"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ..." (فاطر: 27)
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
النص القرآني المعجز جاء في أوائل النصف الثاني من سورة فاطر، وهي سورة مكية، وعدد آياتها 45 بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لافتتاحها بالثناء على الله -تعالى- بكونه فاطر السماوات والأرض، أي خالقهما على غير مثال سابق، ولأنه -تعالى- جاعل الملائكة رسلًا، وأنه على كل شيء قدير، ولأنه -تعالى- رحمن السماوات والأرض ورحيمها، وأنه هو العزيز الحكيم.
وتنادي السورة الكريمة في مطلعها على الناس كافة أن يذكروا نعمة الله عليهم وهو الخالق الرازق الذي لا إله إلا هو، وفي ذلك تقول الآيات:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ" (فاطر:1-3).
وبعد ذلك يوجه الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- في مواساة رقيقة من الله -تعالى- على تكذيب الكفار والمشركين لبعثته الشريفة بأن جميع رسل الله السابقين قد كذبهم الكفار والمشركون من أممهم، وأن إلى الله ترجع الأمور، وهو -تعالى- عليم بما تصنع كل نفس، وأنه -سبحانه- سوف يجازي الجميع بأعمالهم، وكذلك تطالب الآيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا يحزن على الكافرين والمشركين والمكذبين؛ لأن الله -تعالى- عليم بما يصنعون.
وتؤكد الآيات للناس كافة أن وعد الله بالبعث والحساب والجنة والنار هو حق لا ريب فيه، فلا يجوز لهم أن ينسوا ذلك فينخدعوا بالدنيا وينسوا الآخرة، ولا ينخدعوا بالشيطان فيصرفهم عن متابعة أوامر الرحمن؛ لأن الشيطان سوف يغريهم بالمعصية ويمنيهم بالمغفرة، وسوف يزين لهم سوء أعمالهم فيرونه حسنًا، انطلاقًا من عدائه لهم، وحرصه على الوقيعة بهم، فلابد من اتخاذه عدوًّا؛ لأنه يدعو أتباعه ليكونوا من أصحاب النار.
وتؤكد السورة الكريمة أن الذين كفروا لهم عذاب شديد، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كريم، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى- مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم-:
"وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" (فاطر:4-8).
ثم تؤكد الآيات أن العزة لله جميعًا، وأنه من كان يريد العزة فليطلبها من الله بطاعته، فالعمل الطيب يصعد إليه، والعمل الصالح يرفعه -سبحانه وتعالى- ويقبله، وأن الذين يدبرون السوء بخبث ومكر لهم عذاب شديد، ولن ينفعهم تدبيرهم الماكر بشيء؛ لأن مآله الدمار والبوار، وتنعي الآيات على الذين يشركون بالله -سبحانه وتعالى- أن شركاءهم لا يسمعون دعاءهم، وإن سمعوه فإنهم لن يستجيبوا لهم، ويوم القيامة سوف يكفرون بشركهم، وينكرونه عليهم، ولا ينبئ بمثل هذا الحق من أخبار الآخرة مثل عليم به علمًا محيطًا، وخبير به خبرة كاملة.
وتتوجه الآيات بالخطاب مرة أخرى إلى الناس جميعًا مؤكدة أنهم هم المحتاجون إلى الله في كل شيء، والله -سبحانه وتعالى- هو الغني عن كافة خلقه، المستحق للحمد من جميع عباده، وأنه إن يشأ إهلاك الخلق جميعا لأهلكهم بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز.
وكذلك تؤكد الآيات أن نفسًا لا تحمل وزر أخرى، وإن دعت نفس مُثقَلة بالذنوب أحدًا من الخلق ليحمل عنها شيئًا من ذنوبها فإن ذلك لا يمكنه وإن كان ذا قرابة معها؛ لانشغال كلٍّ بنفسه وهمه وذنوبه.
وفي مقابلة رائعة يعاد توجيه الخطاب مرة أخرى إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- بقول الحق -تبارك وتعالى-:
"... إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ المُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ"(فاطر:18-26).
وفي سياق السورة الكريمة امتدحت الآيات المؤمنين الذين يتلون كتاب الله ويتدبرون آياته، والذين يقيمون الصلاة على وجهها الصحيح، وينفقون مما رزقهم الله سرًّا وعلانية، وهم يرجون بذلك تجارة مع الله لن تبور ولن تكسد أبدًا بإذنه؛ لأنه -سبحانه وتعالى- سوف يوفِّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، إنه غفور شكور.
ومرة ثالثة تعاود السورة الكريمة توجيه الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- مؤكدة أن القرآن الكريم هو الحق الذي لا شبهة فيه، وأن الله -تعالى- قد أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم- مصدقا لما تقدم من الكتب السماوية لاتفاق أصولها، ووحدة رسالتها، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى-:"وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ" ( فاطر:31، 32).
والآية الأخيرة تؤكد أن الله -تعالى- قد جعل القرآن الكريم ميراثًا للذين اصطفاهم من عباده، وعلى الرغم من هذا الفضل العظيم فإن من هؤلاء العباد المصطفين للإسلام من يظلم نفسه بالزج بها في المعاصي، ومنهم من يعصمها من ذلك فلا يسرف في إتيان السيئات، ولكنه في نفس الوقت لا يجتهد في الإكثار من الحسنات، ومنهم السابق بالخيرات الذي يجتهد في الإكثار من الحسنات، وهو صاحب الفوز الكبير من الله، ألا وهو الخلود في جنات عدن التي أفاضت الآيات في وصف نعيمها، أما الذين يكفرون بالله فجزاؤهم نار جهنم خالدين فيها، لا يُقضَى عليهم بالموت فيموتون، ولا يُخَفَّف عنهم شيء من العذاب، وهو جزاء كل متمادٍ في الكفر، أو مُصرٍّ على الشرك، أو سادر في الضلال بلا توبة حتى الموت، أو منكر لرسالة السماء الخاتمة، ولنبوة رسولها -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-.
وتصور الآيات حال الكافرين والمشركين في نار جهنم وهم يستغيثون بالله أن يخرجهم منها ليعملوا صالحًا غير الذي كانوا يعملون في الدنيا، وترد عليهم الآيات بقول الحق -تبارك وتعالى-: "... أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ * إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا * قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا" ( فاطر:37-40).
وتذكُر الآيات أن الكافرين أقسموا بالله جهد أيمانهم -أي قسمًا مُغلَّظًا- لئن جاءهم نذير من الله -تعالى- ليكونن أهدى من غيرهم من الأمم التي كذبت رسلها، فلما جاءهم رسول منهم ما زادتهم دعوته المباركة إلا نفورًا من الحق، وكراهية له، انطلاقًا من استكبارهم في الأرض، ورغبتهم في المكر السيئ برسولهم، والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فهل يتوقعون من الله إلا ما جرت به سننه -سبحانه وتعالى- في الذين سبقوهم من الأمم، وسنن الله لا تتوقف ولا تتخلف ولا تتبدل ولا تتحول، ولو ساروا في الأرض وتأملوا عواقب من كانوا قبلهم من الأمم، وما أصاب تلك الأمم العاصية من الدمار والهلاك، وقد كانوا أشد من كفار الجزيرة العربية قوة، فلم تمنعهم قوتهم من عذاب الله، والله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض؛ لأنه -سبحانه- هو العليم القدير.
وتختم سورة فاطر بالتأكيد على أن كل بني آدم خطَّاؤون، وأن خير الخطَّائين التوابون، وأن الآخرة حق، وأن الحكم فيها عدل مطلق، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى-:
"وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا" (فاطر:45).
وسورة فاطر مليئة بالاستشهاد بالآيات الكونية التي تنبه الإنسان إلى عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-، تلك العظمة البينة في إتقان الخلق، وضخامة الكون، ودقة بنائه، وتعدد أجرامه، وإحكام حركاته، وخلق الله -تعالى- من أدق اللبنات إلى أعظم الوحدات في هذا الكون الشاسع، ومن الكائن ذي الخلية الواحدة إلى الإنسان الكامل، كل ذلك يشهد لهذا الخالق العظيم بالألوهية والربوبية والوحدانية والخالقية، كما يشهد له -تعالى- بقدرته على إفناء الخلق وعلى إعادة بعثه من جديد، وقد كانت قضية البعث عبر التاريخ -ولا تزال- هي حجة المكابرين والمعاندين من الكفار والمشركين، وسوف تظل كذلك إلى يوم الدين.
من الآيات الكونية في سورة فاطر:
جاء في سورة فاطر عدد غير قليل من الإشارات الكونية التي تضمنتها الآيات التالية:
(1) "وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ" (فاطر:9).
(2) "وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَمَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ"(فاطر:11- 13).
(3) "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" (فاطر:27، 28).
(4)"إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (فاطر:41).
وكل آية من هذه الآيات، وكل مقطع من كل آية يحتاج إلى معاملة خاصة؛ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا على المقطع الأول من الآية السابعة والعشرين من هذه السورة المباركة، والذي اتخذته عنوانًا لهذا المقال، وقبل البدء في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذا النص القرآني المعجز.
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله -تعالى-: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ..."(فاطر:27).
ذكر ابن كثير -يرحمه الله- ما مختصره: يقول –تعالى- منبهًا على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، يخرج به ثمرات مختلفًا ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو الشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها، كما قال –تعالى- في الآية الأخرى:"يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الرعد:4).(انتهى قول المفسر).
وجاء في تفسير الجلالين -رحم الله كاتبيه- ما مختصره: "أَلَمْ تَرَ" تعلم. "أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ" أي: من السحاب. "مَاءً فَأَخْرَجْنَا" فيه التفات عن الغيبة."بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا" كأخضر وأحمر وأصفر وغيرها. (انتهى قول المفسر).
وذكر صاحب الظلال -رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم- ما نصه:"... إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب، لفتة تطوف في الأرض كلها تتتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها: في الثمرات، وفي الجبال، وفي الناس، وفي الدواب والأنعام، لفتة تجمع في كلمات قلائل بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعًا، وتَدَعُ القلب مأخوذًا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعًا، وتبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان. ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها "فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا"، وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع ما نبت منه جميع الرسامين في جميع الأجيال، فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر، بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد، فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون". (انتهى قول المفسر).
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن -رحم الله كاتبه برحمته الواسعة- ما نصه:"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ..." خطاب لكل من يصلح له بتقرير دليل من أدلة القدرة الباهرة، والصنعة البديعة، يوجب الإيمان بالله، وهو اختلاف ألوان الثمرات والجبال، والناس والدواب والأنعام اختلافًا بيِّنًا. (انتهى قول المفسر).
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم -جزاهم الله خيرًا- ما نصه: "أَلَمْ تَرَ" -أيها العاقل- "أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا" منها الأحمر والأصفر، والحلو والمر، والطيب والخبيث. (انتهى قول المفسر)، وأضاف الخبراء بالهامش ما يلي: ليس الإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة هو التنويه فقط بما للجبال من ألوان مختلفة ترجع إلى اختلاف المواد التي تتألف منها صخورها، ولكن الإعجاز هو الربط بين إخراج ثمرات مختلفات الألوان يروي شجرها ماءٌ واحد. (انتهى قول المفسر).
وجاء في صفوة التفاسير -جزى الله كاتبها خيرًا- ما نصه: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً" أي: ألم تر أيها المخاطب أن الله العظيم الكبير الجليل أنزل من السحاب المطر بقدرته؟"فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا" أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع النباتات والفواكه والثمار، المختلفات الأشكال والألوان والطعوم. قال الزمخشري: أي مختلف أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر، أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. (انتهى قول المفسر).
الثمرات في اللغة العربية:
(الثَّمَرَات) جمعثَمَرَة، و(الثَّمَرَة) في العربية اسم لكل ما يتطعم به من أعمال الشجر، ويقال لكل نفع يصدر عن شيء: ثمرته، و(الثَّمَرَة) واحدة الثَّمَر، وجمعهاثَمَرَات، ويقال في العربية:(أَثْمَرَ) الشجر أي طلع ثمره، وشجر( ثَامِر) إذا أدرك ثمره، وشجرة(ثَامِرة) أو(ثَمْرَاء) أي ذات ثمر، ويُكنَّى بالثَّمَرَ أحيانًا عن المال المستفاد، فيقال:(أَثْمَرَ) الرجل إذا كثر ماله، ويقال:(ثَمَّرَ) الله ماله تَثْمِيرًا، أي كثره له. كذلك يُكنَّى بالثَّمَرَ عن العُقَد في أطراف السوط تشبيهًا بالثمر في الهيئة والتدلي عن الشجر، كما يُكنَّى به عن كل مشابه لذلك،(فالثُّمَيْرَة) من اللبن هي كل ما تحبب من الزبد تشبيهًا بالثمر في الهيئة، وفي التحصيل عن اللبن كأفضل ما فيه.
من الدلالات العلمية للنص الكريم:
أولًا: الثمرات في علوم النبات:
تعرف(الثمرة) في النباتات المزهرة بأنها المتاع -المبيض- الناضج للزهرة، والزهرة هي الجزء الذي يحمل أعضاء التكاثر في النباتات المزهرة، وهي العضو الثابت في تلك النباتات الراقية؛ لأنه لا يتأثر بتغيرات البيئة، ومن هنا اتخذت الزهرة أساسًا لتقسيم النباتات المزهرة.
وبعض الزهور مفردة الجنس، والبعض الآخر يضم كلًّا من أعضاء التذكير والتأنيث، وعندما يتم إخصاب الزهرة تندمج النواتان الذكرية والأنثوية، وبنجاح اندماجهما يتكون جنين حي للنبات داخلَ البذور محاطًا بالغذاء اللازم لنموه، ويحيطه جدار حافظ يعرف عادة باسم القصرة، وبنمو البييضة المُخصَّبة وما بداخلها من بذرة أو بذور تتكون الثمرة بتضخم أنسجة المتاع -المبيض- وأحيانًاتتضخم بعض أنسجة الزهرة الأخرى، وقد يسمك جدار المتاع -المبيض- أو يتصلب أو يبقى رقيقًا ليكون جدار الثمرة التي تظهر بتكشفها بعد تساقط أجزاء الزهرة الأخرى عنها.
فبعد تمام عملية إخصاب الزهرة وتكون الثمرة، تبدأ أعضاؤها الأخرى في الذبول والسقوط في معظم النباتات المزهرة، وإن شذَّ بعضها عن ذلك.
وتبقى الوظيفة الأصلية للثمار منحصرة –أساسًا- في المحافظة على أجنة النبات داخلَ البذور، ومدها بالغذاء حتى تمام نموها، ثم مساعدة تلك البذور على الانتثار والانتشار بعد نضج الثمرة، أو بعد الاغتذاء عليها بواسطة أيٍّ من الإنسان أو الحيوان وإلقاء البذور في الأرض لتنبت من جديد، وقد تتفسخ الثمرة وتنفتح فطريًّا لإخراج البذور التي يمكن حملها بواسطة الرياح، أو المياه الجارية، أو بواسطة أيٍّ من الإنسان أو الحيوان إلى أماكن بعيدة لتساعد على انتشار النبات.
ثانيًا: اختلاف ألوان الثمار بمعنى اختلاف أنواعها:
في تفسير قوله -تعالى- "... فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ..." (فاطر:27).
ذكرالزمخشري -يرحمه الله- أن اختلاف الألوان يشمل كلًّا من اختلاف الأجناس والهيئات، وإذا أخذنا ذلك على المحمل الأول فإننا نجد أن كلًّا من أجناس وأنواع الثمار من الكثرة بحيث يصعب حصرها، ولكن يمكن تجميعها في عدد من المجموعات الكبرى على النحو التالي:
(1) مجموعة الثمار الزهرية البسيطة:
وهي الثمار التي تتكون -أساسًا- من زهرة واحدة لها متاع -مبيض- واحد، سواء تكونت من كربلة واحدة أو من عدة كرابل ملتحمة، وتحوي كل واحدة من هذه الثمار البسيطة الجنين الحي للنبات محاطًا بكمٍّ من الغذاء لنموه حتى تمام ذلك، ثم يختزن لإنباته في المستقبل، ويحاط الجنين بعدد من الأغلفة النباتية لحمايته، ويعرف الجنين وما حوله من مخزون غذائي وأغلفة حماية باسم البذرة أو النواة أو الحبة، وبواسطة تلك الأجنة النباتية المحفوظة بداخل البذور أو النوى أو الحب يستمر وجود النبات إلى ما شاء الله.
