من أسرار القرآن
من مقالات جريدة الأهرام المصرية
"... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ..." (آل عمران: 36)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في أواخر الخمس الأول من سورة آل عمران، وهي سورة مدنية، ومن طوال سور القرآن الكريم؛ إذ تبلغ آياتها المائتين بعد البسملة، وبذلك فهي ثالثة سور القرآن الكريم طولا بعد كلٍّ من سورتي البقرة والأعراف، وقد سميت بهذا الاسم الكريم لورود الإشارة فيها إلى السيدة (مريم ابنة عمران) أم عبد الله ورسوله المسيح عيسى -على نبينا وعليه من الله السلام-، وقد سبق لنا استعراض سورة آل عمران، وما جاء بها من ركائز العقيدة، وقواعد التشريع، والإشارات الكونية، ونركز هنا على الدلالات العلمية لقول ربنا -تبارك وتعالى- : "... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ..." (آل عمران:36).
من الدلالات العلمية للنص الكريم:
هذا النص القرآني الكريم جاء على لسان والدة السيدة مريم ابنة عمران بعد أن وضعتها وتبين لها أنها أنثى، وكانت قد دعت الله -تعالى- أن يهبها ولدًا، فلما حملت نذرت أن يكون محررًا -أي خالصًا لله، مفرغًا لعبادته ولخدمة المسجد الأقصى- فلما جاءت أنثى اعتذرت إلى الله -تعالى- أنها لم تتمكن من الوفاء بنذرها، ويعرض القرآن الكريم لهذا الموقف النبيل بقول ربنا -تبارك وتعالى-:"إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (آل عمران:35، 36).
والتعبير بـ"... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ..." جاء في مقام الاعتذار عن عدم تمكنها من الوفاء بالنذر الذي قطعته على نفسها، وتبقى الصياغة دقيقة علميًّا كما يتضح من العرض التالي:
الاختلافات العلمية بين الذكر والأنثى من بني آدم:
أولا: في الشكل الخارجي:
من الثابت علميًّا أن الأنثى البالغة من بنات حواء هي -بصفة عامة- أصغر حجمًا من نظيرها الذكر، فهي أقصر في الطول، وأقل في الوزن بحوالي (10 -15%) في المتوسط، وهما كذلك يختلفان في منابت الشعر، وأحجام كلٍّ من الرأس، والعنق، والذقن، والصدر، وطول كلٍّ من الأطراف، والأصابع، والجذع الأعلى، وفي قوة الاحتمال بصفة عامة.
ثانيًا: في الصفات التشريحية:
يختلف كلٌّ من الذكر والأنثى البالغين في صفاتهما التشريحية اختلافًا بينًا، خاصة في تركيب الجهاز البولي التناسلي، وما يستتبعه في الأنثى البالغة من الدورة الشهرية، والحمل، والوضع، والنفاس، والإرضاع، وغير ذلك من مسؤولياتالأمومة.
ويختلف الجنسان كذلك في حجم كلٍّ من المعدة، والكليتين، والزائدة الدودية، وكلها أكبر حجمًا في الأنثى البالغة عنها في نظيرها الذكر البالغ، بينما يتفوق هو في حجم كلٍّ من الرئتين، والقلب، والكبد، والعضلات؛ فالقلب في الأنثى البالغة أصغر حجمًا عن قلب نظيرها الذكر بحوالي (25%)، وعدد ضرباته أسرع بحوالي (10%)، وضغطه أقل بحوالي (10 مم) زئبق. ويختلف الجنسان أيضًا في تركيب الدم وصفاته الطبيعية والكيميائية، وفي حجم وأطوال وكثافة العظام، وفي نسب الدهون وأماكن توزيعها في الجسم، ورئتا الأنثى البالغة أقل حجمًا من رئتي نظيرها الذكر بحوالي (25 -30%)، وحجم كبدها أصغر بحوالي (20%)، وكتلة عضلاتها تبلغ نصف كتلة عضلات نظيرها الذكر، وهي أقل قوة منه بحوالي (20%)، والدهون عندها تشكل (22%) من كتلتها، بينما لا تتعدى (10%) من كتلة نظيرها من الجنس الآخر، وعدد كريات الدم الحمراء تقل بنسبة (20%) في الإناث عن نظائرهن من الذكور.
ثالثًا: في تركيب المخ وبقية الجهاز العصبي:
من الثابت علميًّا أن الجهاز العصبي مختلف تمامًا عند البالغين من الجنسين؛ فحجم المخ في الذكر البالغ يزيد بحوالي (10 -15%) عن نظيره في الأنثى، وبالتالي يزيد بنفس النسبة عدد وكثافة الخلايا العصبية في قشرة الدماغ (Cortical Neurons)، كذلك يزيد حجم خلايا المخ في الذكور عنها في نظائرهم من الإناث بحوالي (30%)، وتزيد نسبة المادة الرمادية (Gray Matter) في مخ الذكور البالغين بأكثر من ستة أضعاف نسبتها في الإناث اللاتي يحملن في أمخاخهن عشرة أضعاف ما تحمل أدمغة الذكور البالغين من المادة البيضاء (white matter)، ويزيد سمك الشق الأيمن من قشرة المخ عند الذكور، ويتساوى سمك الشقين عند نظائرهم من الإناث، ويختلف معدل استهلاك الناقل العصبي (Dopamine) بين الجنسين اختلافًا كبيرًا، وهناك فروق واضحة في عدد وحجم الخلايا العصبية المحركة (Motorneurons) في بقية الجهاز العصبي.
ومن أبرز الاختلافات بين مخي الذكر والأنثى البالغين أن الفصيص الصدغي السفلي للمخ (Inferior Parietallobule) هو أضخم بكثير في الذكر عنه في الأنثى، وفصه الأيسر أضخم من الجزء الأيمن في الذكور البالغين، وهما متعاكسان أو متساويان تقريبًا في نظائرهم من الإناث، ومعروف أن هذا الجزء الأيسر هو الجزء من المخ المتعلق بالإدراك والانتباه، وبالقدرات الذهنية الحسابية، ولعل ذلك يفسر كثيرًا من الاختلافات في النوازع والاهتمامات، والرغبات والسلوكيات عند كلٍّ من الجنسين.
كذلك فإن حجم خلايا أنوية الوطاء أو ما يعرف أحيانًا باسم ما تحت المهاد (Hyothalamousnuclei) في الذكور البالغين يبلغ ضعف حجمها من الإناث، ويختلف شكل أنوية ما فوق التصالب البصري(suprachiaSmaticnuclei) في الجنسين اختلافًا كبيرًا، وبالتالي فإن طبيعة الذاكرة تختلف عند كلٍّ منهما بشكل واضح.
أما النظام الحوفي في الدماغ (Limbic System) -والذي يعتبر مركز العاطفة- فهو أضخم في الإناث البالغات، وأشد حساسية منه عند نظائرهن من الذكور، وكمية الدم التي تتدفق إليه تفوق نظيرها عندهم بثماني مرات على الأقل. ومن الفروق الفاصلة بين مخي الجنسين كلٌّ من الجسم الثفني أو الجاسئ (Corpuscallosum) والأخدود الدماغي الأمامي (Anteriorcommissure) اللذين يربطان نصفي المخ الأيمن والأيسر، وكلاهما أكبر في الإناث البالغات، وبالمثل فإن منطقتي الكلام المعروفتين باسم (Brocaand Wernicke) فإنهما أضخم بنسبة (18 -20%) في الإناث.
كذلك هناك فروق كبيرة في التركيب الكيميائي للمواد الناقلة داخل الجهاز العصبي بين كلٍّ من الأنثى والذكر البالغين.
رابعًا: الفروق الوراثية:
يختلف الجنسان الذكر والأنثى اختلافًا بينًا على مستوى الخلية؛ ففي حالة الذكر تحتوي كل خلية جسدية على44 صبغيًّا جسديًّا + صبغيين تناسليين، هما: (X) الذي يحمل صفات مؤنثة، و(Y) الذي يحمل صفات الذكورة، وذلك فيما عدا خلايا التكاثر -الحيامن- التي يحمل كلٌّ منها 22 صبغيًّا + (X) أو22 صبغيًّا+(Y).
وفي المقابل تحمل كل خلية جسدية في الأنثى 44 صبغيًّا + صبغيين تناسليين، هما:(X)، و(X)، بينما تحمل البويضة نصف هذا العدد (22 صبغيًّا +(X)).
والحيمن الذي يحمل شارة التذكير(Y) يختلف في شكله ومميزاته عن ذلك الذي يحمل شارة التأنيث(X)؛ فالأول أكثر لمعانًا ووميضًا وإن كان أصغر حجمًا، وأسرع في حركته، وأقل عمرًا (24 ساعة فقط)، وهو مدبب الرأس، والثاني أكبر حجمًا، وأقل ضخامة في الرأس، وأقل سرعة في الحركة، وأطول عمرًا نسبيًّا (72 ساعة).
وهذا هو ما يفسر اختلاف جسدي كلٍّ من الذكر والأنثى من الوجهة الشكلية، والتشريحية، والوظيفية على مستوى كلٍّ من الخلية، والنسيج، والعضو، والجهاز، والجسد كله، كما يفسر التباين في القدرات العقلية والعاطفية والسلوكية وغير ذلك، ويوضح الفرق بين تأثير كلٍّ من المورثات والهرمونات في جسد كلٍّ منهما، علمًا بأن نسبة الاختلاف في المورثات بين الجنسين هي حوالي (2 -3%) من مجموع المورثات في الخلية الحية البشرية، والمقدر عددها بحوالي ثلاثين ألف مورث إلى خمسة وثلاثين ألفًا.
وقد لوحظ أن الصبغي المذكر(Y) مرتبط بعامل يعرف بالرمز (Sry) يؤثر في الخصائص الحيوية للخلايا العصبية، وكذلك الصبغي المؤنث (X) مرتبط بمورث يرمز له بالرمز (PCDHX)، يوجد في مخ المرأة بأكثر من ضعف وجوده في مخ الرجل.
خامسًا: الفروق في الهرمونات:
تعزى الاختلافات السلوكية بين الجنسين من بني آدم إلى تأثير الهرمونات الجنسية (Gonadal Steroids) على المخ، فمنذ المراحل الأولى لجنين الإنسان -من الأسبوع السابع إلى الثالث عشر- يزداد تركيز الهرمونات الذكرية أو الأنثوية حسب إرادة الخالق -سبحانه وتعالى-، فيتشكل مخ الجنين بأيٍّ منهما في مجموعتين متمايزتين تمايزًا كاملا، وتكفي في ذلك الإشارة إلى تركيز الهرمون الذكري المعروف باسم تستوستيرون (Testosterone) عن الذكور البالغين إلى عشرين ضعف ما عند الإناث البالغات، وفي المقابل يحتوي دم الأنثى الحاملة لجنين أنثى على نسبة عالية من الهرمونات المشيمية (CHORIONICGONADOTROPHINS) بنسبة تزيد بحوالي20% عند نظيرتها الحاملة لجنين ذكر.
سادسًا: الفروق في معدلات النمو والبلوغ والشيخوخة:
يتباين الجنسان -الذكر والأنثى- تباينًا واضحًا في معدلات النمو والبلوغ؛ فالذكور أسرع في النمو في مرحلة الطفولة المبكرة من الإناث بصفة عامة، ويبدأ الذكور في البلوغ من سن (10 -14) سنة، بينما تبدأ الإناث في البلوغ من سن (11 -15) سنة، والرجل يصل إلى الشيخوخة بين (65،55)، وتبدأ المرأة طور الشيخوخة بين (55،45) سنة بصفة عامة.
سابعًا: في النواحي النفسية:
يختلف التكوين النفسي لكلٍّ من الذكر والأنثى اختلافًا كبيرًا، ففي الوقت الذي يتميز فيه الذكور -بصفة عامة- بشيء من الخشونة، وبسيادة العقل للعاطفة، وبالواقعية في التفكير بعيدًا عن الخيال، وبالفاعلية في الأعمال بعيدًا عن السلبية، فإننا نجد الإناث -بصفة عامة- يتميزن بالحساسية المفرطة، ورقة المشاعر، وبسيادة العاطفة للعقل، وهيمنة المشاعر الشخصية، واتساع الخيال على الأمور الواقعية والمنطقية، وبروز ملكة الحدس والبداهة الفطرية، والتميز بالغيرة الشديدة، وحب التملك، والوهم، والخوف، والتشاؤم، واختيار الأشياء بغير موضوعية وبغير منطق في أغلب الأحيان، وعدم القدرة على الانسلاخ من الذاتية الشخصية وعن التقاليد الموروثة والتنشئة في مراحل الطفولة، وعلى ذلك فإن التكامل بين الجنسين ضرورة من ضرورات استقامة الحياة على الأرض.
هذه الفروق التي خلقها الله -تعالى- بين الجنسين -الذكر والأنثى- لها انعكاسات أخرى عديدة من ناحية المناعة، والعافية، والعرضة للإصابة بالأمراض، والشعور بالآلام، والتأثر بالأدوية المختلفة خاصة أثناء عمليات التخدير والجراحة المختلفة وغيرها، ولذلك اعترفت بها المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ، ولكن فاجأتنا الحضارة المادية المعاصرة بمحاولة تجاهلها بسبب معاداتها للدين، وانطلاقها من منطلقات مادية محضة تدعي أن التقسيمات والأدوار المنوطة بكلٍّ من الرجل والمرأة هي من صنع المجتمع، وثقافته، وأفكاره السائدة، وهذه كلها أمور مصطنعة، وبالإمكان تغييرها أو إلغاؤها بالكامل، بحيث يمكن للمرأة أن تقوم بدور الرجل، ويمكن للرجل أن يقوم بدورها، وقد تجلت هذه المفاهيم المغلوطة في عدد من المؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر المرأة الذي عقد في بكين سنة (1995م)، وفيه دفعت القوى المادية المعاصرة من خلال هيئة الأمم المتحدة بهذه المفاهيم المغلوطة من أجل فرضها على دول العالم بغض النظر عن عقيدة المجتمع وثقافته وعاداته وتقاليده، ومن هذه الدعاوى الشيطانية الباطلة: هدم مؤسسة الأسرة واستبدالها بالمساكنة، وإباحة الشذوذ الجنسي، والسماح لهؤلاء الشواذ بالتبني، وإعطاء الحرية للمرأة لإنشاء أسرة من امرأة واحدة تنجب ممن تشاء بالزنى، وبذلك تتعدد صور وأنماط الأسرة الشاذة التي يدعون إليها من رجلين شاذين أو امرأتين سحاقيتين، أو من رجل وأولاد بالتبني، أو من امرأة وأولاد زنى، أو بالتبني، وهكذا يسوِّل لهم الشيطان الخروج عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وفي ظل هذه الفوضى -في غيبة من الالتزام بالدين الصحيح- تأتي العلوم المكتسبة في قمة من عطاءاتها العلمية والتقنية؛ لتؤكد الفروق الهائلة بين الجنسين على جميع المستويات، من المورثات والهرمونات، إلى كلٍّ من الخلايا الجسدية والتكاثرية، إلى الفروق النفسية والشخصية المميزة، والتي تتضح بجلاء في طرائق التفكير، والميول، والرغبات، والسلوك، وكل ذلك يقف في وجه الدعاوى المادية المنحرفة المنادية بالمساواة الكاملة بين الذكر والأنثى، ويشير إلى المعجزة القرآنية في قول ربنا -تبارك وتعالى-: "... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ..." (آل عمران:36).
فالحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على بعثة خير الأنام، وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.