news-details
الإعجاز التشريعي

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*) - (‏ البقرة‏:183)

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الثلث الثاني من سورة البقرة‏،‏ وهي سورة مدنية‏،‏ وآياتها‏(286)‏ بعد البسملة‏،‏ وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق. وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي معجزة حسية أجراها ربنا‏-‏ تبارك وتعالي‏ علي يدي عبده ورسوله موسي‏-‏ علي نبينا وعليه وعلي كافة أنبياء الله السلام‏-‏ وذلك حين تعرض شخص من قومه للقتل‏،‏ ولم يعرف قاتله حتي يتم القصاص منه‏،‏ فأوحي الله‏-‏ تعالي‏-‏ إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة‏،‏ وأن يضربوا القتيل بجزء منها فيحيا بإذن الله‏-‏ تعالي‏-‏ ليخبر عن قاتله ثم يموت‏،‏ وذلك من أجل إحقاق الحق‏،‏ وإقامة العدل‏،‏ والإشهاد علي قدرة الله‏-‏ تعالي‏-‏ في إحياء الموتي يوم البعث‏.‏ ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي‏،‏ مع الإشارة إلي عدد من ركائز العقيدة الإسلامية‏،‏ واستعراض لصفات كل من المؤمنين والكافرين والمشركين والمنافقين‏،‏ وتفصيل لقصة خلق الإنسان ممثلة في خلق أبوينا آدم وحواء‏-‏ عليهما السلام‏-‏ وعرض لقصص عدد من أنبياء الله ورسله‏،‏ وتناول لمواقف أهل الكتاب بشيء من التفصيل الذي استغرق أكثر من ثلث هذه السورة الكريمة التي ختمت بإقرار حقيقة الإيمان بالله‏،‏ وملائكته‏،‏ وكتبه ورسله‏،‏ وبدعاء إلي الله‏-‏ تعالي‏-‏ يهز القلوب والعقول والنفوس‏.‏ هذا‏،‏ وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في فريضة الصيام في شهر رمضان‏.‏ الإعجاز التشريعي في فريضة صيام شهر رمضان ‏(1)‏ الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للمؤمنين من عباد الله‏،‏ يخبرهم فيه ربهم أن صيام شهر رمضان كتب عليهم كما كتب علي الذين من قبلهم‏،‏ وفي ذلك تأكيد علي وحدة رسالة السماء المستمدة من وحدانية الخالق‏-‏سبحانه وتعالي‏-‏ وهي حقيقة الحقائق في هذا الوجود كله‏.‏ ‏(2)‏ وفي هذا النص القرآني تأكيد كذلك علي أن الله‏-‏ تعالي‏-‏ قد ختم وحيه لهداية خلقه ببعثة الرسول الخاتم‏،‏ سيد الأولين والآخرين من ولد آدم‏،‏ النبي العربي الأمي محمد بن عبد الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ فليس من بعده نبي ولا رسول‏،‏ ولذلك قال ربنا‏_‏ تبارك وتعالي‏-:‏ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ‏....‏" والفعل‏(‏ كتب‏)‏ يشير إلي ثبات الحكم ثبوتامطلقا‏.‏ بما معناه أن صوم شهر رمضان بالهيئة التي حددها لنا كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كان مكتوبا علي الأمم من قبلنا كما هو مكتوب علينا‏،‏ وسيظل مكتوبا علي جميع المؤمنين من بعدنا إلي قيام الساعة‏،‏ ولذلك قال المصطفي‏-‏ صلي الله علبه وسلم‏-:‏ "صيام رمضان كتبه الله علي الأمم قبلكم‏" (‏ أخرجه ابن أبي حاتم‏).‏ ‏(3) (‏ الصوم‏)‏ في اللغة هو الإمساك عن الشيء والترك له‏،‏ وفي الشرع هو الإمساك عن الطعام والشراب وعن غيرهما من المفطرات‏(‏ مع النية‏)‏ من طلوع الفجر الصادق إلي غروب الشمس طوال شهر رمضان‏،‏ لأن صوم شهر رمضان هو أحد أركان الإسلام الخمسة لقول رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ بني الإسلام علي خمس‏:‏ "شهادة أن لا إله إلا الله‏،‏ وأن محمدا رسول الله‏،‏ وإقام الصلاة‏،‏ وإيتاء الزكاة‏،‏ وصيام رمضان‏،‏ وحج البيت"‏.‏ ‏(4)‏ تختتم الآية الكريمة بالإشارة إلي الحكمة من فرض الصيام علي عباده المؤمنين وهي اكتساب فضيلة تقوي الله فقال‏-‏ تعالي‏-‏ في ختام الآية الكريمة‏ "....‏ لعلكم تتقون*"، والتقوي تعرف بالإيمان الصادق بالله الخالق البارئ‏،‏ المصور‏،‏ وبملائكته‏،‏ وكتبه‏،‏ ورسله‏،‏ وباليوم الآخر‏،‏ وبالقدر خيره وشره‏،‏ والخضوع لله‏-‏ تعالي‏-‏ وحده بالعبودية‏ (‏ بغير شريك‏،‏ ولا شبيه‏،‏ ولا منازع‏،‏ ولا صاحبة ولا ولد‏)،‏ وخشيته في السر والعلن‏.‏ ويعبر عن التقوي بتعبير‏:(‏ الخوف من الجليل‏،‏ والعمل بالتنزيل‏،‏ والاستعداد ليوم الرحيل‏)‏ وهذه القضايا الثلاث تؤصل لرسالة الإنسان في الحياة التي يجب أن يعيها كل عاقل‏،‏ لأنه إذا غفل عنها الإنسان أهدر عمره هباء منثورا‏،‏ ولقي الله صفر اليدين من الحسنات‏،‏ مثقلا بالذنوب والتبعات‏.‏ ‏(5)‏ زيادة الإخلاص لله‏-‏ تعالي‏-‏ في قلب الصائم‏،‏ لأن الصيام تجسيد لطاعة الله‏،‏ ولحقيقة العبودية له‏،‏ وامتثال كامل لأوامره‏،‏ ولذلك قال‏-‏ تعالي‏-‏ في حديثه القدسي الذي يرويه عنه خاتم أنبيائه ورسله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به‏..." (‏ رواه كل من أحمد‏،‏ والبخاري‏،‏ ومسلم‏،‏ والنسائي‏)‏ ومن اللافت للنظر أنه ما عبد غير الله بالصيام أبدا ولذلك قال‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏" من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏".‏ ‏(6)‏ الصيام وسيلة رائعة من وسائل التربية للنفس الإنسانية وذلك بتعويدها علي الصبر وتحمل المشاق‏،‏ وفي ذلك يقول‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ "الصوم نصف الصبر‏،‏ والصبر من منازل المؤمنين بالله المتقين لجلاله"‏.‏ والصيام يربي في الصائم قوة الإرادة‏،‏ وتعاظم العزيمة‏،‏ والقدرة علي التحكم في الرغائب والشهوات‏،‏ وهي من أيسر مداخل الشيطان إلي النفس الإنسانية‏،‏ ويعتبر الصوم من أعظم وسائل الإنسان لصد الشيطان‏،‏ لأنه يعود الصائم علي الوقوف عند حدود الله‏،‏ وذلك من أعظم الثمرات المرجوة من هذه العبادة‏.‏ والصيام يعود الصائم علي الالتزام بمكارم الأخلاق‏،‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث‏"،‏ ويقول: "‏...‏ والصيام جنة‏،‏ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث‏،‏ ولا يصخب‏،‏ فإن سابه إحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم‏".‏ ويقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"‏.‏ ‏(7)‏ والصيام يعود المسلم علي الانتظام في العبادة‏،‏ وعلي الاجتهاد في حسن أدائها‏،‏ فيجمع إلي الصلوات المفروضة وسننها‏،‏ العديد من السنن الأخري ومنها صلاة التراويح‏،‏ وقيام الليل‏،‏ والمواظبة علي قراءة القرآن ومدارسته‏،‏ وعلي التفقه في الدين بحضور مجالس العلم‏،‏ والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان‏،‏ وأداء عمرة رمضان إن استطاع إلي ذلك سبيلا لقول رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ "عمرة في رمضان تقضي حجة" أو قال "حجة معي"‏.‏ وقال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏".‏ تعويد المسلمين علي مدارسة القرآن الكريم طوال شهر رمضان‏-‏ وهو شهر القرآن‏-‏ يعينهم علي عدم هجر القرآن بقية العام‏:‏ قراءة‏،‏ وفهما‏،‏ وتدبرا‏،‏ وتطبيقا واقعا في حياة الناس‏،‏ ورسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ يقول‏:‏ "الصيام والقرآن يشفعان يوم القيامة للعبد‏،‏ يقول الصيام‏:‏ أي رب‏!‏ منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه‏،‏ ويقول القرآن‏:‏ منعته النوم بالليل فشفعني فيه‏،‏ قال‏:‏ فيشفعان"‏.‏ وشهر رمضان كما أنه هو شهر الصيام‏،‏ وشهر القرآن‏،‏ وشهر العبادة‏،‏ فمن صفاته أيضا أنه هو شهر الدعاء‏،‏ والدعاء هو مخ العبادة‏،‏ ومن أجمل صور التعبير عن حقيقة العبودية لله‏-‏ تعالي‏-‏ وقوف العبد متضرعا إليه بالدعاء‏.‏ والدعاء في رمضان أحري بالإجابة لقول رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" (‏ ابن ماجه‏)،‏ وقوله‏:‏ "ثلاثة لا ترد دعوتهم‏:‏ الصائم حتي يفطر‏،‏ والإمام العادل‏،‏ ودعوة المظلوم" (‏ الترمذي‏).‏ ومن بركات شهر رمضان تعرض الصائمين لبركات ليلة القدر التي يصفها القرآن الكريم بأنها خير من ألف شهر‏(‏ أي خير مما يزيد علي‏38‏ سنة من العبادة‏)،‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏"،‏ وقال‏:‏ "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"‏.‏ ‏(8)‏ تعويد الصائم علي الجود والكرم‏،‏ وعلي البذل في سبيل الله‏،‏ لاستشعاره بآلام الجوع والعطش مما يجعله يدرك جانبا من معاناة الفقراء والمحتاجين في مجتمعه‏،‏ فيندفع لمساعدتهم بما تجود به نفسه التي هذبها الصيام في شهر رمضان‏،‏ وهذا يعين علي حسن التواصل بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الواحد‏،‏ ويزيل آثار الحسد والغل والضغينة من قلوب المحتاجين‏،‏ ويملأ قلوب الأغنياء بالعطف والحنان علي الضعفاء وذوي الحاجة من حواليهم فتستقيم الأمور‏،‏ وتأمن المجتمعات‏.‏ وجاء في حديث ابن عباس‏-‏ رضي الله عنهما‏-‏ أن رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ كان أجود الناس‏،‏ وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل‏،‏ وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن‏،‏ "فلرسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ أجود بالخير من الريح المرسلة" ‏(‏ أخرجه الإمام البخاري‏). ‏ وقال‏-‏ صلوات ربي وسلامه عليه‏-‏: "الصوم جنة‏،‏ والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار‏" (‏ أخرجه الإمام الترمذي‏)،‏ وسئل‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-:‏ أي الصدقة أفضل ؟ قال‏:‏ "صدقة في رمضان‏" (‏ أخرجه الإمام الترمذي‏)،‏ وفي ذلك يروي عن رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏: "من فطر صائما كان له مثل أجره‏،‏ غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء‏". (‏ أخرجه الإمام الترمذي‏).‏ ‏(9)‏ من الحكمة في تشريع الصيام إتاحة الفرصة لأجساد الصائمين بأخذ فترة راحة استشفائية يتم خلالها تطهيرها مما تجمع فيها طوال السنة‏،‏ من الدهون‏،‏ والشحوم‏،‏ والسموم‏،‏ والنفايات‏،‏ ومسببات الأمراض‏،‏ ويتم خلال تلك الفترة أيضا إصلاح ما أصاب الجسم من أعطاب‏،‏ وذلك لأن‏(01%)‏ من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلي جسم الإنسان تذهب إلي الجهاز الهضمي أثناء عملية هضم الطعام‏،‏ ويتوقف دفع هذه الكمية أثناء الصيام مما يقلل من إجهاد عضلة القلب‏،‏ ويريحها طوال فترة الصيام‏.‏ هذا بالإضافة إلي ما ثبت للصوم من فوائد صحية عديدة لا يتسع المقام لذكرها خاصة في تأثيره الإيجابي علي قدرات التفكير والتذكر‏،‏ وفي تقوية جهاز المناعة‏،‏ وتعجيل الشفاء من العديد من الأمراض‏.‏ نذكر ذلك مع إيماننا بأن الأصل في العبادات أنها طاعة لله‏-‏ تعالي‏-‏ لا تعلل‏،‏ وإن كان إدراك العلة يعين علي حسن الفهم‏،‏ وحسن الأداء‏،‏ وتحقق الأجر وافرا إن شاء الله‏.‏ ‏(10)‏ إحياء روح الجهاد في أمة الإسلام‏،‏ وذلك بتذكير المسلمين بأن جميع انتصاراتهم العسكرية كانت في شهر رمضان ابتداء بغزوة بدر الكبري‏،‏ ثم فتح مكة‏،‏ ثم فتح كل من رودس‏،‏ وبلاد الأندلس‏،‏ وتحرير فلسطين من أيدي الصليبيين في معركة حطين‏،‏ ثم من أيدي التتار في موقعة عين جالوت‏،‏ إلي معركة الشرف والكرامة التي دكت حصون الصهاينة في العاشر من رمضان سنة‏3931‏ هجرية الموافق السادس من أكتوبر سنة‏3791‏ م‏.‏ ‏(11)‏ صوم شهر رمضان يذكر المسلمين بحقيقة أنهم أمة واحدة‏،‏ لديها من عوامل التوحد ما لا يتوافر لغيرها من الأمم‏،‏ فلعلهم يستشعرون ذلك‏،‏ فيسعوا إلي توحيد صفوفهم ولو علي مراحل حتي يتمكنوا من العيش بكرامة وسط عالم التكتلات الذي نعيشه‏.‏ هذه بعض أوجه الحكمة من التشريع الإلهي بصوم شهر رمضان‏،‏ والتي جمعتها الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال في قول ربنا‏-‏ تبارك وتعالي‏-: "...‏ لعلكم تتقون*‏" ولذلك قال رسول الله‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏: "بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له‏".‏