news-details
الإعجاز الإنبائى والتاريخى

( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ...*) - (القصص:76)

هذا النص القرآنى الكريم جاء فى منتصف الربع الأخير من سورة "القصص" ، وهى سورة مكية ، وأياتها ثمان وثمانون (88) بعد البسملة ، وقد سميت بهذا الأسم لورود قصة نبى الله موسى مع فرعون وملئه ، بشئ من التفاصيل ، وقصة قارون الذى كان من قومه ، وخطاب مفصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك ، ويدور المحور الرئيسى للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية – شأنها فى ذلك شأن كل السور المكية . هذا ، وقد سبق لنا إستعراض سورة "القصص" ، وما جاء فيها من ركائز العقيدة ، والإشارات العلمية والتاريخية ، ونركز هنا على لمحة الإعجاز الإنبائى والتاريخى فى ذكر القرآن الكريم لرجل من قوم موسى كان اسمه " قارون" . من أوجه الإعجاز الإنبائى والتاريخى لذكر القرآن الكريم لرجل من قوم موسى اسمه "قارون" جاء ذكر "قارون" أربع مرات فى ثلاث من سور القرآن الكريم ، منها مرتان فى سورة "القصص" التى أوردت سيرته ، ومرة واحدة فى كل من سورتى "العنكبوت" (39) ، و"غافر" (24) وكلاهما جمع بين قارون وكل من فرعون وهامان مؤكداً معاصرته لهما ، ووقوفه إلى جانب كل منهما . وذلك على النحو التالى : 1. (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ *وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * ) ( القصص : 76، 79 ) . 2. (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * ) ( العنكبوت : 39 ) . 3. ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * ) ( غافر : 23، 24) . ويفهم من هذه الآيات أن "قارون" كان من قوم موسى ( أى من بنى إسرائيل ) ، وأنه بغى على قومه بمنافقته للفرعون ومناصرته والوقوف بجانبه ، رغم طغيان الفرعون وتجبره على بنى إسرائيل ، وأن الله – تعالى – قد ابتلى قارون بفيض من الأموال مما جعل ثروته مضرب الأمثال ، وقد أغْراه هذا المال الوفير بالتكبر على قومه ، وبالتفاخر عليهم بأنفس الثياب وأغلى الزينة و بالتجبر والطغيان والإفساد ، فخسف الله به وبداره الأرض ، وجعله عبره لكل مختال بماله ، مغرور بثروته ، مستغل لما أعطاه الله من خير فى الإفساد فى الأرض والبطش بالخلق ، وما أكثرهم عبر التاريخ ، وما أكثر تشوق الناس إلى الغنى ، وفتنتهم بالمال، وذلك تستمر الآيات فى سورة "القصص" بقول ربنا – تبارك وتعالى – : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ *) ( القصص: 80، 82) . ومنهج القرآن الكريم فى استعراض قصص الأولين يركز على الدروس والعبر المستفادة من القصة ، دون تحديد لمكانها ولا لزمانها إلا لضرورة ، ودون تفصيل لأنساب الأفراد المذكورين فيها إلا بالقدر اللازم للعبرة . وفى استعراض هذا الكتاب العزيز لقصة "قارون" اكتفى بذكر أنه كان من قوم موسى - عليه السلام – فبغى عليهم ، دون الدخول فى تفاصيل درجة قرابته من موسى-عليه السلام- ولا أشكال البغى الذى اقترفه فى حق قومه ، مؤكداً أنه عاش فى زمن هذا النبى ، وأنه كان مقرباً من كل من فرعون وهامان لذكر القرآن الكريم لثلاثتهم فى موضعين من مواضعه (العنكبوت : 39؛ وغافر : 24) . ومؤكداً أن "قارون" هذا كان متكبراً متغطرسا متجبرا بماله ، فخوراً بكنوزه ، مفسداً فى الأرض . والقصة كما أوردتها سورة "القصص" أدت الهدف من