كاملة، ولذلك عبرت عنه الآية الكريمة باستخدام حرف العطف "ثم" الذي يدل على الترتيب مع التراخي، وذلك بقول ربنا -تبارك وتعالى-:"ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ" (المؤمنون:14).
ويتميز هذا الطور بالنمو السريع المتواصل، وببدء اكتساب الملامح البشرية بنهاية الشهر الثالث، ومن أهم هذه الملامح ما يلي:
1- زيادة طول الحميل إلى حوالي90 مم.
2- اكتمال تخلق الوجه والعنق، مع نمو شبكية العين إلى أربع طبقات، مع التصاق الجفنين.
3- اكتمال تخلق الأطراف، وبداية ظهور الأظافر في نهايات الأصابع.
4- اكتمال تميز أجسام الفقرات.
5- اكتمال تخلق كلٍّ من القلب وغشائه التاموري، والطحال والغدتين فوق الكلوتين (الغدتين الكظريتين).
6- تمايز الجهازين البولي/ التناسلي والشرجي بتمايز غشاء المذراق (Cloaca).
ويستمر نمو الحميل في الشهر الرابع باكتمال تغذية العضلات والجلد بالأعصاب المتصلة بالمخ لاستلام الأوامر والتعليمات منه وتنفيذها، وبذلك تبدأ العضلات الإرادية في التحرك، ويبدأ وجه الحميل في اكتساب الملامح الإنسانية المميزة، وتبدأ عضلات الوجه في التعبير عن حالة الحميل الصحية والنفسية، كذلك تتمايز أعضاء التناسل الظاهرة، ويتم استقلال المشيمة بوظيفتها، وتبدأ الأمعاء في التراجع من منطقة الحبل السري إلى تجويف البطن، وتكتمل حاسة السمع حتى يتمكن الحميل من الاستماع إلى الأصوات من حوله وهو في بطن أمه، ويتخلق كلٌّ من بصمات الأصابع، وخطوط الجبين، ويبدأ زغب خفيف في الظهور على كلٍّ من الرأس وبعض أجزاء الجسم.
ومع بداية الشهر الخامس -أي بعد نحو120 يوما من بدء الإخصاب- يتم الاتصال بين المناطق المخية العليا الموجودة في قشرة الدماغ، والمناطق السفلية من المخ، وبقية الجهاز العصبي، ويكتمل تخلق كلٍّ من القلب والكبد، والجهاز التناسلي، كما يكتمل انسحاب الأمعاء إلى تجويف البطن، ويبدأ ظهور الشعر بكلٍّ من فروة الرأس والحاجبين، وتتم تغطية الجسم بالزغب، وتبدأ الأم الحامل في الإحساس بتحرك حملها في بطنها.
ويزداد معدل نمو الحميل في الشهر السادس عما سواه حتى يصل طوله الكلي إلى حوالي350 مم، ووزنه إلى كيلو جرام كامل، ويغطَّى جسمه بطبقة دهنية، ويزداد حجم السائل الأمنيوسي –الرهل- حوله زيادة كبيرة.
وفي الشهر السابع يكتمل نمو شبكية العين إلى تسع طبقات، ويكتمل تخلق العصب البصري الذي يتصالب في مساره ليكون ما يعرف باسم التصالب البصري حتى يصل إلى مؤخر المخ، وتضمر المحفظة الوعائية العدسية، وتشق في وسطها مكونة حدقة العين -البؤبؤ- وتُشق الجفون إلى علوية وسفلية، وتنمو رموشهما بعد أن يكون قد يتم تخلق كلٍّ من مشيمة العين، والقرنية(Cornea)، والصلبة (Sclera)، والملتحمة(Conjunctiva)، والغدد الدمعية، ويبدأ جسم الحميل في الامتلاء بازدياد سُمْك الطبقة الدهنية المتجمعة تحت جلده، ويكتمل نمو الجهازين العصبي والهضمي.
وفي الشهر الثامن يغزر شعر فروة الرأس، ويمتلئ الجسم، ويزول الزغب عنه، ويتغطى بطبقة دهنية متجبنة، وتصل الأظافر إلى أطراف الأصابع، ويكتمل النمو في بقية الـ(266) يومًا من فترة الحمل في زيادة نمو الجسم حتى اكتماله، خاصة في الجهاز التنفسي -الرئتين والجيوب الهوائية-.
هذه الفروق الهائلة التي تظهر على الحميل بين نهاية الأسبوع الثامن -طور تخلق العظام وكسوتها باللحم- ونهاية فترة الحمل -نهاية الأسبوع الثامن والثلاثين من عمر الحميل- عبرت عنها الآية الكريمة التي نحن بصددها باستعمال حرف العطف "ثم" الذي يدل على الترتيب مع التراخي، وذلك بقول الحق ـ-تبارك وتعالى-:"... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ"(المؤمنون:14).
وتقسيمات علماء الأجنة لمراحل تخلق الإنسان في القرن الحادي والعشرين لا تكاد تخرج عن هذا التقسيم القرآني الذي يبلغ من الدقة والشمول والكمال ما لم يبلغه العلم الحديث، ووصف القرآن الكريم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة لهذه المراحل المتتالية، وبهذه الدقة العلمية الفائقة في زمن افتقر إلى أبسط وسائل التكبير أو الفحص أو التصوير، وسادت فيه الخرافات والأساطير التي نادت بخلق الإنسان كاملًا دفعة واحدة من دم الحيض، أو من ماء الرجل دون مراحل وسطية سوى الزيادة في الحجم.
هذا السبق القرآني المعجز لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدرًا غير الله الخالق، مما يؤكد ربانية القرآن الكريم، وصدق نبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه؛ فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.