news-details
الإعجاز التربوي

( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *)-(التوبة : 40) - ج2

في المقال السابق استعرضنا عددا من الدروس التربوية الهامة المستقاة من هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- من مكة المكرمة إلى يثرب؛ وذكرنا أن هذا الحدث الذي غير مجرى التاريخ بانتقال المسلمين من مرحلة الاستضعاف والاضطهاد والإيذاء التي عاشوها في مكة إلى مرحلة العزة والقوة والمنعة والتمكين في الأرض التي بدأوها في المدينة . وقلنا أن على مسلمي اليوم معاودة الدراسة لحدث الهجرة النبوية في ضوء الآية القرآنية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال , واستخلاص الدروس التربوية الهامة المستقاة منها , إذا أرادوا الخروج من مرحلة الاستضعاف والاضطهاد والإذلال التي يعيشونها اليوم, والعودة إلى دورهم الرائد في قيادة البشرية الضالة التائهة من جديد, والتي أغرتها غلبتها المادية بالجور والظلم والإفساد في الأرض, في غيبة من الإيمان بالله, وبالآخوة الإنسانية مما أدى إلى إغراق الأرض ببحار من الدماء والأشلاء والخراب والدمار !!! وعرضنا من الدروس المستفادة ما يلي : أولا : ضرورة الإيمان الصادق بالله- تعالى-, وهذا الإيمان يربي أبناء وبنات المسلمين على حتمية التوكل على الله- تعالى- حق التوكل, وعلى بذل الجهد والمال والفكر من أجل نصرة دين الله في الأرض, وضرورة التحرك المخلص بذلك, مع الاستعداد للتضحية بالنفس والنفيس من أجل تحقيق ذلك النصر, والوثوق التام بأن النصر من الله- تعالى- والاستبشار الفرح بقرب تحققه إن شاء الله . ثانيا : مع الإيمان بحقيقة الأخوة الإنسانية , لا بد من التسليم بحتمية الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل , وكان واقع المسلمين في مكة خير شاهد على ذلك , كما أن واقع المسلمين اليوم وهم يتعرضون لمؤامرات أعوان الشيطان من كل حدب وصوب لا يكاد يختلف كثيرا عن واقع الذين آمنوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أهل مكة وتعرضوا لاضطهاد كفار قريش . ثالثا : ضرورة إحكام التخطيط لكل أمر من أمور المسلمين – وقد فقدوا مرجعيتهم الدينية الموحدة في هذه الأيام-, ولقد كان في تخطيط رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لرحلة الهجرة درسا لكل مسلم ومسلمة لا يجوز أن ينسى خاصة في أيام المحن الشديدة التي يتعرض لها مسلو اليوم . وفي مقال اليوم نواصل استعراضنا لعدد لعدد آخر من الدروس المستفادة من هذا الحدث الهام وذلك في النقاط التالية : أولا : ضرورة اليقين في رعاية الله – تعالى – لعباده المؤمنين : في العتمة من ليلة الهجرة النبوية الشريفة، طوق بيت النبي- صلى الله عليه وسلم- أحد عشر شاباً من كفار قريش المتوشحين بالسيوف، وأخذوا يرصدون كل حركة فيه. وعند منتصف الليل قام النبي - صلوات ربي وسلامه عليه – ليخلفه علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في فراشه، وخرج رسول الله من بين المطوقين للبيت دون أن يشعروا به، لأن الله – تعالى – كان قد أغشى أبصارهم بالكامل فلم يروه، وأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حفنة من تراب في يده الشريفة, وجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله- تعالى- (يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *) حتى فرغ من هذه الآيات , ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا, ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب , فأتاهم آت ممن لم يكن معهم , فقال:" ما تنتظرون ههنا؟ قالوا : محمدا ؛ قال : خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد, ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا, وانطلق لحاجته, أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب , ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده , فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي- رضي الله عنه- عن الفراش, فقالوا: والله لقد صدقنا الذي حدثنا" (سيرة ابن هشام) ثم تحرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للقاء أبي بكر كي ينطلقا في رحلة الهجرة، عامدين إلى غار ثور. وكان في خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من طوق المحاصرين لبيته دون أن يشعر به أي منهم معجزة حسية تشهد برعاية الله – تعالى – لأنبيائه وأوليائه والصالحين من خلقه, وهي معجزة وكرامة قابلة للتكرار والإعادة في كل ظرف مشابه حتى قيام الساعة. ثانيا: التأكيد على أن حب مكة المكرمة (بصفة خاصة) وحب الوطن (بصفة عامة) من صميم الإيمان بالله- تعالى-: خرج المهاجران الكريمان من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، قاصدين جبل "ثور" إلى الجنوب من مكة، ولكن قبل البدء في مسيرة الهجرة وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رابية صغيرة في أحد أسواق مكة، واتجه ببصره إلى الكعبة المشرفة يودع أحب بقاع الأرض إلى الله – تعالى – وإليه قائلاً: "والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي، وأنك أحب أرض الله إلى الله – عز وجل – وأكرمها عليه، وإنك خير بقعة على وجه الأرض، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت". وهذا درس في حب مكة المكرمة (بصفة خاصة) وفي حب الأوطان (بصفة عامة) يجب أن يتأسى به كل مسلم. ثالثا: ضرورة حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحب صحابته الكرام : سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر مسافة عشرة كيلو مترات على الأقدام متجهين جنوباً قاصدين غار "ثور"، وقد حمل أبو بكر معه كل ثروته، ولم يترك لأبنائه منها شيئاً، وسار وهو خائف على رسول الله من أن تلمحه عين من أعين كفار ومشركي قريش، فتارة يمشي أمامه وتارة يأتي خلفه، وثالثة عن يمينه، ورابعة عن يساره، فسأله رسول االله عن ذلك فقال: "يا رسول الله! أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، لا آمن عليك". وبعد صعود جبل ثور، وهو جبل شامخ الارتفاع، صعب المرتقى، كثير الأحجار الصلدة، الناتئة، وصل النبي وصاحبه إلى فم الغار، وهم- صلى الله عليه وسلم-بدخوله، فسبقه أبو بكر قائلاً: "لا تدخل يا رسول الله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك". دخل أبو بكر إلى جوف الغار، ودار على جوانبه يتفحصها، فوجد فيها جحوراً كثيرة، فشق ثوبه، ومزقه قطعاً دار بها على جوانب الغار يسد جحورها بخرق الثوب حتى نفدت، وبقي جحران متقاربان لم يجد لديه ما يسدهما به، فاستلقي على أرض الغار مواجهاً هذين الجحرين وعمد إلى سدهما بقدميه خشية أن يكون فيهما شيء من الهوام، ثم نادى على رسول الله فدخل، ووضع رأسه الشريفة على أحد فخذي أبي بكر ونام من شدة الإجهاد. بعد فترة من الزمن فوجئ أبو بكر بحية تلدغه من أحد الجحرين اللذين سدهما بقدميه، فتحمل الألم ولم يحرك قدمه حتى لا تخرج الحية فتؤذي رسول الله, ولكن الألم زاد عليه فبدأ يبكي بكاءً مكتوماً من شدة الألم، وسقط شيء من دموعه على وجه رسول الله فتنبه مستيقظاً سائلاً: "ما لك يا أبا بكر؟" فقال: لدغت يا رسول الله – فداك أبي وأمي – فعالج رسول الله مكان اللدغة فشفيت. ولما جاء وقت الفجر، ووصل نور النهار إلى قلب الغار لاحظ رسول الله أن أبا بكر لا يلبس الثوب الذي كان عليه حين خرجا من مكة، فسأله عنه فأخبر بأنه مزقه ليسد به جحور الغار خوفاً من الهوام، فرفع النبي- صلى الله عليه وسلم- يديه إلى السماء قائلاً: "اللهم اجعل أبا بكر في درجتي يوم القيامة" (أبو نعيم – حلية الأولياء). وهذا درس لا ينسى في حب رسول الله وفي مقام الصحبة في الله . رابعاً : ضرورة الأخذ بالأسباب في كل أمر من أمور الحياة مع جميل التوكل على الله: مكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى يأمنا انصراف المطاردين لهما عن جبال مكة وكانا قد رتبا أن يأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار ليلاً، ويبيت عندهما حتى السحر، وأن تأتيهما أسماء بنت أبي بكر بالطعام والشراب ثم تعود مع أخيها قبل طلوع النهار، ورتبا أن يقوم عامر بن فهيرة برعي الغنم جنوبي مكة ليغطي على آثار المتحركين إلى غار ثور ومنه، وكان في ذلك من دروس حسن الإعداد وضرورة الأخذ بالأسباب ما يجب على المسلمين أن يأخذوا به في جميع أمورهم، بعد جميل التوكل على الله- سبحانه وتعالى-. وقد فرط المسلمون في زماننا هذا في كل من الأخذ بالأسباب فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من ضعف وهوان . خامسا : ضرورة الإيمان بمعية الله – تعالى – لعباده المؤمنين وحفظه لهم: بعد خروج رسول الله وصاحبه من مكة شمر كفار ومشركوا قريش عن سواعدهم في طلب المهاجرين الكريمين، وجندوا كل إمكانياتهم في سبيل تحقيق ذلك، وقرروا إعطاء مكافأة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما، لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين كائناً ما كان. وأملاً في الحصول على تلك المكافأة السخية جَدَّ كلٌّ من قصاصي الأثر والفرسان وانتشروا في كافة الأودية والجبال المحيطة بمكة في طلب المهاجرين الكريمين، حتى وصل بعض المقتفين للأثر إلى فتحة غار ثور، وقالوا: والله ما جاز مطلوبكم هذا المكان. سمع أبو بكر هذا الكلام فبكى بكاءً مكتوماً، هامساً لرسول الله بقوله: "والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. لو هلك أبو بكر لهلك فرد واحد، أما أنت يا رسول الله لو هلكت لذهب الدين، وهلكت الأمة، والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره". فطمأنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-قائلاً: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا" وفي ذلك يقول القرآن الكريم": (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *) (التوبة: 40-41). وقد كان رسول الله واثقاً من معية الله – سبحانه وتعالى- لهما، وبالفعل أوحى الله – تعالى – إلى شجرة أن تنحاز إلى فم الغار لتسده، كما أوحى إلى إحدى إناث العنكبوت أن تنسج نسيجاً يطبق على فم الغار، وإلى حمامتين أن تبيضا وتفرخا بالوصيد، مما جعل كلا من المطاردين وقصاصي الأثر ينبذون الرأي القائل بأنهما قد دخلا إلى جوف غار "ثور"، فعادوا أدراجهم خائبين بعد أن صرف الله أنظارهم عمن بداخل الغار بالشواهد التي أمر بتغطيتها لفوهة الغار، ولذلك قال – تعالى-: (... وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ...) (التوبة: 40). سادسا: ضرورة الوفاء بالعهد: بعد مبيت رسول الله وصاحبه ثلاثة أيام في غار ثور هدأ طلب كفار قريش لهما في كهوف الجبال حول مكة، واتجهت أنظارهم شمالا إلى الطريق المؤدية إلى يثرب، وفي هذا الوقت كان من حسن التخطيط أن جاء عبد الله بن أبي بكر بالراحلتين والدليل (الذي كان مشركاً، ولكنه كان قد أعطى العهد ألا يخون الأمانة) وجاءت أسماء بنت أبي بكر بالزاد، وخرج كل من أبي بكر ورسول الله من الغار، فقدم له أبو بكر أفضل الراحلتين، فقال: "إني لا أركب بعيراً ليس لي" فقال أبو بكر: هي لك يا رسول الله، قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا، قال- صلى الله عليه وسلم- "قد أخذتها به". قال أبو بكر: هي لك يا رسول الله. فركبا، وانطلقا سالكين طريق الساحل – على الرغم من أنه أطول من الطريق الجبلي، وكان في صحبتهما كل من عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، والدليل عبد الله بن أريقط الذي لم يفش سرهما رغم شركه , ولم يكن في عرض مشركي قريش مائتي ناقة لمن يعيد المهاجرين الكريمين إليهم حيين أو ميتين إغراء كافيا أن يخون عهده معهما, وهو درس في الوفاء بالعهد تحتاجه البشرية كلها في زمن الفتن الذي نعيشه اليوم . وفي المقال القادم إن شاء الله سوف نستكمل بقية الدروس والعبر المستقاة من رحلة الهجرة النبوية الشريفة في ضوء الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, وفي ضوء الظروف العصيبة التي نزلت فيها هذه الآية الكريمة .