(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ...) [سورة النساء: 11]
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في منتصف العشر الأول من سورة "النساء"، وهي سورة مدنية، وآياتها مائة وستة وسبعون(176) بعد البسملة، وهي رابع أطول سور القرآن الكريم بعد كل من سورة "البقرة"، و"الأعراف"، و"آل عمران"، وقد سميت السورة بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من الأحكام الشرعية التي تتعلق بالنساء.
ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضايا التشريع لكل من المرأة، والأسرة، والبيت، والمجتمع، والدولة. ومن أبرز ما جاء فيها تشريعات الزواج، والمواريث، والعبادات، والجهاد في سبيل الله. ونبهت سورة "النساء" إلى ضرورة حسن تربية الفرد المسلم؛ من أجل إقامة المجتمع المسلم، وتطهيره من المخالفات الشرعية، ومن رواسب الجاهلية القديمة والجديدة.
وتقرر سورة "النساء" وحدانية الخالق -سبحانه وتعالى- كما تؤكد وحدة رسالة السماء، والأخوة بين الأنبياء، ووحدة الجنس البشري الذي ينتهي نسبه إلى أبوينا آدم وحواء -عليهما من الله السلام-؛ ولذلك يرتبط كل الناس بوشيجة الرحم، وهي وشيجة مقدسة عند رب العالمين لا يتجاوزها إلا كل معتد أثيم، ومن هنا تدعو سورة "النساء"-ابتداء من مطلعها- إلى احترام هذه الوشيجة التي يقول فيها ربنا -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
وانطلاقا من هذا الأمر الإلهي تؤكد السورة الكريمة ضرورة قيام المجتمع الإنساني على قاعدة الأسرة، التي تحاول الحضارة المادية المعاصرة تدميرها، كما تؤكد إحياء الضمير الإنساني، الذي قتلته السلوكيات الجائرة، وعلى ربط المخلوقين بخالقهم عن طريق الدين الصحيحالذي أنزله الله -تعالى- على فترة من الرسل، وأتمه، وأكمله، وحفظه في رسالتهالخاتمة، التي بعث بها الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الناس -أفرادا، وأسرا، ومجتمعات- بهذا الدين الخاتم، الذي ارتضاه لنا ربنا -تبارك وتعالى- وأمر به عباده أن يخلصوا ولاءهم لقيادته المؤمنة، الخاضعة بالطاعة التامة لله ولرسوله، وأمرهم بالجهاد في سبيل الله؛ من أجل مقاومة الظلم والقهر والطغيان، ومن أجل إقامة عدل الله في الأرض، ووعد بأعظم الأجر على ذلك، كما أمر بالهجرة في سبيل الله، وعدم الرضوخ لذل الجبابرة من الحكام الجائرين، ووعد المجاهدين الصادقين الصابرين بالفتح المبين.
وتتحدث سورة "النساء" عن بعض مشاهد الآخرة؛ تحذيرا للغافلين من أهوالها، وتنادي على أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل الله -تعالى- على خاتم أنبيائه ورسله مصدقا لما معهم، قبل أن يطردهم الله -سبحانه وتعالى- من رحمته، فينزل بهم سخطه ويحل عليهم غضبه وعذابه، وتحذرهم من الشرك بالله،فتقول:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48] ويتكرر هذا الحكم في نفس السورة بقوله –تعالى-: (... ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) [النساء:116].
وعرضت سورة "النساء" لجانب من طغيان اليهود، قائلة:(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا* وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء:160، 161].
وتمتدح السورة الكريمة القرآن الكريم، موجهة الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا) [النساء:166].
كما تمتدح الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- بقول ربنا -سبحانه وتعالى-:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِوَكَانَاللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:170].
وتؤكد ذلك بقوله -عز من قائل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) [النساء:174].
وتدعو سورة "النساء" إلى عدم المغالاة في الدين، وتختتم باستكمال الضوابط الشرعية لقضية الميراث، والتي بدأت بالآيتين 11، 12 وختمت بالآية رقم176.
من التشريعات الإسلامية في سورة "النساء":
(1) الأمر بتقوى الله -تعالى- وعبادته بما أمر، ومداومة استغفاره والتوبة إليه، وطاعة أولي الأمر من المسلمين الصالحين، والرجوع إلى حكم الله -تعالى- وحكم النبي والرسول الخاتم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- عند الاختلاف في الرأي، كما تأمر بمعاداة الشيطان وبعدم اتخاذه وليا؛ لأن في ذلك الخسران المبين.
(2) الأمر بالمحافظة على المال العام والخاص، وعدم تسليمه للسفهاء، وبالحرص على مال اليتيم، وعلى حقوق الضعفاء في المجتمع، وعلى أموال الآخرين وحقوقهم، والتحذير من مغبة الاعتداء عليها.
(3) تأكيد حقوق الزوجات، والأمر بمعاشرتهن بالمعروف، وبإعطائهن جميع حقوقهن، ومن حقوقهن المهر الذي هو عطية خالصة لهن، وليس لأحد الحق في شيء منه، إلا أن تطيب نفس الزوجة بالتنازل عنه أو عن شيء منه، ومن حقوقهن أن لهن على الرجال حق الصون والرعاية، والقيام بشؤونهن بما أعطى الله -تعالى- الرجال من صفات وقدرات تهيئهم لذلك.
(4) تحديد المحرمات من النساء، مع وضع الضوابط الصحيحة لاستقامة حياة الأسرة، والقوانين المنظمة لها، والنهي عن تمني أي من المسلم أو المسلمة أن يكون في غير جنسه؛ لأن لكل جنس دوره الملائم لفطرته التي فطره الله -تعالى- عليها، ولاستعداداته التي زوده الله -سبحانه- بها، وبالجنسين معا يكتمل المجتمع، وتستقيم أموره، وتستمر الحياة إلى ما يشاء الله -تعالى- ولكل فرد نصيب مما اكتسب، وعليه أن يسأل الله العلي القدير من فضله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء:32].
(5) الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وإلى ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وإلى الجار ذي القربى، والجار الجنب، وإلى كل من الصاحب بالجنب، وابن السبيل، والأمر باحترام العهود والمواثيق، وبأداء الأمانات إلى أهلها، وبِردِّ التحية، والحكم بين الناس بالعدل، وبالهجرة في سبيل الله إذا لزم الأمر.
(6) النهي عن الاختيال والفخر، وعن التباهي والكبر، وعن تزكية النفس، وعن افتراء الكذب على الله، وعن الجهر بالسوء في القول إلا من ظلم، والنهي كذلك عن البخل، وعن بذل المال رئاء الناس، وعن النفاق، أو موالاة أي من المنافقين أو المشركين أو الكافرين، أو الرضوخ لهم، وعن تعاطي المسكرات، وعن الاقتراب من الفاحشة أو إشاعتها بين الناس.
(7) التقيد بأوامر الله -تعالى- في توزيع الميراث.
(8) تفصيل شروط الطهارة.
(9) الأمر بتدبر آيات القرآن الكريم، والحرص على الاجتهاد في فهم دلالاتها.
(10) تأكيد مواقيت الصلاة، والإشارة إلى فضل إقامتها في وقتها، وتشريع كل من صلاة المسافر، وصلاة المقاتل المعروفة باسم صلاة الحرب أو صلاة الخوف.
(11) النهي عن قتل المؤمن إلا خطأ، وتفصيل أحكام القتل الخطأ، والنهي كذلك عن الوجود في مجالس يُستهزأ فيها بآيات الله.
(12) الأمر بالقتال في سبيل الله دون خشية من أولياء الشيطان، وتأكيد فضل المجاهدين على القاعدين، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى وقوله الحق-: (فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء:76].
من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة "النساء":
(1) الإيمان بالله -تعالى- ربا واحدا أحدا، فردا صمدا، بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، واليقين بأنه رقيب على عباده، حسيب عليهم، عادل بينهم، لا يظلم مثقال ذرة، وأنه -سبحانه- محيط بكل شيء، تواب رحيم، عليم حكيم، غفور ودود، غني حميد، قدير وكيل، سميع بصير، شاكر كريم إلى غير ذلك مما وصف به ذاته العلية من صفات الكمال والجلال والجمال.
(2) اليقين بأن الجنة حق، وأن النار حق، وأنها إما جنة أبدا، أو نار أبدا.
(3) التسليم بأن الله -تعالى- لا يغفر أن يشرك به، ويغفر مادون ذلك لمن يشاء.
(4) وجوب طاعة الله -سبحانه وتعالى- وطاعة جميع أنبيائه ورسله، وعلى رأسهم خاتمهم أجمعين سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
(5) اليقين بأن القرآن الكريم هو كتاب الله المنزل بالحق على خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم-، والمحفوظ بحفظ الله -تعالى- في نفس لغة وحيه(اللغة العربية) إلى قيام الساعة.
(6) الإيمان بوحدة رسالة السماء، وبالأخوة بين الأنبياء، واليقين بصدق بعثة الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- الذي تكاملت في رسالته كل الرسالات السابقة؛ ولذلك تعهد ربنا -تبارك وتعالى- بحفظ رسالته الخاتمة، فحفظت في نفس لغة الوحي(العربية)؛ لأنه ليس من بعده -صلوات الله وسلامه عليه- من نبي ولا رسول.
(7) التسليم بأن الموت حق على جميع العباد، وبأن متاع الدنيا قليل، وأن الآخرة خير لمن اتقى، وأن الشيطان للإنسان عدو مبين، وأن في مخالفته ومعاداته النجاة للصالحين من عباد الله، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
(8) الإيمان الجازم بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء:141].
(9) التصديق بأن كلا من الذين حرفوا دينهم والمنافقين في الدرك الأسفل من النار، وأن حكم الله فيهم أوضحته سورة "النساء" بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا* أُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) [النساء:150، 151].
(10) اليقين بأن الله -تعالى- قد خلق الناس جميعا: (... خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً...) [النساء:1].
ومحاولة إنكار ذلك أو التطاول عليه هو إنكار لطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود، وإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة، وحكم ذلك معروف عن أهل العلم، ومغبته الكفر بالله والعياذ بالله سبحانه.
من الإشارات الكونية والتشريعية في سورة "النساء":
(1) الإشارة إلى خلق الناس جميعا من نفس واحدة، خلقها الله -تعالى- من طين، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، والمكتشفات الحديثة في علوم الوراثة تدعم ذلك وتؤيده.
(2) الأمر بتقوى الله -سبحانه وتعالى- في شأن الأرحام؛ لأنها مصانع الخلق، ولأن في صونها وحمايتها وتكريمها صونا للإنسانية جمعاء ضد العبث المستهتر الذي تحاول الفلسفات المادية المتهالكة فرضه على العالم بالقوة اليوم، وكل من علم الأجنة، وعلوم الأمراض تؤكد حكمة أمر الله بذلك.
(3) تحديد حظ الذكر من الإخوة في الميراث بحظ الأنثيين.
(4) تشريع المحرمات من النساء، والعلوم المكتسبة في قمة من قممها اليوم تؤكد الحكمة من ذلك.
(5) التلميح إلى ضآلة حجم الذرة بضرب المثل بها في الصغر.
(6) الإشارة إلى حقيقة أن جلد الإنسان إذا أزيل فإن صاحبه لا يشعر بالألم، والعلوم المكتسبة تثبت ذلك وتؤكده.
(7) التنبؤ بأن الشيطان سوف يُسوِّل للإنسان محاولة تغيير خلق الله، من مثل ما يحدث في عمليات الاستنساخ اليوم.
(8) الإشارة إلى عدد من الأمم الغابرة، والكشوف الأثرية تؤكد صدق القرآن الكريم في كل ما جاء به في هذا الصدد.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها؛ ولذلك فسوف أقصر حديثي على النقطة الثالثة من القائمة السابقة، والتي سوف أناقش لمحة الإعجاز التشريعي فيها في المقال القادم إن شاء الله، وإلى ذلك الحين أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الحكم التشريعية في النص الكريم:
من القضايا التي حسمها القرآن الكريم حسما قاطعا: قضية المواريث؛ وذلك لأن المال الموروث مات عنه صاحبه، ويتصور كل فرد ممن كانوا محيطين به أنه هو أولى الناس بهذا المال، وهنا يلعب الشيطان دوره الخبيث في الإفساد بين أشد الناس قربا؛ ولذلك حسم القرآن الكريم هذه القضية الشائكة بأمر من الله -تعالى- الذي يعلم كل شيء.
وعلى الرغم من ذلك يحاول بعض شياطين الإنس التطاول على حكم الله -تعالى- في محاولة يائسة لنقده والنيل منه تكبرا واغترارا، وأكثر ما يتناولون هو ذلك النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال، مدعين أن التشريعات الإسلامية قد ظلمت المرأة بإعطائها نصف نصيب الرجل في الميراث، وأضافوا إلى ذلك قضية الشهادة وقوامة الرجل على المرأة، وحرمانها من الولاية العامة، وغير ذلك من الأمور التي استُغلت -ومازالت تُستغل- من أجل الهجوم على دين الله الذي لا يرتضي من عباده دينا سواه.
وانطلاقا من دعاوى الدفاع عن حقوق المرأة اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في18/12/1976م اتفاقية تحمل اسم القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وقد وافق على هذه الاتفاقية ثلاثة وتسعون بلدا، وأصبحت الاتفاقية نافذة المفعول ابتداء من 3/9/1981م، وفيها من المخالفات الشرعية ما لا يتسع المقال لعرضه.
وقد انطلق من هذه الاتفاقية مؤتمر السكان الذي عقد بالقاهرة سنة 1994م، ومؤتمر المرأة الذي عقد في بكين سنة 1995، ومؤتمر الإيواء الذي عقد في تركيا بعد ذلك بعام.
من صور العدل الإلهي في توزيع الميراث:
عرَضَ كلٌّ من الأخوين الكريمين: الأستاذ الدكتور محمد عمارة، والأستاذ الدكتور صلاح الدين سلطان لتوضيح العدل الإلهي في توزيع الميراث، فأثبتا أن التمايز في الميراث محكوم بمعايير ثلاثة كما يلي:
(1) درجة القرابة وقوتها بين الوارث -ذكرا كان أم أنثى- والموروث المتوفى، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وعلى ذلك فإن المقارنة بين نصيب كل من الذكر والأنثى في الميراث بحسب درجة القرابة يجب أن تكون في مستوى واحد، مثل: الأبوة، البنوة، الأخوة، الزوجية، وغيرها كما يجب التفريق بين الإخوة الأشقاء وغير الأشقاء.
(2) موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال؛ فالأجيال التي تستقبل الحياة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وذلك بصرف النظر عن جنس الوارث -ذكرا كان أم أنثى-، فالابنة ترث أكثر من الأم -وكلتاهما أنثى-، بل وترث أكثر من الأب، والابن يرث أكثر من الأب -وكلاهما من الذكور-، وعلى ذلك فإنه عند النظر إلى نصيب الوارثين من ذكور وإناث بحسب درجة القرابة يجب أن تكون المقارنة في نفس الجيل.
(3) قدر العبء المالي الذي يوجب الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين، وهذا هو المعيار الذي يستوجب تفاوتا بين الذكر والأنثى من الإخوة والأخوات؛ لأن الذكر الوارث هنا في حالة تساوٍ من حيث درجة القرابة، والجيل، ولكنه مكلف بإعالة زوجة أنثى، بينما إعالة أخته الأنثى الوارثة هي فريضة على الذكر المقترن بها -إن كانت متزوجة- وعلى شقيقها أو أشقائها الذكور إن كانت غير ذلك(عزباء أو مطلقة أو أرملة).
وقد اتضح من دراسة آيات الميراث في كتاب الله ما يلي:
(1) أن هناك أربع حالات فقط ترث فيها الأنثى نصف الذكر؛ وهي حالة البنت مع الابن، وحالة الأب مع الأم مع عدم وجود أولاد ولا زوجة للابن المتوفى، وحالة وجود الأخت الشقيقة أو الأب مع الأخ الشقيق أو الأب، وحالة حظ الأنثيين التي فصلتها الآية11 من سورة"النساء".
(2) وهناك حالات عديدة تُقدَّر بأضعاف الحالات السابقة ترث فيها المرأة مثل الرجل تماما، وذلك مثل حالة امرأة توفيت عن زوج (له النصف)، وأم (لها الثلث)، وأخ لأم أو أخت لأم (فله أو لها السدس).
(3) وهناك حالات تزيد على العشر ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، كما أن هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال، من مثل حالة امرأة توفيت عن زوج (فله النصف)، وأم (فلها السدس)، وأختين لأم (فلهما الثلث)، وأخ شقيق (لا يرث شيئا).
وفي الحالات التي ترث فيها الأنثى نصف الذكر، فإن لها حق النفقة في الشريعة الإسلامية في جميع أحوالها: بنتا، أو زوجة، أو أما، أو أختا، أو غير ذلك (ارتفاعا في النسب أو انخفاضا به) فالنفقة في الإسلام واجبة على الوالد لابنته، وعلى الزوج لزوجته، وعلى الابن لأمه، وعلى الأخ لأخته مادامت لم تتزوج أو تزوجت وطُلِّقت أو ترملت، أما الابن فتسقط نفقته عن الأب متى بلغ وأصبح قادرا على كسب قوته.
من ذلك يتضح التوازن الدقيق بين ميراث الأنثى ونفقتها في الشريعة الإسلامية، تلك النفقة التي جعلها ربنا -تبارك وتعالى- واجبا دينيا تعبديا، يتقرب به العبد إلى الله -تعالى- فإن لم يفعل ألزمه القضاء الإسلامي وجوبا بذلك، وجعل أداءه من الحقوق التي تقدم على غيرها من الديون.
ضياع الحق في أزمنة التغريب:
على الرغم من هذا التوضيح الشافي، فإنه في أزمنة التغريب التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم يحتجُّ البعض بأن مثل هذا الإلزام لم يعد مطبقا في أغلب المجتمعات المسلمة، ولكن يبقى حكم الله واجب النفاذ، و يبقى شرع الله ممتنعا على التغيير، حتى لو حاول عدد من المُشرِّعين في بعض الدول العربية تغيير شرع الله، ومساواة الأنثى بالذكر في الميراث، وهو من التجاوزات التي تُخرج المسلم من الملة -ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم- وندعو لهؤلاء الضالين بالهداية مما وقعوا فيه من حدود الله تعالى.
المواريث بين عدل الله -تعالى- ومظالم البشر:
من العجب أن أمر الميراث في الدول غير المسلمة إما أن تحكمه أعراف جائرة أو تحكمه الوصية التي قد تكون أكثر جورا، ومن تلك الأعراف ما يُعطي الابن الأكبر وحده الحق في الميراث كله دون أن يشاركه أحد من الأسرة، كما كان سائدا في بريطانيا إلى عهد قريب، وفي هذا النظام كان الابن الأكبر يرث المال والجاه والألقاب والسلطان وحده دون منازع، وكان هذا الظلم يدفع بأفراد الأسرة إلى التآمر على التخلص منه.
والوصية قد تكون في كثير من الأحيان أكثر جورا وظلما من الأعراف الموضوعة؛ فكثيرا ما تخرج علينا وسائل الإعلام بأخبار الأثرياء الذين يوصون بثرواتهم لكلب أو قطة كان أحدهم يربيها، أو لخادم كان يقوم على خدمته، أو لامرأة كان يعاشرها في الحرام، بينما هناك من صلبه ومن أهله وقرابته وعصبيته من يتضور جوعا.
أما في الإسلام العظيم فقد أُعطيت حرية التصرف للوصية في ثلث ما يملك الفرد منا فقط، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن لا وصية لوارث، كما لا تجوز الوصية لما لا يقبله الدين والعقل والمنطق السوي.
والإرث في الإسلام فريضة ربانية لا يملك أحد الحق في تغييرها، فالمُورِّث لا يملك الحق في حرمان أحد من ورثته من حقه في الميراث، وللوارث الحق في نصيبه جبرا دون اختيار كما حدده له الله، لا يختلف في ذلك صغير عن كبير، ولا قوي عن ضعيف.
ومن صور تكريم الإسلام للمرأة أن جعل من حقها استيفاء مؤخر صداقها ومهرها إن لم تكن قد قبضته في حياة زوجها، وذلك قبل توزيع التركة، دون أن يكون لذلك علاقة بنصيبها المفروض من الميراث.
أما ما يعطيه المسلم في حياته فيسمى عطية، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمساواة بين الأولاد في العطية، فقال: "ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء".
هذا هو دين الله الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعهعلى ذاته العلية، في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية، وتعهد بهذا الحفظ الإلهي تعهدا مطلقا، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.