هذا النص القرآني الكريم جاء في أوائل سورة "المائدة" وهي سورة مدنية، وآياتها مائة وعشرون (120) بعد البسملة، وهي من طوال سور القرآن الكريم، ومن أواخرها نزولا، فقد أنزلت في السنة السادسة من الهجرة بعد "صلح الحديبية"، وقد سميت السورة بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى المائدة التي أنزلها الله -تعالى- من السماء كرامة لعبده ورسوله المسيح عيسى بن مريم ( عليهما السلام ). ويدور المحور الرئيسي لسورة "المائدة" حول التشريع بأحكام الدولة الإسلامية ، وتنظيم مجتمعاتها على أساس من الإيمان بوحدانية الخالق (سبحانه وتعالى) ، وعبادته وحده (بغير شريك ، ولا شبيه ، ولا منازع ، ولا صاحبة ولا ولد) ، وتنزيهه فوق جميع صفات خلقه ، وفوق كل وصف لا يليق بجلاله ، ومن هنا كان حقه في التشريع لعباده. وكانت أول بنود هذا التشريع الإسلامي هو عقد الإيمان بالله – تعالى- ربا وبالإسلام دينا ، وبسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا. وهذا العقد هو القاعدة التي يقوم عليها سائر العقود في حياة المسلم ، ومن هنا استهلت هذه السورة الكريمة بمطالبة الذين آمنوا بالوفاء بالعقود. هذا ، وقد سبق لنا استعراض سورة "المائدة"، وما جاء فيها من التشريعات، وركائز العقيدة، والإشارات العلمية، ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال . من فقه الوضوء يقول ربنا – تبارك وتعالى- في محكم كتابه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ...*)(المائدة:6) والقيام إلى الصلاة هو تهيؤ للوقوف بين يدي الله- سبحانه وتعالى- خالق الخلق ومبدع الوجود ، رب هذا الكون ومليكه ، موجده وسيده ومصرف أمره، ولا بد لهدا الموقف من طهارة مادية ومعنوية كبيرة، ومن هنا كان تشريع الوضوء، ومن فرائضه غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرافق، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، ولذلك قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم- " لا يقبل الله صلاة أحدكم أذا أحدث حتى يتوضأ " ( روا الشيخيان ، وأبو داود ، والترمذي ). والوضوء في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان عام الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد من أجل التشريع بالأمرين. وعنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " . وقد استدل عدد من العلماء بقوله- تعالى- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم...*) على وجوب النية في الوضوء. ويستحب للمسلم قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله- تعالى- على وضوئه، وذلك لقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". كذلك يستحب أن يغسل كفيه ثلاثا قبل البدء في الوضوء خاصة عند القيام من النوم. وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت الشعر إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة. وقد ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق ثلاثا لقوله : " من توضأ فليستنشق " وفي رواية : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينثر " والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق. وفي قوله- تعالى- : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ) معناه مع المرافق، ويستحب للمتوضئ أن يبدأ بالعضد فيغسله مع ذراعيه، لقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم- "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ،فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " (البخاري ، مسلم ) ؛ ولقوله " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (مسلم). وفي قوله- تعالى- : (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم) وفسرت ( الباء) هنا بأنها للإلصاق ( وهو الأظهر ) أو للتبعيض، فذهب بعض الفقهاء إلى تكميل مسح جميع الرأس من مقدمته إلى القفا مقبلا ومدبرا ( مرة واحدة أو ثلاث مرات ). وفي قوله- تعالى- : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ) فالواجب هو غسل الرجلين إلى الكعبين( والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم )، ولذلك قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم- : " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " ، وفي رواية : " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " وإسبلغ الوضوء إتمامه (رواه البيهقي والحاكم). وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا . كذلك أخرج الإمام أحمد عن عمرو بن عبسة أنه قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم- " ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " ( أحمد ، مسلم ) . وعن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال " إن الخصلة الصالحة تكون في الرجل يصلح الله بها عمله كله ، وطهور الرجل لصلاته يكفر الله بطهوره ذنوبه وتبقى صلاته له نافلة " (أبو يعلى، البزار، الطبراني) وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ، قالوا بلى يا رسول الله ،قال: " إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط " ( رواه مالك، مسلم، الترمذي، النسائي). وعلى ذلك فإن فرائض الوضوء هي : النية ، غسل الوجه ، غسل اليدين إلى