هذا النص القرآني الكريم جاء في بداية الثلث الأخير من سورة "البقرة"، وهي سورة مدنية، وآياتها مائتان وست وثمانون (286) بعد البسملة، وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق، وتأتي بعد فاتحة الكتاب مباشرة. وقد سميت السورة الكريمة بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى معجزة حسية أجراها الله- تعالى- على يدي عبده ونبيه موسى- على نبينا وعليه من الله السلام- حين تعرض شخص من قومه للقتل ، ولم يُعرف قاتله ، فأوحى الله- سبحانه وتعالى- إلى عبده موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة ، وأن يضربوا جثة الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ، ويخبر عن قاتله ثم يموت ، وذلك إحقاقاً للحق ، وشهادة لله- تعالى- بالقدرة على إحياء الموتى . هذا ، وقد سبق لنا استعراض سورة "البقرة" ، وما جاء فيها من تشريع ، ومن ركائز العقيدة ، ومن دعوة إلى الالتزام بمكارم الأخلاق ، وقصص ، وإشارات كونية ، ونركز هنا على أوجه الإعجاز العلمي والتشريعي في التأكيد على أهمية الشهر القمري في تحديد الزمن النسبي لأهل الأرض ، والإعجاز التشريعي في فريضة الحج. أولاً: من أوجه الإعجاز التشريعي والعلمي في اختيار الأهلّة مواقيت للناس: القمر هو أقرب أجرام السماء إلى الأرض، إذ يدور حولها في فلك شبه دائري يبلغ طوله حوالي (2.4) مليون كم ، ويبلغ متوسط نصف قطره (أي بعده عن مركز الأرض) (384.400) كم ، ومن هنا فإن حركته بالنسبة لأهل الأرض هي أكثر الحركات الفلكية انضباطاً. ففي أثناء هذه الدورة يقع القمر في وضع وسطي بين كل من الأرض والشمس وعلى استقامة واحدة مع مراكز هذه الأجرام الثلاثة ، وبذلك يواجه القمر الأرض بوجه مظلم تماماً، وتسمى هذه المرحلة باسم (مرحلة الاقتران) ، أو (المحاق) ، وتستغرق هذه المرحلة ليلة واحدة أو ليلتين ، ثم يتحرك القمر ليخرج عن الاستقامة الواصلة بين مراكز هذه الأجرام الثلاثة فيولد (الهلال) الذي تحدد رؤيته عقب غروب الشمس ( لمدة لا تقل عن عشر دقائق) بداية الشهر القمري الجديد. وباستمرار تحرك القمر في دورته حول الأرض تزداد مساحة الجزء المنير من وجهه المقابل للأرض بالتدريج حتى يصل إلى (التربيع الأول) في ليلة السابع من الشهر القمري، ثم إلى (الأحدب الأول) في ليلة الحادي عشر، ثم إلى (البدر الكامل) في ليلة الرابع عشر، وفيها تكون الأرض بين الشمس من جهة، والقمر من الجهة الأخرى. وبمزيد من تحرك القمر حول الأرض تبدأ مساحة الجزء المنير من وجهه المقابل للأرض تتناقص بالتدريج حتى يتحول البدر إلى (الأحدب الثاني) في حدود ليلة الثامن عشر ، ثم إلى (التربيع الثاني) في ليلة الثالث والعشرين ، ثم إلى (الهلال المتناقص) في ليلة السادس والعشرين من الشهر القمري ، ويستمر في هذه المرحلة لليلتين حتى يصل إلى مرحلة (المحاق) في آخر ليلة أو ليلتين من الشهر القمري حين يعود القمر إلى وضع الاقتران . ولما كان القمر يقطع في كل يوم من أيام الشهر القمري حوالي (12) درجة من درجات دائرة البروج (360 درجة ÷ 29.5 يوماً – 12.2 درجة )، فإنه يقع في كل ليلة من ليالي الشهر القمري في منزل من المنازل التي تحددها ثوابت من النجوم أو من تجمعاتها الظاهرية حول دائرة البروج ، وهذه المنازل هي ثمانية وعشرون منزلاً، بعدد الليالي التي يُرى فيها القمر ، وتعرف باسم ( منازل القمر). ولما كان القمر يجري مع الأرض حول الشمس ليتم دورته الشمسية السنوية فإنه يمر عبر البروج السماوية الإثني عشر التي تقع فيها الشمس في كل شهر من شهور السنة الشمسية . وعلى ذلك فإن كل منزل من منازل القمر اليومية يحتل مساحة في برج من هذه البروج . وفي الحضارات القديمة عرف الناس دورة القمر من المحاق إلى المحاق ، أو من الهلال الوليد إلى الهلال المتناقص ، كما عرفوا منازل القمر الثمانية والعشرين ، واستخدموا ذلك في تحديد الزمن ، وفي التأريخ للأحداث ، ويبدو أن ذلك من بقايا الحقب القديمة . من هنا يأتي وجه الإعجاز العلمي والتشريعي في التأكيد على أهمية الشهر القمري في تحديد الزمن النسبي لأهل الأرض بدقة فائقة ، أما الزمن المطلق فلا يعلمه إلا الله- تعالى- وعلى ذلك فإن سنة المسلمين هي سنة قمرية / شمسية ، يحدد الشهر فيها دورة كاملة للقمر حول الأرض ، ويحدد السنة فيها دورة كاملة لكل من الأرض والقمر حول الشمس . والفارق الزمني بين الإثني عشر شهراً قمرياً، والدورة الكاملة للأرض والقمر حول الشمس هي في حدود (11 يوماً)، وذلك يحرك عبادة المسلم عبر الفصول المناخية رحمة بالناس ، وإشعاراً لهم بحركة الزمن ، ولذلك قال- تعالى- موجّهاً الخطاب إلى خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم- ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...*). و(الأهلة) جمع (هلال)، وهو تعبير عن مراحل القمر من الهلال الوليد إلى البدر الكامل ومنه إلى الهلال المتناقص حتى المحاق . ومن أسباب نزول هذه الآية الكريمة أن كلاًّ من معاذ بن جبل وثعلبة بن عثمة- رضي الله عنهما- قالا : يا رسول الله ! ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ، ثم لا يزال ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت هذه الآية الكريمة توضح لهم أن الأهلة هي أفضل وسيلة لتحديد الزمن لأهل الأرض وتحديد الأوقات المضروبة لعباداتهم من مثل أوقات صومهم وفطرهم، وأداء زكاتهم، وحجّهم، وأوقات معاملاتهم من مثل حساب عدة نسائهم، وأوقات حلول ديونهم، وأزمنة وفاء شروطهم المؤجلة، وغير ذلك من أمور دينهم ودنياهم. ثانياً: من أوجه الإعجاز التشريعي في فريضة الحج: الحج يعني قصد المسلم مكة المكرمة مُحرماً من الميقات المحدد في أشهر الحج، والوقوف بعرفة، وما يتبع ذلك من مناسك، يؤديها المسلم البالغ العاقل، الحر، المستطيع (ذكراً كان أو أنثى) ولو لمرة واحدة في العمر، وذلك طاعةً لله- تعالى- واستجابة لأوامره ، وطلباً لمرضاته. والحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو فرض من الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة ، وهو حق لله- تعالى- على المستطيعين من عباده لقوله- جل في علاه-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:97). والحج هو عبادة من أجل العبادات وأفضلها عند رب العالمين وذلك لما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سئل " أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله، قيل : ثم ماذا ؟ قال : ثم جهاد في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال: ثم حجٌّ مبرور " (والحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم) (البخاري ومسلم). وأصل العبادة الخضوع لأوامر الله- تعالى- بالطاعة، ومن هنا فإن العبادة لا تحتاج إلى تبرير، ولكن إذا عُرفت الحكمة من وراء أداء العبادة فإن مؤديّها يتمكن من إتقان أدائها بطريقة أفضل، ويسلك في أدائها سلوكاً أنبل وأجمل، ويكون أجره على أدائها أوفى وأكمل. الحكمة من تشريع فريضة الحج: (1) تعريض كل من حجَّ البيت لكرامة أشرف بقاع الأرض في أشرف أيام السنة : فمكة المكرمة هي أشرف بقاع الأرض قاطبة ، يليها في الكرامة مدينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم بيت المقدس، وذلك لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الكعبة المشرفة : "هذا البيت دعامة الإسلام ، من خرج يؤم هذا البيت من حاجٍّ أو معتمر أو زائر ، كان مضموناً على الله- عز وجل- إن قبضه يدخله الجنة، وإن ردَّه ، ردَّه بغنيمة وأجر " ( الحارث، ابن حجر ). وفي المقابل فإن أشرف أيام السنة هي الأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة، وأشرفها على الإطلاق هو " يوم عرفة ". وذلك لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة...، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة..." (أبو يعلى، البزار، ابن خزيمة، ابن حبان). فإذا اجتمع فضل الزمان وفضل المكان تضاعفت البركات والأجور بإذن الله . (2) تذكير الحاجّ بمرحلية الحياة وبحتمية الرجوع إلى الله : لأن دوّامة الحياة تكاد أن تنسي الإنسان حتمية الخروج منها ، وهنا تأتي شعيرة الحج لتخرج الناس من دوّامة الحياة – ولو لفترة قصيرة – وتذكرهم بحتمية العودة إلى الله . (3) تذكير الإنسان بضرورة محاسبة نفسه قبل أن يحاسب : وذلك لأن للحج العديد من الأعمال الإجرائية التي منها: التوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي ، ووصل كل مقطوع من صلات الرحم ، وقضاء الديون ، وردّ المظالم ، وردّ كل ما هو غير ذلك من حقوق العباد، وإخلاص النوايا لله- تعالى- والحرص على الحلال ، والتطهّر من كل حرام ، والحرص على تسديد زكاة المال قبل الخروج بالحج ، وكتابة الوصية، وتهيئة كل حاج نفسه لحساب الله- تعالى- قبل أن يحاسبه الله . (4) تدريب الحاج نفسه على مفارقة الحياة الدنيا بواسطة المشاعر التي يدركها أثناء غسل الإحرام ، ولبسه ، والنية بالإحرام للحج أو العمرة أو بهما معاً (متمتعاً أو قارناً )، وعند الوقوف بالميقات، والانتقال من الحلّ إلى الحرم عبر الميقات، وعند التلبية. (5) تذكير الحاج نفسه بضرورة الالتزام بأوامر الله- تعالى- واجتناب نواهيه؛ حيث أن جميع الخلق غير المكلف ملتزم بقوانين الخالق- سبحانه وتعالى- التي أودعها في كل أمر من أمور الكون . ولعل الطواف حول الكعبة في عكس اتجاه عقارب الساعة يذكر بذلك، وهو النظام الغالب في الكون كله. (6) تدريب الحاج على الالتزام بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أداء هذه العبادة الكبرى ، وفي كل أمر من أمور الحياة ، وهو- صلوات ربي وسلامه عليه- القائل : " خذوا عنّي مناسككم ". (7) تذكير الحاج بجهاد السابقين من الأنبياء والمرسلين ، ومن الصالحات والصالحين ، ولعل في اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وفي الشرب من ماء زمزم ، وفي السعي بين الصفا والمروة ما يذكر الحاج بذلك. (8) تذكير الحاج بيوم البعث وزحامه، ولعل النفرة إلى منى ثم إلى عرفات تلعب دوراً في هذا التذكير. (9) ولعل الوقوف بعرفات يذكر بيوم الحشر فيعمل كل من أكرمه الله- تعالى- بالوقوف في هذا الموقف الكريم أن يستعد ليوم الحشر. (10) ولعل المبيت بالمزدلفة ثم بمنى يذكر الحاج بآلاف الأنبياء وبمئات المرسلين الذين حجوا من قبل ، ونزلوا بتلك المنازل ، فيتأكد من وحدة رسالة السماء ، ومن الأخوّة بين الأنبياء وبين الناس جميعاً، ويعلم أن ذلك كله منبثق من الإيمان بوحدانية الخالق العظيم. (11) ولعل كلاًّ من النحر والحلق (أو التقصير)، ورمي الجمار يذكر بعمق إيمان كل من عبَدي الله ونبييه إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل –عليهما السلام- وبضرورة التسليم لرب العالمين وطاعة أوامره ، والتطهر من الذنوب والآثام ، ومعرفة أبعاد المعركة بين الشيطان والإنسان والتعهد لله بالانتصار فيها لعباده الذين اختارهم لحج بيته الحرام . ثم يكون في التحلل من الإحرام ، وفي كل من طواف الإفاضة والوداع رمز لانتهاء أداء هذه الشعيرة العظيمة ، وعودة إلى دوّامة الحياة الدنيا بذنب مغفور ، وعمل صالح مقبول ، وصفحة جديدة مع رب العالمين ، وعزيمة على كسب مرضاته- تعالى- باجتناب نواهيه وبعمل كل ما يرضيه ، ومن ذلك : الزهد في الدنيا ، اليقين في الله ، الحرص على إتقان العبادة ، التمسك بطهارة النفس ، وبمكارم الأخلاق ، والاستقامة على منهج الله ، والاجتهاد في نصرة دين الله. (12) الحج هو أول مؤتمر عالمي في تاريخ البشرية ، شرعه الله- تعالى- ليكون وسيلة من وسائل تعارف المسلمين ، وجمع كلمتهم ، وتوحيد صفوفهم وحل مشاكلهم ، والتعاون فيما بينهم ، ومواجهة التحديات التي تصادفهم ، وشهود غير ذلك من المنافع التي تعود عليهم أفراداً وجماعات ، ودولاً ، وتعود على الإنسانية عامة بكل خير. هذا ، وبالإضافة إلى ما ذكرناه آنفاً إلى مكاسب الفرد المسلم ( ذكراً كان أم أنثى، صغيراً أم كبيراً) من أداء هذه العبادة العظيمة ، يمثل طرفاً من الحكمة الإلهية بتشريع فريضة الحج ، وجعلها حقاً لله- تعالى- على كل مسلم ، بالغ ، عاقل ، حر مستطيع ، ولو لمرة واحدة في العمر. لذلك جاءت الإشارة إلى الحج في هذا النص القرآني الكريم - فضلاً عن غيره من العبادات المفروضة على أهميتها – كما جاءت الإشارة إلى الحج في أحد عشر موضعاً من كتاب الله. فالحمد لله على نعمة الإسلام والحمد لله على نعمة القرآن والحمد لله على بعثة خير الأنام سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين - وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.