news-details
الإعجاز التشريعي

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ*) - (الحجرات :9 )

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في منتصف سورة "الحجرات" وهي سورة مدنية، وآياتها ثمانية عشر (18) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لما جاء فيها من النهي عن رفع الأصوات فوق صوت النبي (صلى الله عليه وسلم) ومناداته من وراء حجراته، تقديرا لمقامه الكريم، ولمكانته عند رب العالمين. هذا وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة، وما جاء فيها من تشريعات، وآداب، وإشارات كونية، ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال. من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الخلاف متوقع بين الناس، ومنهم المؤمنون، والمفروض فيهم أنهم صفوة الناس، ولكن هذه هي الطبيعة البشرية. وانطلاقا من ذلك تؤكد الآية أن هذا الخلاف بين عباد الله المؤمنين لا ينفي عنهم صفة الإيمان، ولذلك قال- تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...*). وتكلف الآية الكريمة جماعة المؤمنين من غير هاتين الطائفتين المقتتلتين أن يبادروا بالإصلاح بينهما ولذلك قال- سبحانه وتعالى: (... فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...*) أي بادروا بإقاف الاقتتال بينهما، وباستتباب السلم وذلك بتحقيق المصالحة على أساس من الحق والعدل. فإن بغت إحدى الطائفتين على الطائفة الأخرى برفضها الصلح ، والرجوع إلى الحق، وتحقيق العدل بالرجوع إلى حكم الله- تعالى- في القضايا المختلف عليها بينهما، فإن من الواجب الشرعي على جماعة المؤمنين أن يقاتلوا الفرقة الباغية حتى يردوها إلى حكم الله- تعالى- ولذلك قال: (.... فَإن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...*) وأمر الله هنا هو لجماعة المؤمنين أن يقاتلوا البغاة من أجل إيقاف الاقتتال بين الطائفتين، حتى يرجعوا إلى حكم الله- تعالى-، ويوقفوا الخصومة بينهما، حقنا لدماء المؤمنين، وصونا لحقوق كل من الطرفين، وذلك بإزالة أسباب الاقتتال ابتداءً، وبفرض حكم الله فيما اختلفوا عليه من أمور ، تحقيقا للعدل الذي أمر به رب العالمين ، حيث قال- تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*) ( المائدة : 8 ). ولذلك فإن هذا الأمر الإلهي بمقاتلة البغاة أٌتبع مباشرة بقول الحق- تبارك وتعالى-: (... فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ*) أي : فإن عادت الطائفة الباغية إلى حكم الله، فإن على جماعة المسلمين أن يقوموا بالإصلاح بيت الطائفتين بالعدل، وأن يحكموا في الخلاف بينهما بما يرضي الله. وهذا التشريع الإلهي له حكمة بالغة من أجل صيانة السلام في مجتمعات المؤمنين، ووقف اشتعال الخلافات والاقتتال بينهم بسبب اندفاع طائش، أو نزوة استعلاء بالقوة المادية وحب للسلطة، أو بغضب أعمى للقبيلة أو العائلة، أو وشاية واش أو ساع بالوقيعة بينهم، فيحدث الاقتتال بين الأخوة في غواية من الشيطان دون تيقن من حقيقة الأمور وتريث في مدارسة أسبابها. وهذا التشريع يمثل قاعدة محكمة في حالة نزوغ الشيطان بين الأخوة المؤمنين بالله فيغريهم بالاقتتال فيما بينهم، وعلى جماعة المسلمين المبادرة بالإصلاح بين الطرفين من أجل حقن دمائهم، وإزالة الخلافات من بينهم، صونا لكلمة المؤمنين من التفرق، وحفاظا على مجتمعاتهم من التمزق والتنازع والتفكك، وإقرارا لكل ملامح الحق والعدل والصلاح الذي أمر به الله- تعالى- بين الناس، وصونا لهم من نزغات شياطين الإنس والجن ، والشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم من العروق !! ولذلك جاءت الآية التالية مؤكدة على حق الأخوة بين المؤمنين ، مذكرة جميع الأطراف بهذا الحق، تحقيقا لتقوى الله- تعالى- وطلبا لرحمته فقال- سبحانه وتعالى –: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *) (الحجرات : 10). فالأصل أن أخوة الإيمان تجلب الأمن والسلامة للمجتمع المؤمن، وأن تعين على وحدة صفه، وعلى جمع كلمته، وتعاون جميع أفراده حتى في حالات الاختلاف في الرأي، أو تعارض للمصالح، أو تعرض لفتنة الوقيعة بين المؤمنين بواسطة أحد من الفاسقين. وفي مثل هذه الحالات تؤمر بقية هذه الأمة المؤمنة بسرعة التدخل بين المتقاتلين لإيقاف القتال، فإن رفضت إحدى الطائفتين الصلح، وبغت على الطائفة الأخرى بشئ من الظلم، فإن شرع الله- تعالى- يأمر بقية جماعة المؤمنين بقتال الطائفة الباغية حتى تجبرها على وقف القتال وحقن دماء المسلمين. وهذا التشريع السماوي العادل سبق كل قوانين التحكيم الموضوعة بكماله، وعدله، ونزاهته، لأنه احتكام إلى أمر الله طلبا لمرضاته، وتحقيقا لتقواه، ورجاء لرحمته، فلا يشوبه هوى للنفس، ولا تعصب أعمى، ولا مطمع من المطامع الدنيوية الزائلة. ولو فهم مسلمو اليوم حكمة هذا التشريع الإلهي، وطبقوه في حالة الخلاف بين عدد من طوائفهم لتمكنوا من حقن دماء عشرات الآلاف من أبناء هذه الأمة الذين سقطوا، ولا يزالون يسقطون في ساحات الاقتتال بين الأخوة في كل من ليبيا واليمن وسوريا، بين قتيل، وجريح، ومعتقل، ومشرد، طوال العديد من الشهور الماضية. ولو طبق مسلمو اليوم هذا التشريع الإلهي ما غرقت هذه البلاد من بلاد المسلمين فيما تغرق فيه اليوم من خراب ودمار شاملين، وبحار من الدماء والأشلاء، وساحات للتعذيب الذي جاوز كل الحدود، وشوه صورة العرب والمسلمين في أعين أهل الأرض جميعا !! ولو فقه مسلمو اليوم حكمة هذا التشريع الإلهي ما أجبر بلد مسلم مثل ليبيا إلى طلب التدخل الأجنبي في النزاع القائم بين أبنائه. ولكنه غياب شرع الله عن الساحة العربية بتدخل الأعداء في شئوننا الداخلية منذ الاحتلال الغريب لديار المسلمين منذ أكثر من قرن من الزمان وكان همه الأكبر هو إقصاء الإسلام عن مقامات اتخاذ القرار، ونجح للأسف في تحقيق ذلك. فهل نستطيع في ربيع الثورات العربية المباركة أن نصحح هذا الخلل الذي أضر بنا ضررا بليغا وذلك بالرجوع إلى تطبيق أحكام الله في كل أمورنا خاصة في حالات الاختلاف فنكون بذلك قد نجحنا في تصحيح أوضاعنا، وحقن دما المتقاتلين من بيننا، وفي رد كيد أعدائنا إلى نحورهم ! هذا هو الأمل المنشود من كل هذه الثورات العربية المباركة، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ*) (يوسف :21). وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.