هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتيم سورة "الأنعام" ، وهي سورة مكية ، وآياتها مائة وخمس وستون (165) بعد البسملة . وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى الأنعام في أكثر من موضع . ومن خصائص هذه السورة المباركة أنها أنزلت كاملة دفعة واحدة . ويدور المحور الرئيس للسورة حول عدد من ركائز العقيدة والتشريعات الإسلامية . هذا وقد سبق لنا استعراض سورة "الأنعام" وما جاء فيها من ركائز كل من العقيدة والتشريعات، والقصص، والإشارات الكونية ، ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم الذي اتخذناه عنوانا لهذا المقال . من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم من معاني هذا النص القرآني الكريم أن حياة الإنسان هي ملك لخالقه- سبحانه وتعالى- لا يجوز التصرف فيها إلا بما شرع الله من أحكام . فدم الإنسان مصان في الإسلام لا يستباح إلا بأمر بين من الله- تعالى- لا إشكال فيه ولا شبهة . ومن ثم فإنه لا ينبغي قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وقد جعل الله- تعالى- الالتزام بهذا الأمر الإلهي وصية منه ومن صفات عباد الرحمن العقلاء الذين يفهمون حقيقة رسالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا كما حددها لهم الله ، فالتزموا بحدوده فلا يعتدوها ومن ذلك أوامره بحفظ النفس. فالنفس الإنسانية معصومة، مصانة، محافظ عليها بأمر الله، لأن حقها في الحياة لم يهبه لها إلا الله. ومن هنا فإن الحياة لا تسلب إلا بشرع من الله الذي أنزل في محكم كتابه عشرات الآيات التي تحرم قتل النفس الإنسانية إلا بالحق ، لأن قتل النفس بغير حق هو اعتداء صريح على حق من حقوق الله ولذلك قال الله - تعالى- : ( وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *) (الأنعام:151). وقال وقوله الحق -: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً *) (الإسراء : 33). وقال عز من قائل -: ( ... وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ....* ) ( الفرقان : 68 ). والحق الوارد في هذه الآيات الكريمة يفسره قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " ( رواه الشيخان ) . ولذلك قال- تعالى- : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً*) (النساء: 92، 93). - وفي تفسير ذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق " (ابن ماجة والترمذي) . - وفي حجة الوداع قال- صلى الله عليه وسلم – " إن دماءكم ، وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، اللهم هل بلغت ؟ اللهم فاشهد" (البخاري) . - وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال : رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يطوف بالكعبة ويقول: " ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله- تعالى – حرمة منك : ماله ودمه و وأن يظن به إلا خيرا " (ابن ماجة). - وقال – صلى الله عليه وسلم- : " من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله " (ابن ماجة) . - وذكر ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول عن المؤمن المقتول عمدا أنه "يجئ يوم القيامة معلقا رأسه بإحدى يديه – إما بيمينه أو شماله – آخذا رأسه بيده الأخرى تشخب أوداجه (أي تسيل دما) حيال عرش الرحمن يقول يا رب ! سل عبدك هذا علام قتلني ؟ " (الطبري). - وقال – صلى الله عليه وسلم- : " لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما " (صحيح الجامع الصغير). - وقال "من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا " (الترمذي) . ولم يقتصر الشرع في حماية دماء الناس على الجزاء الأخروي ، بل أمر بالقصاص في الحياة الدنيا بواسطة الحاكم حتى تأمن المجتمعات على دماء أبنائها، وفي ذلك يقول الحق – تبارك وتعالى-: (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ) (البقرة: 179). ومن معاني هذه الآيات التي سبق عرضها أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا أو معاهدا أو ذميا أبدا ، إلا إذا وقع ذلك بطريق الخطأ، فإذا وقع بالخطأ فإن على القاتل عتق رقبة مؤمنة ، ودفع الدية إلى أهل القتيل لأن الإيمان بصون دم المؤمن، والعهد يصون دم المعاهد أو الذمي، والدية تتحملها عاقلة القاتل بالخطأ، وهم قرابته من جهة أبيه، إلا إذا عفى أهل القتيل عن القاتل، وأسقطوا الدية عنه باختيارهم. وإذا كان القتيل مؤمنا وأهله ليسوا بمؤمنين فإن الواجب على القاتل عتق رقبة مؤمنة فقط ، ولا دية عليه. وفي حالة عدم توفر الرقبة المؤمنة فإن على القاتل صيام شهرين قمريين متتابعين توبة إلى الله – تعالى- عن القتل بالخطأ. أما من قتل مؤمنا متعمدا فإن جزاؤه هو الخلود في نار جهنم ، واستحقاق غضب الله – تعالى- ولعنته بالإضافة إلى العذاب الشديد في النار الذي أعده الخالق- سبحانه وتعالى- له في الآخرة. لذلك أفتى ابن عباس – رضي الله عنهما- بعدم قبول توبة قاتل المؤمن عمدا. وأنا بدوري أورد هذا الحكم الإلهي لعل الذين ولغوا في دماء المسلمين وقتلوهم عمدا وترصدا، أن يراجعوا أنفسهم. ولعل هؤلاء المتجبرين الظلمة الذين حولوا كلا من سوريا – مقر الخلافة الإسلامية- واليمن " السعيد " إلى بحار من الدماء والأشلاء والخراب والدمار ، من أجل الاحتفاظ بكرسي الحكم رغم أنف الغالبية الساحقة من أبناء هذين الشعبين العربيين المسلمين . لعل هؤلاء الطغاة وشلل المنافقين من حولهم أن يعودوا إلى رشدهم بعد أن قتلوا الآلاف من أبناء جلدتهم ، وأصابوا واعتقلوا وعذبوا عشرات الآلاف بفجور لم تشهده محاكم التفتيش، ولا سجون كل من الصهاينة المحتلين للأراضي الفلسطينية ولا السجون الأمريكية والأوروبية في كل من أفغانستان والعراق وأمريكا الوسطى (جوانتانامو). ولعل هؤلاء يتذكرون الأهوال التي تنتظرهم في الدنيا قبل الآخرة كما تلخصه الآيات والأحاديث التي أوردناها في هذا المقال ، ومصائر كل من "بن علي" و "مبارك" و "القذافي" لا تزال حية قائمة في أذهان العرب والمسلمين – خاصة- وأذهان أهل الأرض جميعا – بصفة عامة-. ولعل ذلك يجلي وجه الإعجاز التشريعي في النص القرآني الكريم الذي اتخذناه عنوانا لهذا المقال بتحريم قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، والله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.