هذه الآية الكريمة جاءت في خواتيم سورة النحل, وهي سورة مكية, وآياتها (128) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي النحل. ويدور المحور الرئيس للسورة حول العقيدة الإسلامية. ومن أوجه الإعجاز في النص الكريم: انطلاقا من رحمة الله - تعالي- بعباده قضي أن يعلم أباهم آدم - عليه السلام- الأسماء كلها لحظة خلقه وعند استخلافه في الأرض, علمه حقيقة رسالته في الحياة الدنيا, وغرس في الجبلة الإنسانية الإيمان الفطري به. ونظرا لمحاولات الشيطان إخراج البشر جميعا عن طريق الهداية الربانية إلي متاهات الكفر والشرك والضلال فإن الله - تعالي- أرسل سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين لتذكير الناس بالعهد الذي أخذه - تعالي- عليهم وهم في عالم الذر, ولهدايتهم إلي الطريق المستقيم. ثم أكمل ربنا تبارك - وتعالي- هدايته لخلقه في بعثة الرسول الخاتم - صلي الله عليه وسلم- الذي ليس من بعده نبي ولا رسول, ولذلك تعهد بحفظ رسالته في القرآن الكريم وفي سنة خاتم المرسلين, وأوصاه كما أوصي جميع المؤمنين برسالته بالدعوة إلي دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة, وبجدال الناس بالتي هي أحسن حتى يهتدوا إلي الحق, ويتغلبوا علي نزغات الشيطان في صراعه الدائم معهم. وذلك لأن الإنسان في الأصل مخلوق مكرم: خلقه الله - تعالي- بيديه, ونفخ فيه من روحه, وعلمه من علمه, وأسكنه الجنة, وأسجد له الملائكة, وفضله علي كثير ممن خلق تفضيلا. ولذلك فإن النفس الإنسانية يبقي لها شيء من الكبرياء والاعتداد بالرأي - حتى وإن ضلت- ويبقي لها شيء من حب الدفاع عن الموروث - وإن كان فاسدا- فيدفعها ذلك إلي شيء من العناد والمكابرة الذي لا يطفئ حدته إلا الرفق في الموعظة حتى تصل إلي الخير الفطري في القلوب والنفوس وإن ران عليها كثير من الحجب بالخطايا والذنوب. كذلك يقول ربنا- تبارك وتعالي- مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم- قائلا له: ادع إلي الدين الذي بعثك به ربك هداية لجميع خلقه (بالحكمة) أي بالأسلوب الحكيم وباللطف والرفق واللين, (والموعظة الحسنة) أي: وبالعبر الجميلة التي جاءت في هذه السورة المباركة, وفي غيرها من سور القرآن الكريم. وذكرهم بنعم الله عليهم - وهي لا تحصي- حتى يدركوا حاجتهم إلي هداية ورعاية خالقهم الذي هو رب هذا الكون ومليكه, بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد. ثم يضيف ربنا - تبارك وتعالي- أمره بجدال المخالفين بأفضل طرق المحاورة, وأرق أساليب المناظرة, لإظهار الحق بالحجة الواضحة, والبرهان القاطع, والمنطق السوي فيقول- تعالي: (...وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) والخطاب الإلهي إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم- ملزم لجميع المؤمنين بنبوته ورسالته إلي قيام الساعة, والنص القرآني الذي نحن بصدده يطالبهم بالدعوة إلي دين الله ويضع لهم الأسس والمبادئ والوسائل الصحيحة لتحقيق ذلك والتي يمكن إيجازها فيما يلي: أن الدعوة إلي دين الله واجب إسلامي علي كل قادر, انطلاقا من الإيمان بأن الدين عند الله الإسلام, ووفاء لحقوق الأخوة الإنسانية التي ترد الناس جميعا إلي أبوين وحيدين هما آدم وحواء -عليهما السلام- أن تكون الدعوة خالصة لله - تعالي- ومجردة عن الأهواء الشخصية الفردية والجماعية, وذلك طلبا لمرضاة الله ورجاء الوفاء لنعمة الإسلام, والنجاة في الآخرة, دون أن يكون هناك فضل للداعي علي الدعوة أو علي الذين يهتدون إليها. وأن يتحقق ذلك بالحكمة التي تقتضي النظر في أحوال المدعوين وظروفهم, وبالتدرج الذي يتناسب مع تلك الأحوال والظروف, وبالطرق المناسبة لمستوياتهم الثقافية وأحوالهم الاجتماعية والنفسية. وأن يتم بالموعظة الحسنة التي تصل إلي القلوب والعقول برفق, وتحرك المشاعر بشيء من الإقناع المنطقي الواعي. وأن يصاحب بالمجادلة بالتي هي أحسن, دون أدني قدر من التحامل أو جرح المشاعر حتى يتم الوصول إلي الاقتناع بالحق دون مساس بكبرياء النفوس فلا تشعر بالهزيمة عند وصولها إلي مرحلة الاعتراف بالحق وقبوله. ولتأكيد ضرورة الالتزام بهذا المنهج ختم الله- تعالي- الآية الكريمة بقوله العزيز: (...إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *) حتى يقلل من غرور الداعي إذا نجح في إقناع غيره بالدين الحق لأن الله- سبحانه وتعالي- هو الذي يعين المخلصين الطالبين له حتى يصلوا إليه, ويترك العصاة الضالين لضلالهم. وهنا يتضح وجه الإعجاز التشريعي والأخلاقي في أسلوب الدعوة إلي دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدال الأخلاقي الرفيع.