ومن هذه الثمار البسيطة ما هو غض -رَطِب- وما هو جاف، والثمار البسيطة الغضة يحاط الجنين فيها بثلاث طبقات أو أغلفة من الداخل إلى الخارج على النحو التالي: غلاف خشبي للبذرة -أو النواة- وغلاف وسطي شحمي يزيد سُمْكه ويقل من ثمرة إلى أخرى، وهو الجزء الذي يؤكل عادة، وغلاف خارجي جلدي رقيق يغلف الثمرة بأكملها، وقد يصبح شمعيًّاسميكًا عند تمام نضج الثمرة، ويعرف هذا النوع من الثمار باسم الثمار الحسلية، ومن أمثلتها المشمش، والخوخ، والبرقوق، والكرز، والزيتون، وأشباهها.
ومن الثمار البسيطة الغضة ما يعرف باسم الثمار اللبية، وفيها تبقى الأغلفة الثلاثة الحامية للجنين طرية بعد نضج الثمرة، وذلك مثل الخيار والقثاء، أو يبقى جدار البذور صلبًا مثل العنب والطماطم،والثمار اللبية، وهي ثمار شحمية ذات بذور عديدة منغرسة في المادة اللبية للثمرة، ومن أمثلتها البطيخ والشمام، والبرتقال، وأشباهها.
وأحيانًا يدخل في تركيب الثمار أجزاء أخرى من مكونات زهور النباتات غير المتاع -مبيض الزهرة- مثل التخت، الكأس، القلم، والأوراق الزهرية، وهذه الثمار قد تكون بسيطة مثل ثمار التفاح، والكمثرى، والسفرجل، والتي يتضخم التخت فيها فيكون الجزء الذي يؤكل من الثمرة، وتعتبر هذه الثمار ثمارًا زهرية غير حقيقية؛ لأن الجزء الذي يؤكل فيها هو تخت الزهرة المتضخم، وقد تكون هذه الثمار غير بسيطة -أي مركبة- كما سيأتي ذكره.
أما الثمار البسيطة الجافة فتكون أغلفة الجنين فيها كلها جافة، وتكون الثمرة إما منشقة أو متفتحة أو غير متفتحة، ومن الثمار المنشقة ثمرة الخروع، ومن المتفتحة ما ينفتح بغطاء يغطي علبة، مثل ثمرة عين القط، أو بثقوب تخترق جدار الثمرة، كما هو الحال في ثمرة الخشخاش، أو بتفتح علبة بواسطة أسنان متداخلة تنفتح العلبة عبرها، كما هو الحال في ثمرة القرنفل، أو عبر مصراعين أو أكثر كثمرة نبات القطن، أو عبر حواجز قاطعة كما في ثمرة البنفسج.
ومن هذه الثمار ما يأخذ شكل الجراب مثل ثمار العليق التي تتفتح طوليًّا من جانب واحد، وثمار البقول التي تنفتح من الجانبين، ومنها ما يأخذ شكل الخردلة، مثل ثمار كلٍّ من الجرجير والمنثور.
أما الثمار البسيطة الجافة غير المتفتحة فيظل الجدار الخارجي للثمرة مغلقًا، ولا تستطيع البذور التحرر من داخلها إلا بعد كسر جدار الثمرة أو تحلله، والجدار هنا قد يكون خشبيًّا كما هو الحال في البندق، واللوز، والجوز، والبيكان، أو قد يلتحم جدار الثمرة مع قصرة البذرة كما هو الحال في ثمار القمح، وقد يكون الغلاف الخارجي غشائيًّا أو جلديًّا غير ملتحم مع قصرة البذرة، كما هو الحال في بذور الورد.
(2) مجموعة الثمار الزهرية المتجمعة:
وتتكون هذه الثمار من وحدات متجمعة تنتمي إلى زهرة واحدة -أي من متاع واحد ذي كرابل سائبة- ومن أمثلتها ثمار كلٍّ من الفراولة، والراسبري، والقشطة، والشليك.
(3) مجموعة الثمار الزهرية المركبة:
وتتكون من الثمار الناتجة عن عدد من الأزهار المجتمعة على نورة واحدة، وتشمل هذه الثمار المركبة أوراقًا، وأعناقًا، وقنابات زهرية بالإضافة إلى مُتَع -مبايض- الزهور المحتوية على أجنة النبات.
ومن أمثلة هذه الثمار الزهرية المركبة ثمار كلٍّ من التين، والجميز، والتوت، والأناناس، وهي تعتبر ثمارًا غير حقيقية لاشتراك أعداد من أجزاء الزهرة مع المتاع في تكوين الثمرة.
وقد يتسع مدلول الثمرة ليشمل كل جزء من النبات يمكن الاستفادة به عن غير طريق زهوره، وذلك مثل الجذور في حالات الجزر واللفت وما شابههما من ثمار، والدرنات في حالات البطاطس والبطاطا وأشباههما، والسيقان في حالة كلٍّ من قصب السكر والغاب، والأوراق في حالة نباتات النعناع والجرجير، والمقدونس، وأشباهها.
والثمار النباتية سواء كانت زهرية حقيقية أو غير حقيقية أو غير زهرية تمثل الغذاء الرئيس للإنسان، وللعديد من الحيوانات آكلة العشب التي يربيها للاستفادة بألبانها، ولحومها، وشحومها، وجلودها. ومن الثمار ما يشكل مصادر مهمة للكربوهيدرات والبروتينات والفيتامينات والأحماض العضوية، والزيوت والدهون، والشموع، والأدوية، والأصباغ وللخيوط المستخدمة في صناعات النسيج كثمرة القطن وغيرها من الثمار المشابهة لها.
ثالثًا: اختلاف ألوان الثمار بمعنى اختلاف أصباغها:
وكما تختلف الثمار في طرائق نموها تختلف كذلك في ألوانها، كما تختلف في روائحها وطعومها، وكل ذلك ينطلق من تركيبها الكيميائي وصفاتها الطبيعية، ومحتواها من المواد الغذائية ومن الماء، ويرد ذلك إلى القدرة التي وهبها الله -تعالى- لكل نبتة من النباتات على اختيار أقدار محددة من عناصرالأرض ومركباتهاالتي تنمو عليها.
وتختلف ألوان الثمار الداخلية والخارجية اختلافًا مميزًا لكلٍّ منها، ويفسر ذلك بتباين نسب الأصباغ الموجودة فيها، أي بكل من غلاف الثمرة ولبها، أي داخلها.
وهذه الأصباغ النباتية توجد في مجموعات أساسية وأخرى ثانوية -أو إضافية- وعلى أساس من نسب هذه الأصباغ يكون اللون النهائي للثمرة الناضجة خارجيًّا وداخليًّا، وبتعدد تلك النسب تصبح ألوان الثمرات النباتية أمرًا يكاد يكون لا نهائيًّا.
(أ) مجموعات الأصباغ النباتية الأساسية: وتشمل أنواعًا عديدة من الأصباغ التي يمكن جمعها في المجموعات التالية:
(1) مجموعة الأصباغ المخضرة:
وتعرف علميًّا باسم مجموعة الكلوروفيلات(Chlorophills)، وتختص بإعطاء النباتات بأجزائها المختلفة درجات متعددة من اللون الأخضر، خاصة فيما يسمى باسم المجموع الخضري للنبات، وتعتبر مجموعة الأصباغ المخضرة أهم الأصباغ النباتية على الإطلاق، وذلك لدورها الأساسي في عملية التمثيل الضوئي التي تقوم فيها الأصباغ الخضراء(الموجودة في أوراق النبات على وجه الخصوص مركزة في جسيمات متناهية الصغر تعرف باسم البلاستيدات الخضراء) بالتقاط الطاقة من أشعة الشمس، واستخدامها في تحليل كلٍ من الماء(الصاعد إلى الأوراق مع العصارة الغذائية المستمدة من التربة بواسطة جذور النبات)، وغاز ثاني أكسيد الكربون (الذي يمتصه النبات من الجو)، وتحليلهما إلى مكوناتهما الأساسية، ثم إعادة بناء تلك المكونات الأساسية على هيئة النشويات، والسكريات المختلفة، وإطلاق الأكسجين إلى الجو، وينتج عن عملية التحويل هذه -والمسماة باسم عملية التمثيل الضوئي- معظم الطاقة التي يحتاجها النبات والتي تخزن عادة على هيئة روابط كيميائية في عدد من المركبات الكربوهيدراتية اللازمة لحياة النبات(وهي مركبات عضوية تتكون باتحاد ذرات الكربون الناتجة عن تحلل غاز ثاني أكسيد الكربون المستمد من الجو، والهيدروجين الناتج عن تحلل الماء)، وهذه المواد الكربوهيدراتية لازمة أيضًا لحياة كلٍّ من الإنسان ولحيواناته التي يربيها من آكلات الأعشاب. والبلاستيدات الخضراء عادة ما تحتوي على عدد من الأصباغ الأساسية غير الأصباغ المخضرة، وعندما تنقص كمية تلك الأصباغ المخضرة تظهر الأصباغ المستترة، وبذلك تتغير البلاستيدات الخضراء إلى بلاستيدات ملونة، ومن البلاستيدات ما هو عديم اللون -أي لا يحتوي على أصباغ- ولكن يخزن مواد غذائية مثل النشويات، والبروتينات، والدهون مما يحتاجه النبات في نموه وفي بناء ثماره، ويتركب جزيء الكلوروفيل من حلقة من ذرات الكربون والنيتروجين حول ذرة من المغنسيوم، وذيل طويل من ذرات الهيدروجين.
(2) مجموعة الأصباغ المصفرة:
وتعرف علميًّا باسم الكاروتينات (Carotinoids) أو الجزريات نسبة إلى ثمرة الجزر، وتختص بإعطاء الثمار النباتية درجات متعددة من اللون الأصفر المبهج الذي يسر الناظرين، وهي مجموعة من الكربوهيدرات التي تتوزع في سلاسل عديدة تبدأ من اللون الأصفر وتنتهي إلى اللون البني، ومن أشهرها صبغة الجزر المعروفة باسم الكاروتين (Carotene)، وتتكون من أربع ذرات من الكربون وست وخمسين ذرة من الهيدروجين.
(3) مجموعة الأصباغ المحمرة:
وتعرف علميًّا باسم أصباغ الفيكوبيلينات (Phycobilins)، وتختص بإعطاء الثمار النباتية درجات متعددة من اللون الأحمر، وهي كذلك مجموعة من الكربوهيدرات التي تتوزع في سلاسل تتشكل بشكل جزئي من مواد بروتينية والكروتيندات التي تتميز بسلاسل طويلة من الكربون وجزيئات الكلوروفيل، وتبدأ من الأحمر الفاتح وتنتهي إلى اللون البنفسجي الغامق، ومن أشهرها صباغ الفيكوأرثرين(Phycoarthrin) الحمراء، والفيكوسيانين(Phycocyanin) المائلة إلى اللونين النيلي والبنفسجي.
والثمار النباتية -في غالبيتها- تبدأ باللون الأخضر، ومع اكتمال نموها واقتراب نضجها يبدأ لونها الأخضر في التغير بالتدريج إلى لونها الخاص بها، والذي تحكمه نسب الأصباغ الداخلة في التركيب الكيميائي لها، خاصة تلك الموجودة في القشرة الخارجية لكل ثمرة من الثمار.
ومع اقتراب نضج الثمرة يتناقص اللون الأخضر بالتدريج حتى يتلاشى جزئيًّا أو كليًّا، وتأخذ الثمرة لونها المميز لها كاللون الأصفر بدرجاته المختلفة لكلٍّ من الحمضيات والمشمش، والتفاح والبرقوق الأصفرين، واللون الأحمر لكلٍّ من الفراولة، والكريز، وكلٍّ من البرقوق والتفاح الأحمرين، والبلح الذي يبدأ باللون الأخضر ثم ينتهي إلى أيٍّ من اللون الأصفر أو البرتقالي أو الأحمر، وإذا ترطب تحول لون قشرته الخارجية إلى اللون البني أو الأسود، وكذلك ثمرة المانجو التي تبدأ باللون الأخضر الذي قد يتحول عند نضج الثمرة إلى اللون الأصفر أو البرتقالي المشرب بحمرة، أو يبقى على حاله مع تغير في درجة الاخضرار، وثمرة التوت التي قد تبدأ بأيٍّ من اللونين الأخضر أو الأبيض، وتنتهي إلى سلسلة من الألوان منها الأبيض، أو الأحمر، أو الأسود، وهكذا.
(ب) مجموعات الأصباغ النباتية الإضافية:
بجوار مجموعات الأصباغ الأساسية في الثمار النباتية توجد مجموعات من الأصباغ الإضافية التي عرفت باسم أصباغ الإحساس(Sensor Pigments)، وهذه توجد في أنسجة النباتات بنسب أقل من الأصباغ الأساسية، ولكنها تلعب أدوارًا مهمة في حياة النبات على الرغم من ضآلة نسبها، ومن هذه الأصباغ الإضافية ما يلي:
(1) مجموعة الأصباغ المؤثرة في لون النبات ككل: وتعرف علميًّا باسم مجموعة صبغة لون النبات (ThePhytochrome Pigment Group).
(2) مجموعة الأصباغ الخفية في النبات:(The Cryptochrome Pigment Group)، وهي مجموعة من الأصباغ المستترة التي لا تظهر إلا بضعف الأصباغ الأساسية.
(3) مجموعة الأصباغ النباتية الحساسة للأشعة فوق البنفسجية:
UitravioletPhotosensor Pigment Group)) مثل الأصباغ الموجودة في نبات دوار الشمس.
ولكل واحد من هذه الأصباغ الإضافية دوره المهم في حياة النبات، ولكنه -زيادة على ذلك- يختلط مع الأصباغ الأساسية بنسب متفاوتة ليعطي درجات لا نهائية من الألوان لكلٍّ من الأزهار والثمار النباتية، ولأوراق النبات في بعض الحالات الخاصة.
ودور الأصباغ النباتية بمجموعاتها الأساسية والإضافية ليس مقتصرًا على إسباغ الألوان الخاصة على كل زهرة وثمرة من الزهور والثمار النباتية بأعدادها اللانهائية -على أهميته-؛ وذلك لأن لكل واحد من هذه الأصباغ دوره فيما يجري بداخل خلايا وأنسجة النبات من أنشطة كيميائية وحيوية، وفي مقدمتها عملية التمثيل الضوئي، وعمليات الشعور والإحساس عند النبات، وغير ذلك من أدوار علِمنا بعضها، وجهلنا الكثير منها، ومن جوانب الحكمة الإلهية المبدعة لهذه الألوان المبهجة التي أضفاها الخالق العظيم على كلٍّ من الأزهار والثمار النباتية هو جذب انتباه الحشرات لتأبير الزهور حتى تثمر، وجذب انتباه كلٍّ من الإنسان والحيوان إلى الثمار النباتية ليقوم بقطفها وفتحها لأكلها، ثم إلقاء بذورها في الأرض من أجل إنباتها، واستمرارية الوجود للنباتات المزهرة إلى ما شاء الله -تعالى-؛ وذلك لأن ثمار النباتات الراقية هي الحاوية لبذورها، والبذور هي الحاوية لأجنة تلك النباتات البذرية المزهرة، وهي وسيلة تكاثرها والمحافظة على بقائها إلى ما شاء الله.
واستهلال الآية الكريمة التي نحن بصددها بذكر إنزال الماء من السماء فيه إشارة إلى دور هذا السائل العجيب في إذابة العديد من عناصر ومركبات الأرض، وجعلها في متناول جذور النباتات لامتصاصها والاستفادة بها.
وكذلك فإن في الإشارة إلى اختلاف ألوان الثمار تأكيد على تلك القدرة الإلهية المبدعة التي أودعها الله -تعالى- في الشفرة الوراثية لكل نبتة لتمكنها من اختيار ما يناسبها من العناصر والمركبات المذوبة في الماء، فتأتي كل زهرة وثمرة باللون الخاص بها على الرغم من نموها على تربة واحدة، وسقياها بماء واحد.
وهذه حقائق لم يدركها الإنسان إلا في القرن الماضي، ولم يتبلور فهمه لها إلا في العقود المتأخرة منه، وورود الإشارة إليها في كتاب الله الذي أنزل من قبل أربعة عشر قرنًا على نبي أمي -صلى الله عليه وسلم- وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لمِمَّا يقطع بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بنفس لغة وحيه: كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، فبقي في صفائه الرباني، وإشراقاته النورانية، يصدع بالحق في كل أمر من أموره، وبالحقيقة في كل إشارة من إشاراته، وسوف يبقى كذلك إلى يوم الدين تحقيقًا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا -تبارك وتعالى- على ذاته العلية فقال -عز من قائل-:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9).
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على مر الدهور والأعوام، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.