المرفقين ، مسح الرأس ، غسل الرجلين مع الكعبين ، بهذا الترتيب . ومن سنن الوضوء : التسمية في أوله، السواك، غسل الكفين ثلاثا في أول الوضوء، المضمضة ثلاثا، الاستنشاق والاستنثار ثلاثا، تخليل اللحية، تخليل الأصابع، التيامن، الدلك، الموالاة، مسح الأذنين ، إطالة الغرة ( بالزيادة عن المفروض في غسل الوجه )، وإطالة التحجيل ( بغسل ما فوق المرفقين والكعبين)، الاقتصاد في الماء، الدعاء أثناءه وبعده، وصلاة ركعتين بعده. ويجب الوضوء للصلاة مطلقا، وللطواف بالبيت الحرام، وللمس المصحف الشريف. من أوجه الإعجاز التشريعي في فريضة الوضوء الأصل في العبادات أنها تؤدى طاعة لله- تعالى- ولرسوله- صلى الله عليه وسلم- دون تعليل، وذلك لأن المفهوم اللغوي لكلمة العبادة هو الخضوع لله- تعالى- بالطاعة والتذلل ، والعبادة ضربان : عبادة بالتسخير وهي للخلق غير المكلف ، وعبادة بالاختيار وهي للخلق المكلف. والعبد المكلف إذا فهم الحكمة من وراء العبادة التي كلفه الله- تعالى- بها فإنه يؤديها بطريقة أفضل ويتمتع بأدائها متعة أكبر، ويؤجر على ذلك أجرا أوفى وأوفر. وانطلاقا من هذا الفهم نورد هنا بعض ما استشفه العلماء من حكمة تشريع الوضوء في النقاط المحددة التالية : ( 1 ) يتعرض جسم الإنسان – خاصة الأجزاء المكشوفة منه لأعداد مهولة من الميكروبات تعد بالملايين في كل سنتمتر مكعب من الهواء ( خاصة في زمن تلوث البيئة الذي يعاني منه إنسان اليوم وحيوانه ونباته). وهذه الميكروبات في حالة هجوم دائم على الإنسان خاصة على الأجزاء غير المستورة من جسمه كاليدين والوجه والرأس والرجلين إلى الكعبين وكلا من الفم والأنف ، وبالوضوء تكسح هذه الميكروبات أولا بأول من فوق سطح الجلد ومن فتحات كل من الأنف والفم والعينين والأذنين خاصة مع إتقان الوضوء وإسباغه، وحسن تدليك الجلد والعضلات والأعصاب السطحية ، ومع تكرار الوضوء خمس مرات في اليوم الواحد فلا يبقى أثر للأدران أو الجراثيم على جسم الإنسان الذي أكرمه الله- تعالى- بنعمة الإسلام. ( 2 ) تنتقل معظم الأمراض المعدية عن طريق اليدين الملوثتين بالجراثيم ، وعلى ذلك فإن غسل اليدين جيدا قبل الدخول في الوضوء يعتبر وقاية جيدة من العديد من الأمراض . ( 3 ) فعملية المضمضة في مقدمة الوضوء تطرد فضلات الطعام المتبقية في الفم بعد تناوله، والتي لو تركت في الفم لتعفنت، وأدت إلى تغير رائحة الفم، وإلى تسوس الأسنان والتهاب اللثة وتقيحها. هذا بالإضافة إلى أن المضمضة تقوي عضلات الوجه، وتحفظ عليه نضارته وحيويته. ( 4 ) إن عملية الاستنشاق والاستنثار في مقدمة الوضوء تطهر مجاري الأنف من النفايات والجراثيم التي يمكن أن تتجمع في جوانبها، كما تدفع بما قد يتعلق منها بالشعر الموجود بالأنف، وبذلك يكون في الوضوء تطهيرا لتجاويف الأنف من الأوساخ والجراثيم. وهذه التجاويف هي المدخل إلى الجهاز التنفسي الذي إذا وصل إليه شئ من تلك الجراثيم فسرعان ما تلهبه التهابات مؤقتة أو مزمنة. ( 5 ) إن في التنظيف المستمر بالوضوء خمس مرات في اليوم للأجزاء المكشوفة من الجسم كاليدين، والوجه، والرأس، والرقبة، والأذنين والرجلين يقي بإذن الله- تعالى- من العديد من الأمراض الجلدية التي قد تنتج عن التكاثر المفزع للملايين من جراثيم الجو في زمن التلوث البيئي الذي نعيشه أو عن طريق العدوى بالاحتكاك ، أو بتراكم الملوثات البيئية على جلد اٌلإنسان. والتنظيف المستمر للجلد بالوضوء يؤدي إلى تفتح مسام الغدد العرقية والدهنية فيه، وبالتالي يؤدي إلى عدم تراكم الأدران والأوساخ عليه، ويحفظ للجلد البشري وظائفه التي أوجده الخالق- سبحانه وتعالى – للقيام بها. (6 ) إن الوضوء خمس مرات في اليوم يؤدي إلى انقباض وانبساط الشعيرات الدموية بالجلد مما يزيد من تحرك الدم إليها، وبالتالي يؤدي إلى تنشيط الدورة الدموية بالجسم كله، وينشط عملية التنفس مما ينعكس على بقية أعضاء وأجهزة الجسم. ( 7 ) ومع تنشيط الدورة الدموية بالجسم كله تنشط غدد العرق الموجودة بالجلد في امتصاص قدر من نفايات الدم وإزاحتها إلى الخارج عبر مسام الجلد فتغسلها مياه الوضوء أولا بأول مما يعين على تطهر جسم الإنسان منها، ويؤدي ذلك إلى نشاط النهايات العصبية في الجلد ،وإلى شئ من راحة القلب، وعودة الشعور بالحيوية إلى الجسم. (8 ) من سسنن الوضوء " السواك " وهو دلك الأسنان بعود من الآراك أو ما يشبهه من الخشب النباتي، وفي ذلك يروي أبو هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" (مالك، الشافعي، البيهقي، الحاكم). وعن أم المؤمنين السيدة عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه: قال: "السواك مطهرة للفم ، مرضاة للرب" (أحمد، النسائي، ألترمذي ). والفم مدخل الخير والشر إلى جسم الإنسان فإذا نظف وتطهر بالمداومة على الوضوء والسواك سلم بدن الإنسان. (9) الوضوء ليس مجرد تطهير للبدن ، وإنما هو إحياء لعلاقة الإنسان بربه ، وتهيؤ للوقوف بين يدي خالقه–سبحانه وتعالى- وهذا الموقف يتطلب الطهارة المعنوية كما يتطلب الطهارة المادية، ومن هنا كان للوضوء السابغ المتقن أثره النفسي على المسلم، فيخرج منه يقظا، حيا، متألقا، مستعدا للوقوف بين يدي الله- جل جلاله- وما أروعه من شعور، وهنا يتضح وجه الإعجاز التشريعي في فريضة الوضوء، وما أجملها من فريضة، فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.