استعراض القرآن الكريم لها ، وقررت المبادئ ، والقيم ، والقواعد التى جاءت القصة لتقريرها ، ومن أهمها النهى عن البطر، وعن سوء إستخدام النعم ، وعن الاستعلاء والكبر ، وعن الطغيان والبغى ، وعن الخيلاء والفخر عند إفاضة الله – سبحانه وتعالى – بالمال على عبد من عباده ، لأن فى ذلك جحوداً بالنعمة ، وعدم أداء لحقها بدوام الشكر عليها ، مما يستلزم زوالها ، ويحتم البوار والخسران فى الدنيا ، والعذاب فى الآخره بسبب ذلك البطر . وسورة "القصص" حددت شخص "قارون" ، وحددت قومه بأنهم كانوا من بنى إسرائيل ، وأكدت بأنه بغى عليهم بثرائه كما يبغى غير المؤمنين من الأثرياء فى كل زمان ومكان ، وتكبر عليهم بجاهه وسلطانه ، وعاون كلاً من فرعون وهامان وجنودهما فى إذلالهم واستعبادهم و وتسخيرهم ، نفاقاً ورياءً من أجل المحافظة عل ثروته والتى وصفت بأنها كانت "كنوزا" ؛ والكنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول ، ووصف ضخامة تلك الكنوز بأن حمل مفاتيحها كان يعجز المجموعة من أشداء الرجال . وكطبيعة الفطرة الطيبة التى فطر الله عباده عليها ، وانطلاقاً من حتمية الصراع بين الحق والباطل وجد "قارون" من عقلاء قومه من حاول رده عن بغيه ، وإفهامه حقيقة رسالته فى هذه الحياة الدنيا ، وحتمية خروجه منها ، وفى ذلك تقول الآيات : (...إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ * ) ( القصص : 76، 77). وفى هاتين الآيتين الكريمتين توجيه من الله – تعالى – بأن الإسلام لا يحرم الأثرياء من التمتع بما وهبهم خالقهم من ثراء ، ماداموا يعطون حقه ، ويتصرفون فيه بشئ من القصد والأعتدال ، ولا يوظفونه فى استعباد الخلق ، أو الاستعلاء فى الأرض ، أو الإفساد فيها ، ويقدرون فضل المنعم عليهم به . والفرح المنهى عنه هنا هو الفرح المطغى ، والاستعلاء الكاذب الذى يغري صاحب المال بالتكبر على الخلق ، وبالتنكر للخالق ، وبالإحساس بقوة المال التى يَملؤه الشيطان بها ويغريه بسوء إستغلالها ، فلا يعطى للمال حقه ، ولايحسن توظيفه ، بل يسخره فى الإفساد دون الإصلاح ، وفى التكبر والاغترار بالنعمة والزهو بها ، بدلاً من شكر المنعم عليها ؛ وفى الشعور الكاذب الذى يمليه الغرور المحض بأنه قد إكتسبها بعلمه وذكائه وقدرته ، حتى ينسيه فضل المنعم عليه بها ، كما ينسيه واجب الشكر عليها ، ويبقيه فى بطر وأشر وبخل مذل أو إسراف مخل ، مما يشقيه فى الدنيا ويهينه بالعذاب فى الآخرة . ودين الله لا يحرم الاستمتاع الحلال بالمال الحلال ، وفى شيء من التوسط والاعتدال، ويأمر بأخذ الدنيا والآخرة فى معادلة واحدة ، لا الدنيا الفانية تُنْسى الإنسان حتمية الآخرة الباقية ، ولا هذه الحتمية تحرمه من المتع الحلال فى الدنيا التى خلق الله – تعالى – ما فيها من الطيبات للاستمتاع الحلال بها طيلة خلافة كل منا فى الأرض ، دون إسراف أو تقتير ، ودون إفساد أو استغلال ، ودون ملء لصدور الناس بالحسد والحقد ، والبغضاء والضغينة ، التى تنشأ بين غني مضيع لحقوق من حوله ، وفقراء محتاجين مما لا يرضاه رب العالمين . ولكن "قارون" لا يستمع لنصح العقلاء من قومه ، ولم يعترف بأن ما كان يرفل فيه من نعمة هى من فضل ربه ، فنسب الفضل زوراً لنفسه ، ويسجل القرآن الكريم ذلك على لسانه بقول ربنا – تبارك وتعالى - : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ*) ( القصص : 78 ) . وتعرض الآيات فى سورة "القصص" إلى جانب من انبهار غالبية الناس بماديات هذه الحياة الدنيا ، وانشغالهم بها ، وإلى وجود نفر من العقلاء الصالحين الذين يعلمون أن الدنيا هى مجرد قنطرة إلى الآخرة ، ورحلة قصيرة إليها ، وفى ذلك تقول : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ *) ( القصص : 79 ، 80 ) . ولما لم يُجْدِ نصح الناصحين عند قارون ، بل زاده طغياناً وتجبراً وغروراً ، شاءت إراده الله – تعالى – أن يضع حداً لغروره ، وأن يجعل من سيرته عبرة للناس إلى قيام الساعة فخسف به وبداره الأرض ، وفى ذلك تقول الآيات : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ *) ( القصص : 81 ، 82 ) . وتأتى العبرة من استعراض قصة "قارون" مع قومه فى التأكيد على أن ما يَمُنُّ الله – تعالى – به من رزق على عبد من عباده ليس دليل الرضى عنه ، ولا أن التضييق فى الرزق على عبد من عباد الله هو دليل عدم الرضا عنه ، لأن الله – تعالى – يقسم الرزق بين عباده بعلمه وحكمته وقدرته ، وبمعايير قد لا يستطيع البشر إدراكها . ولو كانت السعة فى الرزق تعبر عن رضا الله – تعالى – على العبد ما كان مصير "قارون" بالصورة المدمرة التى قدرها عليه ربنا – تبارك وتعالى - ؛ و"قارون" لم يُعلن كلمة الكفر ، ولكن اغتراره الشديد بماله إلى حد البطر ، ونسبته إلى ما عنده هو من العلم ، تنكيراً لفضل المنعم - وشدة ما أنزل به من عقاب جعل الذين شاهدوا عملية الخسف به وبداره يضعونه فى صفوف الكافرين بأنعم الله . ونختتم قصة "قارون" فى سورة "القصص" بقول ربنا – تبارك وتعالى – ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *) (القصص : 83 :84 ) . وهذه حقيقة من أهم حقائق الوجود كله ، مؤداها أن الله – تعالى – قد أوجدنا فى هذه الحياة الدنيا للابتلاء والاختبار – وهو أعلم بنا من علم كل فرد منا بنفسه – ولكن ليقيم الحجة على كل واحد من عباده المكلفين بعمله فى الأرض ، حتى يُشهده فى الآخرة على نفسه بعمله، ويثبت له استحقاقه بالخلود فى الجنة أو فى النار ، ولذلك قال – سبحانه وتعالى – : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * ) ( القصص : 83 ) . ومن معانى ذلك أن على الإنسان – ذلك المخلوق العاقل المكلف – أن يدرك حقيقة وجوده فى الحياة الدنيا والتى تتلخص فى كونه عبداً لخالق عظيم خلقه بقدرته ، وحدد له رسالته فى مجالين : أولهما عبادة الله – تعالى – بما أمر ، وثانيهما حسن القيام بواجب الاستخلاف فى الأرض بعمارتها وإقامه شرع الله وعدله فيها ، والاجتهاد الواعى فى هذين المجالين مما يعين الإنسان على الرقي بنفسه إلى مقامات التكريم التى رفعه إليها رب العالمين، والتى لا يمكنه الوصول إليها إلا بالخضوع التام لرب العالمين فى تواضع العبد لخالقه ، وانصياعه لأوامره ، وتسليمه الكامل بأفضال الله ونعمه عليه ، فلا يداخله شئ من الغرور أو الاستكبار ، وهى من نفثات الشياطين ، ولا يغويه الجاه أو السلطان بالستعلاء على الخلق أو بالإفساد فى الأرض لأن أعماله محصية عليه ، وسوف يكافأ بالإحسان إحساناً أوفى وأعم ، وبالإساءة جزاء ما اقترفت يداه ، ولذلك ختم ربنا – تبارك اسمه – قصه "قارون" بقوله – وقوله الحق – : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ) ( القصص : 84 ) . وقال المصطفى – صلى الله عليه وسلم – : "إنه أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغى أحد على أحد " والتواضع لا يعنى إهمال الإنسان لمظهره ، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله إنى أحب أن يكون ردائى حسنا ، ونعلى حسنا ، أفمن الكبر ذلك؟ فقال – صلى الله عليه وسلم – : " لا ، إن الله جميل يحب الجمال " . ومن الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم لقصة "قارون" الذى كان من قوم موسى فبغى عليهم وداهق كلاً من فرعون وهامان وآتاه الله – تعالى – ثروة طائلة من المال فلم يؤد حقها ما يلى : (1) إن البغى على الخلق والإفساد فى الأرض من الأمور المحرمة فى دين الله . (2) إن الغرور بوفرة المال أو الجاه أو السلطان هو عمل من وساوس الشيطان ، وعليه فإنه يجب على كل من وهبه الله نصيباً منها أن يكون حذراً كل الحذر من الوقوع فى حبائل الشيطان الذى يغريه دوماً بالغرور الكاذب ، والاستعلاء المكروه من الله ومن الناس . (3) على كل عاقل أن يوظف ما أعطاه الله من إمكانات فى تحقيق مكاسب فى الآخرة ، وليس معنى ذلك إهمال دنياه ، فان النجاح الصالح فى الدنيا هو من مفاتيح الجنة ، والمتع الحلال بما وهب الله عبده من مال هى حلال كلها ما لم يكن فى ذلك شيء من المبالغة المفسدة ، مع الحرص على إخراج حق الله فى المال ، وإنفاقه فى مصارفه الصحيحة بغير تقتير ولا إتلاف . (4) إن الإفساد فى الارض هو من المعاصي التى لا يرضاها الله – تعالى – من عباده الذين استخلفهم فيها ، وسوف يسائلهم عن كل ما فعلوه فيها . (5) إن البشرية – عبر تاريخها الطويل – إنقسمت بين مؤمنين وكافرين ، موحدين ومشركين، مستقيمين على منهج الله وخارجين عنه ، وعلى الذين أكرمهم الله – تعالى – بالعلم أن يجتهدوا فى نصيحة التائهين الضالين من بنى آدم ، وما أكثرهم اليوم ! (6) إن عاقبة الخروج على منهج الله هى الدمار فى الدنيا ، والعذاب فى الآخرة . (7) إن فتنة الناس ببهرجة الحياة الدنيا هى من أسلحة الشيطان فى إغوائه للإنسان ، ولكن العقلاء من بنى آدم يدركون أن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً . (8) إن التكبر بالمال أو الجاه أو السلطان عقابه فى الدنيا شديد ، وفى الآخرة أشد ، وليس له من دون الله من رافع . (9) لابد من الإيمان بأن الله – تعالى – هو الذى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ، وأن بسط الرزق ليس معناه دوماً رضاء الله ولا أن قبض الرزق معناه دوماً سخط الله . (10) إن الدنيا الفانية هي دار ابتلاء واختبار وامتحان ، وإن الآخرة الباقية هي دار مكافأة وجزاء وعطاء للمتقين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . (11) إن من كرم الله – تعالى – وعدله أن العبد الذي يأتي بالحسنة ( من الإيمان والعمل الصالح ) له من ربه ثواب مضاعف أضعافا كثيرة ، والذي يأتي السيئة ( من الكفر أو الشرك أو ارتكاب المعاصي ) فلا يجزي إلا بمثل ما عمل من السوء . ويبقى ذكر القرآن الكريم لقصة قارون وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله ، وذلك لقدم القصة في التاريخ ( الألفية الثانية قبل الميلاد ) ولأن أيا من العهدين القديم أو الجديد لم يشر إلى قارون أو يذكر شيئاً عن قصته ، فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن ، والحمد لله على بعثة خير الأنام – صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين – وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .