هذا النص القرآني الكريم جاء في ختام الثلث الثاني من سورة "الحجرات" , وهي سورة مدنية , وآياتها ثماني عشرة (18)بعد البسملة , وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى ضرورة المحافظة على حرمة بيوت النبي- صلى الله عليه وسلم- بصفة خاصة , وعلى حرمة بيوت الناس- بصفة عامة- وهو من الأمور الإلهية التي لا يجوز مخالفتها أبدا .
ويدور المحور الرئيس لسورة "الحجرات" حول عدد من القيم الأخلاقية والسلوكية الواجبة في تعامل المسلمين مع الله- سبحانه وتعالى- ومع رسوله- صلى الله عليه وسلم- ومن ثم مع بعضهم البعض, ومع خلق الله أجمعين , ولذلك وصفت سورة الحجرات بوصف "سورة الأخلاق" .
هذا وقد سبق لنا استعراض هذه السورة الكريمة, وما جاء فيها من التشريعات , وأوجه الإعجاز في عدد منها , ونواصل هنا شرح وجه الإعجاز التشريعي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال . من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم يقول الله- تعالى- في محكم كتابه : { ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن ياكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم*} (الحجرات:12) .
وفي مقالين سابقين ناقشنا الأمرين الإلهيين الأول والثاني في الآية الكريمة وهما النهي عن سوء الظن بأهل الخير من المؤمنين دون دليل واضح أو أمارة صحيحة وسبب ظاهر , والنهي عن التجسس عليهم بغرض التعرف على الخاص من أخبارهم , وتتبع عوراتهم ومعايبهم مما ستروه من أمورهم . ونتابع هنا في البند ثالثا استعراض الأمر الثالث الذي جاء في الآية الكريمة وهو النهي عن اغتياب أهل الخير من عباد الله المؤمنين , وهو ذكر عيبهم بظهر الغيب عنهم وذلك فيما يلي :
{ ...ولا يغتب بعضكم بعضا...*} : يقال في اللغة (إغتابه) (إغتيابا) بمعنى عابه وذكره بمافيه من السوء في غيبة منه . وعلى ذلك فإن هذا النص القرآني ينهى عن (الغيبة) وهي ذكر العيب بظهر الغيب .
و(الغيبة) من الكبائر , وفي ذلك يروي أبو هريرة- رضي الله عنه- قال : قيل: يا رسول الله ! ما الغيبة ؟ قال- صلى الله عليه وسلم- : " ذكرك أخاك بما يكره " قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال –صلى الله عليه وسلم- : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " (أخرجه الإمام الترمذي) . وفي اللغة يقال (بهت) (بهتا) و (بهتانا) أي : إفترى الكذب على إنسان ما . وقال- صلى الله عليه وسلم- : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس , ويقعون في أعراضهم " . وهذا تفسير لقوله- تعالى- : {... أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه...*} ومشهد الأخ يأكل لحم أخيه ميتا هو مشهد تتأذى له أشد النفوس غلظة وأقلها حساسية .
وهو تمثيل صارخ لما يناله المغتاب من عرض أخيه الذي اغتابه بصورة هي من أشد الوجوه قسوة على النفس الإنسانية . لذلك تقرر الآية الكريمة على الفور بحقيقة كراهية كل إنسان عاقل لهذا المشهد المتجرد من أبسط القيم الإنسانية فقال- تعالى- : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه*) أي : إذا كنتم قد كرهتم هذا المشهد المثير للاشمئزاز , والمقزز للأبدان , فلا تغتابوا أحدا من إخوانكم أبدا .
{...واتقوا الله إن الله تواب رحيم*} : وبهذا النص تختتم الآية الكريم , وهو تعقيب مناسب بعد النهي عن الظن السيئ بأهل الخير من عباد الله المؤمنين , بغير دليل قاطع , أو أمارة صحيحة , أو سبب ظاهر , والتأكيد على أن (بعض الظن إثم) أي مؤثم , والإثم هو الذنب الذي تستحق عليه العقوبة .
وبعد النهي كذلك عن التجسس عليهم , وتتبع عوراتهم ومعايبهم , ومحاولة الكشف عما ستروه من أمورهم وأخبارهم . وجاء النهي الثالث عن اغتيابهم , وهو ذكر عيوبهم في غيبة كاملة منهم . وبعد النهي عن هذه الذنوب الثلاثة تستجيش الآية الكريمة شعور التقوى ومخافة الله- تعالى- في قلوب عباده المؤمنين , وذلك بالأمر لكل من اقترف من هذه الذنوب شيئا أن يبادر بالتوبة إلى الله , ورد الحقوق إلى من ظلمهم بجوارحه طلبا لرحمة الله- تعالى- ونجاة من عقابه وهو- تعالى- الذي وصف ذاته العلية بأنه : تواب رحيم . ومن أوجه الإعجاز التشريعي في هذا النص القرآني الكريم أنه يقيم سياجا حول كرامة الإنسان , فردا كان أو مجتمعا, يحميه من مخاطر الغيبة المدمرة للمجتمعات الإنسانية , ويحيي في قلوب العباد وعقولهم من الضوابط السلوكية والأخلاقية ما يمكن أن يحميهم من مداخل الشيطان , ومن نزغات النفوس وأهوائها , فيصور اقتراف جريمة الغيبة بوصف الذي يأكل لحم أخيه ميتا , وهو وصف يثير الاشمئزاز والفزع في النفوس حتى يردعها عن الوقوع في جريمة الغيبة .
وهنا نجد أن سورة "الحجرات" تدعو إلى بناء المجتمع المسلم على عدد من الأسس الأخلاقية والسلوكية التي يمكن إيجازها فيما يلي