هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة "النور"، وهي سورة مدنية، وآياتها أربع وتسعون (94) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى حقيقة أن الله- تعالى- هو نور السموات والأرض، وأنه يهدي لنوره من يشاء ، وأن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور . ويدور المحور الرئيس للسورة حول عدد من التشريعات الإلهية الملزمة ، والضابطة لسلوك المسلم في حياته الخاصة والعامة ، وذلك صونا لكرامة الإنسان ، ولطهارة المجتمع . هذا ، وقد سبق لنا استعراض سورة "النور" وما جاء فيها من التشريعات والآداب ، ومن الإشارات الكونية ، ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في تحريم قذف المحصنات واعتباره من أكبر الكبائر ، وذلك بعد الإعلان الحاسم الذي استهلت به هذه السورة الكريمة ، وبعد تحريم الزنا تحريما قاطعا ، وتفظيع جرمه ، وتقرير حده، وتقطيع الصلة فيما بين الزناة والمجتمع المسلم . من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم من دلالات قوله- تعالى-:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ...*} أي: الذين يقذفون العفيفات من الحرائر (ثيبات وأبكارا) بتهمة الزنا بدون دليل قاطع . وكل أنثى عفيفة هي مُحصَنة ومُحصِنة (بالفتح والكسر)، وكل امرأة متزوجة فهي مُحصَنة (بالفتح) . والقذف قد يكون بالتصريح أو بالتلميح (أي بالتعريض أو الكناية) وإن كان التعريض عند عدد من الفقهاء ، لا يعتبر قذفا إلا إذا اعترف القاذف بقصد القذف فيقام عليه الحد . والسبب في ذلك أن التعريض فيه احتمال ، والاحتمال شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات كما ورد في حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه:" إدرأوا الحدود بالشبهات" . وكل مسلمة عفيفة تكون محصنة بالإسلام ، وبالعفاف الذي يأمر به دينها ، وبالعقل ، وبالبلوغ ، وبحرية الإرادة ، وبالتزوج، وفي ذلك يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من أشرك بالله فليس بمحصن" (البخاري، ومسلم) . وفي الآية الكريمة التي نحن بصددها يقول ربنا- تبارك وتعالى- {... ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ...*} و (الشهداء) جمع (شاهد)، والمقصود بأربعة شهداء هنا هو أربعة من الرجال ، لأن شهادة النساء لا تقبل في حد القذف ، سترا على العباد، لتميز النساء بالثرثرة في أغلب الأحوال . ويؤكد ذلك مجئ العدد (أربعة) في الآية الكريمة بصيغة التأنيث لأن الأعداد من الثلاثة إلى العشرة لا تأتي بصفة التأنيث إلا مع المذكر ، والعكس صحيح . ولم تذكر الآية الكريمة في صفة (الشهداء) أكثر من أنهم أربعة رجال . ومن الفقهاء من يرى أنه لا بد للشاهد أن يكون عدلا ، ومنهم من لا يشترط ذلك . كذلك لا فرق عند فقهائنا بين أن يؤدي الشهود الأربعة شهادتهم مجتمعين أو متفرقين . وفي قوله-تعالى-: {... فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً...} أي إضربوهم ثمانين ضربة على جلودهم ، بالجلد أو بغيره ، وذلك لأن الجلد هو الضرب ، وأن (المجالدة) هي المضاربة في الجلود بالجلود أو بغيرها . وشروط (القاذف) هي شروط التكليف من البلوغ، والعقل ، والحرية . و (حد القذف) فيه شئ من الانتقام من (القاذف) ، لتجاوزه حدا من حدود الله ، وفيه رد شئ من حقوق العباد وهو إزالة الفضيحة والمعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف بدون دليل قاطع . من هنا كان في تشريع حد القذف صيانة لحق المقذوف الذي اتهم بأمر باطل، وحفظا لحق الله- تعالى- الذي لا يرتضي من عباده إلا الصدق وقول الحق، ولذلك قال-تعالى- في حق القاذفين:{....وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ*} وأن من معاني الآية الكريمة أن القاذف الكاذب الملفق يحكم عليه بالجلد ثمانين جلدة ، وبألا تقبل منه شهادة أبدا ، وأن يوصف بالفسوق والعصيان لأوامر الله . ولكن من رحمة الله بعباده أنه بعد هذه الآية الكريمة عقب بقوله- تعالى- { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*} (النور:5) . والفقهاء يفسرون الآيتين الرابعة والخامسة من سورة "النور" على وجهين: فمنهم من يرى أن الاستثناء الوارد بعد الجمل المتعاطفة بحرف (و) يرجع إلى كل الجمل السابقة عليه ، ومنهم من يراه مقصورا على الجملة الأخيرة فقط . وعلى ذلك فالأولون يحكمون بأن القاذف بغير دليل إذا تاب بعد إقامة الحد عليه قبلت شهادته ، ورفع عنه وصف الفسق . والآخرون يرون أن يرفع عنه وصف الفسوق فقط ، ولكن لا تقبل شهادته . وحجة هؤلاء هي حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه" " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف ". ويتضح وجه الإعجاز التشريعي في هذا الحكم الإلهي في أن الذين ينتهكون حرمات الناس بالباطل ، فيرمون العفائف الشريفات الطاهرات أو الشرفاء الأطهار من المسلمين بفاحشة الزنا – وهي فاحشة تخدش العرض والشرف وتثلمهما – ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة من الشهداء فجزاؤهم الجلد ثمانين جلدة ، وأهدار كرامتهم بعدم قبول شهادتهم ، واعتبارهم من الفاسقين ، إلا إذا تابوا بعد إقامة الحد عليهم ، واعترفوا على أنفسهم بأنهم كذبوا، وقالوا بهتانا فيما قذفوه ، حتى يكون في ذلك تبرئة للمقذوف من فم القاذف . وجريمة القذف دون دليل قاطع إذا تركت دون عقاب رادع فإنها تدمر كرامة الأفراد، وتشيع الفاحشة في المجتمعات فتقوض بنيانها . وذلك لأن هذه الجريمة إذاشاعت فإنها تترك الباب مفتوحا أمام كل من شاء أن يتهم بريئا في عرضه بهذه التهمة النكراء، ثم يمضي بدون عقاب ، يلوث الأعراض ، ويدمر السمعة ، ويجعل كل فرد في المجتمع عرضة لهذا الاتهام الشنيع، مما يثير الشكوك والريبة فيه ويهدده بالإفلاس والانهيار . ولصيانة المجتمعات المسلمة من أخطار ذلك شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف ، وجعلها قريبة من عقوبة الزنا ، ردعا لكل من يسول له الشيطان ، أو تحدثه تفسه الخبيثة في اقتراف تلك الجريمة النكراء ، والولوغ في أعراض الناس بالباطل ، أو بالظن الكاذب ، ولذلك قال- تعالى- في نفس السورة : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ*} (النور:23) . والمجتمعات الإنسانية- بصفة عامة- والمسلمة منها- بصفة خاصة- يؤذيها السكوت على إشاعة التهم الباطلة بين أفرادها ، لأن ذلك قد يعين على الترخص فيما تشيعه تلك التهم من جرائم ، والوقوع فيها إذا لم تتوافر العقوبات الرادعة لها . وكل من يتعرض لإحدى هذه التهم الباطلة قد يصيبه من التدمير النفسي ما لا يقدر علاج على إصلاحه ، ومن هنا كان تشديد القرآن الكريم على عقوبة القذف حماية لكل من الأفراد والمجتمعات المسلمة من الدمار، والله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .