هذا النص القرآني الكريم جاء في بدتية الربع الثاني من سورة "المائدة" , وهي سورة مدنية , وآياتها مائة وعشرون بعد البسملة , وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى المائدة التي أنزلها الله- تعالى- من السماء على عبده ورسوله المسيح عيسى بن مريم ,كرامة له واستجابة لدعائه .
يدور المحور الرئيس لسورة "المائدة" حول عدد من التشريعات الإسلامية- شأنها في ذلك شأن كل السور المدنية- ومنها التشريع بعدد من الأحكام اللازمة لإقامة الدولة الإسلامية , وتنظيم مجتمعاتها على أساس من الإيمان بوحدانية الخالق- سبحانه وتعالى- وألوهيته , وربوبيته, وتفرده بالحاكمية المطلقة فوق جميع خلقه , ومن ثم كان تفرده بالحق بالتشريع لعباده , ومن ذلك تشريع القصاص الذي يعترض عليه كثير من الناس الذين لم يدرسوا واقع الحياة بشئ من العمق.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم في هذا النص القرآني الكريم يقرر ربنا- تبارك وتعالى- أن قتل إنسان واحد- بغيرحق يمثل قتل الناس جميعا. وهذا الحق الذي يستوجب قتل النفس الإنسانية يقتصر على أن يكون ذلك الإنسان قد قتل نفسا فيستحق القصاص من قبل الحاكم , أو أن يكون قد قام بإفساد في الأرض يوجب إهدار الحاكم لدمه (كالحرابة وقطع الطريق , ومقاومة الحاكم الصالح) أو أن يكون قد اقترف الردة المعلنة وأثار الفتنة بها مما يعتبر كبيرة من الكبائر . وهذه الكبيرة تخلد الواقع فيها في النار إن لم يقتص منه , وأن لم يكن قد تاب إلى الله توبة صادقة قبل تنفيذ القصاص فيه. كذلك جعل النص الكريم العمل على إنقاذ نفس واحدة من الموت معادلا لإنقاذ حياة الناس جميعا, لأنه يكون بذلك قد عظم شأن الحياة , ودعا غيره إلى تعظيمها والمحافظة عليها , وبذل أقصى الجهد لإنقاذها , لأن الحياة لا يأخذها إلا واهبها . والحكمة من هذا التشريع الإلهي هي تعظيم حرمة قتل النفس الإنسانية في قلوب العباد , فقتل نفس إنسانية واحدة- في غير قصاص لقتل , وفي غير دفع لفساد في الأرض- يعدل قتل الناس جميعا . وتعليل ذلك أن حياة كل فرد من بني آدم قد حددها رب العالمين الذي خلقها بقدرته , وقرر لها أجلها في الوقت الذي يعلمه بعلمه المحيط أن دور هذه النفس على الأرض قد انتهى . لذلك لا يجوز لإنسان أن ينتزع الحياة من إنسان آخر ألا بأمر من الله- سبحانه وتعالى- وحسب شريعته . فحق الحياة لا يملكه إلا الله الذي كتب إجل كل فرد من بني آدم وهو لا يزال جنينا في بطن أمه ,وبالتالي لا يجوز أن يتدخل غيره في هذه الآجال . وفي المقابل , فإن الله- تعالى- يحمد للعبد من عباده أن يغيث مستغيثا , أو أن يلبي حاجة مضطر , أو أن ينقذ غارقا أو مصابا بإحدى مصائب الدنيا , أو أن يدفع الموت عن نفس بشرية , في حالة من حالات الاضطرار , سواء كان ذلك بدفع الأذى عنها في حياتها , أو بالقصاص لها في حالة وقوع الاعتداء عليها بالقتل بما يمنع المزيد من القتل , ويردع من تغرية نفسه بالوقوع فيه .
وينطبق هذا الحكم الإلهي على كل صاحب مهنة وحامل مسئولية في المجتمع الإنساني من مثل الطبيب في مشفاه , وطاقم التمريض المساعد له , والصيادلة الذين يوفرون الدواء لمرضاه . كما ينطبق على المهندس الذي يقيم مختلف المشاريع ومساعديه الذين يجب أن يراعوا جميعا حرمة الحياة فيتقنوا ما كلفوا به من أعمال قدر الطاقة .
كما ينطبق على التاجر الذي لا يتعامل إلا فيما يرضي الله , ولا يتداول إلا ما فيه نفع العباد , وعلى الزراعيين الذين يجتهدون في زراعة أفضل المحاصيل وأصحها وأنفعها لخلق الله . وينطبق كذلك على القضاة الذين يقضون بين الناس بالعدل , وعلى المحامين يترافعون لدفع الظلم , وعلى كل صانع يتقن صنعته , وعلى السائق في الطريق العام يحرص على حياة الآخرين كما يحرص على حياته .
ينطبق ذلك كذلك على كل مسئول في المجتمع يقدر أمانة المسئولية التي يحملها على عاتقه , ويشعر بضخامة حجمها , وضرورة الوفاء بها . وهؤلاء جميعا يحفظون حياة الأفراد في مجتمعاتهم حتى يأتي أمر الله . ويشبههم النص الكريم بمن ينقذحياة الناس جميعا إذا تمكن أحدهم من إنقاذ حياة فرد واحد من عباد الله . ولما كانت المجتمعات البشرية تحوي نقائض لهذه الصور ممن قست قلوبهم من الناس , وماتت ضمائرهم , وتمكنت نوازع الشر منهم , حتى أصبحت العدوانية مكونا رئيسا لطبائعهم, وجزءا لا يتجزأ من تكوينهم , كان لا بد من تشريعات حاسمة لمواجهتهم .
فمن أجل حماية المجتمعات الإنسانية من أخطار هؤلاء جميعا نزل هذا التشريع الإلهي رادعا لهم , ومحجما لشرورهم , وذلك بالقصاص الرادع للقاتل بغير نفس أو فساد في الأرض , ووصم جريمته بأنها قتل للناس جميعا . وهذا هو قضاء الله- تعالى وهو أحكم الحاكمين- في قتل فرد واحد من بني آدم بغير حق , فما بال الذين أشعلوا ولا زالوا يشعلون الحروب المحلية والعالمية , وتسببوا- ولا يزالون- في قتل وتشريد ونهب وتعذيب الملايين من البشر الأبرياء ؟ وما بال الذين يتاجرون في الأعضاء البشرية من أجل بعض المكاسب المادية ؟ وما بال تجار المخدرات والمسكرات والمفترات وغيرها من المحرمات التي أهلكت الملايين من بني آدم ولا زالت تقضي على من خلفهم ؟ وما بال الذين شيدوا المباني والمنشئات بغير الشروط اللازمة للسلامة فتسببوا في العديد من الكوارث الإنسانية ؟ وما بال كل تاجر وصانع وموظف ومسئول خان الأمانة الملقاة على عاتقه فتسبب في قتل نفر من الأبرياء؟ وما بال أصحاب التارات يقتلون من يعرفون ومن لا يعرفون بالعشرات إن لم يكن بالمئات ؟
وعلى هؤلاء جميعا أن يقرأوا قول الحق- تبارك وتعالى- {ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا...*} . (المائدة:32) .
فمن إجل هؤلاء جميعا جاء هذا النص القرآني الكريم الذي أنزل في التعليق على طبيعة الشر وحب العدوان في بعض النفوس البشرية , في مقابل السماحة وحب الخير والطيبة والوداعة في بعض النفوس الأخرى كما صورته حادثة ولدي آدم في بدء الخلق . وهذا الواقع البشري يؤكد الحكمة من هذا التشريع الرباني النافذ بالقصاص العادل الذي يكف يد الشرير ويردعه , ويخوف غيره من تقليده في جرائمه , وذلك صونا لدماء وأعراض وأمن وحقوق كل فرد في المجتمع , وهنا تتضح لمحة الإعجاز التشريعي في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال , والله يقول الحق , ويهدي إلى سواء السبيل , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .