هذا النص القرآني الكريم جاء في نهاية الثلث الأول من سورة التوبة , وهي سورة مدنية , وآياتها مائة وتسع وعشرون , وقد سميت بهذا الاسم لورود لفظة "التوبة" ومشتقاتها إثنتي عشرة مرة . ويدور المحور الئيس للسورة حول عدد من التشريعات الإسلامية ومن أبرزها قضية الجهاد في سبيل الله . هذا وقد سبق لنا استعراض سورة "التوبة" وما جاء فيها من التشريعات , وركائز العقيدة , والإشارات الكونية والإنبائية, ونركز هنا على ومضة الإعجاز التاريخي في إثبات هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- . من أوجه الإعجاز الإنبائي في النص الكريم في فجر يوم الجمعة الموافق 27 من شهر صفر سنة 14 من البعثة النبوية الشريفة (الموافق 13 من شهر سبتمبر سنة 622م ) هاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة, انصياعا لأمر الله- تعالى- بعد ثلاث وخمسين سنة قضاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مكة. وكان أبو بكرقد إعد راحلتين ودليلا ليصحبهما في الرحلة الطويلة, وأمر ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا, ثم يأتيهما إذا أمسى الليل بما يكون من أمر المشركين , وما يدبرون من كيد, ودرب خادمه عامر بن فهيرة مولى أبي بكر أن يرعى الغنم, ليعفو على آثارهما إذا تحركا, ودرب ابنته أسماء- رضي الله عنها- كيف تحمل لهما الزاد من الطعام والشراب وتتسلق به الجبال لإيصاله إليهما. وفي عتمة ليلة الهجرة النبوية الشريفة , طوق بيت النبي- صلى الله عليه وسلم- أحد عشر من شباب كفار قريش يرصدون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نام, وعند منتصف الليل قام, ليأمر علي بن أبي طالب بالنوم في فراشه- قائلا له: " نم على فراشي , وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه , فإنه لن يخلص إليك شئ تكره منهم ". ثم ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عليا نائما في فراشه, وخرج من داره بعد منتصف الليل, والقوم محيطون بالدار إحاطة كاملة متوشحين سيوفهم ينتظرون تنفس الصبح؛ ليعرف الجميع أن القبائل كلها قد اشتركت في دم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. خرج رسول الله مخترقا صفوفهم دون أن يشعروا به فقد أغشى الله أبصار شباب الكفار والمشركين المحيطين بالدار فلم يبصروه, وأخذ ينثر التراب على رؤؤسهم وهو يتلو: ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ). ( يس :9). ثم تحرك- صلى الله عليه وسلم- للقاء أبي بكر عند داره, وانطلقا في رحلة الهجرة المباركة. وشباب قريش محيطون بداره حتى طلع الصبح , وخرج عليهم علي فتبين لهم أنهم قد باءوا بالفشل والخسران. توجه الرسول إلى دار أبي بكر والليل لا يزال مسدلا أستاره , فعمدا إلى الجنوب من مكة المكرمة وذلك تمويها للكفار الذين كانون يعلمون أنهما متجهان إلى المدينة في اتجاه الشمال . ووقف رسول الله يودع أحب بقاع الأرض إلى الله وإلى قلبه الشريف وهو يقول : " والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأنك أحب أرض الله إلى الله- عز وجل- وأكرمها عليه , وأنك خير بقعة على وجه الأرض, وأحبها ألى الله- تعالى- , ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت ". ولم تكن هجرته فرارا من الاضطهاد , ولا بحثا عن الأمن, ولكن استعدادا للجهاد في سبيل الله ومن أجل إقامة دولة الإسلام في الأرض. سار رسول الله ومعه أبو بكر وقد حمل كل ما بقي له من ماله كله دون أن يترك لأولاده منه شيئا, وتحركا قاصدين غار ثور, على بعد حوالي العشرة كيلو مترات من مكة المكرمة في اتجاه اليمن, وأبو بكر خائف على النبي من أن تلمحه عين , فتارة يمشي أمامه, وتارة يأتي خلفه, وثالثة عن يمينه, ورابعة عن يساره, فسأله عن سبب ذلك, فقال أبو بكر : يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك , وأذكر الطلب فأكون خلفك, ومرة عن يمينك و مرة عن يسارك لا آمن عليك. وصعدا الجبل بين الصخور الناتئة حتى وصلا إلى فم الغار, وهم النبي بالدخول إلى الغار فسبقه أبو بكر قائلا: لا تدخل يا رسول الله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شئ أصابني دونك, ودخل أبو بكر أولا, ودار على جوانب الغار يتفحصها , فوجد فيها ثقوبا وفتحات , فشق ثوبه , وبدأ في سد تلك الفتحات بقطع من ثوبه, وبقي ثقبان متجاوران فوضع عليهما قدميه خشية أن يكون بهما من الهوام ما يؤذي الرسول, ثم نادى عليه فدخل, ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام من شدة الإجهاد والتعب. وفوجئ أبو بكر بحية في أحد الجحرين اللذين سدهما بقدميه تلدغه في إحدى القدمين, فلم يحرك قدمه حتى لا تخرج الحية فتؤذي رسول الله. لكن الألم زاد عليه فبدأ يبكي من شدة الألم بكاء مكتوما, وسقطت دموعه على الرغم منه على وجه الرسول, فتنبه واستيقظ قائلا: مالك يا أبا بكر, فقال لدغت فداك أبي وأمي, فعالج مكان اللدغة فشفيت, وذهب ما يجد أبو بكر من الألم. فلما جاء وقت الفجر, ووصل نوره إلى داخل الغار , لاحظ الرسول أن أبا بكر لا يلبس ثوبه الذي كان عليه وهما بالطريق إلى الغار, فسأله عنه فأخبر بأنه مزقه ليسد به جحور الغار خوفا عليه من الهوام, فرفع النبي (صلى الله عليه وسلم) يده إلى السماء وقال: " اللهم اجعل أبا بكر في درجتي يوم القيامة ". مكث الرسول وصاحبه في الغار ثلاث ليال, حتى يأمنا الطريق إلى يثرب, وكان عبدالله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار ليلا ويبيت عندهما حتى السحر, وأسماء تأتيهما بالطعام والشراب لتعود مع أخيها, ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة يرعى خارج مكة على دربهما ليعفى على آثار الأقدام. شمرت قريش عن سواعدها في طلب الرسول وصاحبه, وجندت كل إمكاناتها في سبيل ذلك, وقررت إعطاء مكافأة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما, لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين كائنا ما كان, وحينئذ جدت الفرسان وقصاصو الأثر في الطلب , وانتشروا في الجبال والوديان المحيطة بمكة المكرمة حتى وصل المقتفون للأثر إلى باب "غار ثور" وقال أحدهم: والله ما جاز مطلوبكم هذا المكان. وسمعه أبو بكر فبكى بكاء مكتوماذ هامسا للرسول بقوله: والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا , لو هلك أبو بكر لهلك فرد واحد, أما أنت يا رسول الله لو هلكت ؛ لذهب الدين وهلكت الأمة والله ما على نفسي أبكي, ولكن مخافة أن ارى فيك ما أكره, فطمأنه قائلا: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا" ونزل في ذلك قرآن يتلى إلى يوم الدين يقول فيه ربنا- تبارك وتعالى: ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *) (التوبه : 40 ).