هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الثلث الثاني من سورة البقرة، وهي سورة مدنية، وآياتها(286) بعد البسملة، وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق. وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي معجزة حسية أجراها ربنا- تبارك وتعالي علي يدي عبده ورسوله موسي- علي نبينا وعليه وعلي كافة أنبياء الله السلام- وذلك حين تعرض شخص من قومه للقتل، ولم يعرف قاتله حتي يتم القصاص منه، فأوحي الله- تعالي- إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة، وأن يضربوا القتيل بجزء منها فيحيا بإذن الله- تعالي- ليخبر عن قاتله ثم يموت، وذلك من أجل إحقاق الحق، وإقامة العدل، والإشهاد علي قدرة الله- تعالي- في إحياء الموتي يوم البعث. ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي، مع الإشارة إلي عدد من ركائز العقيدة الإسلامية، واستعراض لصفات كل من المؤمنين والكافرين والمشركين والمنافقين، وتفصيل لقصة خلق الإنسان ممثلة في خلق أبوينا آدم وحواء- عليهما السلام- وعرض لقصص عدد من أنبياء الله ورسله، وتناول لمواقف أهل الكتاب بشيء من التفصيل الذي استغرق أكثر من ثلث هذه السورة الكريمة التي ختمت بإقرار حقيقة الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وبدعاء إلي الله- تعالي- يهز القلوب والعقول والنفوس. هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في فريضة الصيام في شهر رمضان. الإعجاز التشريعي في فريضة صيام شهر رمضان (1) الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للمؤمنين من عباد الله، يخبرهم فيه ربهم أن صيام شهر رمضان كتب عليهم كما كتب علي الذين من قبلهم، وفي ذلك تأكيد علي وحدة رسالة السماء المستمدة من وحدانية الخالق-سبحانه وتعالي- وهي حقيقة الحقائق في هذا الوجود كله. (2) وفي هذا النص القرآني تأكيد كذلك علي أن الله- تعالي- قد ختم وحيه لهداية خلقه ببعثة الرسول الخاتم، سيد الأولين والآخرين من ولد آدم، النبي العربي الأمي محمد بن عبد الله- صلي الله عليه وسلم- فليس من بعده نبي ولا رسول، ولذلك قال ربنا_ تبارك وتعالي-: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ...." والفعل( كتب) يشير إلي ثبات الحكم ثبوتامطلقا. بما معناه أن صوم شهر رمضان بالهيئة التي حددها لنا كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كان مكتوبا علي الأمم من قبلنا كما هو مكتوب علينا، وسيظل مكتوبا علي جميع المؤمنين من بعدنا إلي قيام الساعة، ولذلك قال المصطفي- صلي الله علبه وسلم-: "صيام رمضان كتبه الله علي الأمم قبلكم" ( أخرجه ابن أبي حاتم). (3) ( الصوم) في اللغة هو الإمساك عن الشيء والترك له، وفي الشرع هو الإمساك عن الطعام والشراب وعن غيرهما من المفطرات( مع النية) من طلوع الفجر الصادق إلي غروب الشمس طوال شهر رمضان، لأن صوم شهر رمضان هو أحد أركان الإسلام الخمسة لقول رسول الله- صلي الله عليه وسلم- بني الإسلام علي خمس: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت". (4) تختتم الآية الكريمة بالإشارة إلي الحكمة من فرض الصيام علي عباده المؤمنين وهي اكتساب فضيلة تقوي الله فقال- تعالي- في ختام الآية الكريمة ".... لعلكم تتقون*"، والتقوي تعرف بالإيمان الصادق بالله الخالق البارئ، المصور، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والخضوع لله- تعالي- وحده بالعبودية ( بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة ولا ولد)، وخشيته في السر والعلن. ويعبر عن التقوي بتعبير:( الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل) وهذه القضايا الثلاث تؤصل لرسالة الإنسان في الحياة التي يجب أن يعيها كل عاقل، لأنه إذا غفل عنها الإنسان أهدر عمره هباء منثورا، ولقي الله صفر اليدين من الحسنات، مثقلا بالذنوب والتبعات. (5) زيادة الإخلاص لله- تعالي- في قلب الصائم، لأن الصيام تجسيد لطاعة الله، ولحقيقة العبودية له، وامتثال كامل لأوامره، ولذلك قال- تعالي- في حديثه القدسي الذي يرويه عنه خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به..." ( رواه كل من أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي) ومن اللافت للنظر أنه ما عبد غير الله بالصيام أبدا ولذلك قال- صلي الله عليه وسلم-" من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". (6) الصيام وسيلة رائعة من وسائل التربية للنفس الإنسانية وذلك بتعويدها علي الصبر وتحمل المشاق، وفي ذلك يقول- صلي الله عليه وسلم-: "الصوم نصف الصبر، والصبر من منازل المؤمنين بالله المتقين لجلاله". والصيام يربي في الصائم قوة الإرادة، وتعاظم العزيمة، والقدرة علي التحكم في الرغائب والشهوات، وهي من أيسر مداخل الشيطان إلي النفس الإنسانية، ويعتبر الصوم من أعظم وسائل الإنسان لصد الشيطان، لأنه يعود الصائم علي الوقوف عند حدود الله، وذلك من أعظم الثمرات المرجوة من هذه العبادة. والصيام يعود الصائم علي الالتزام بمكارم الأخلاق، وفي ذلك يقول المصطفي- صلي الله عليه وسلم- "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث"، ويقول: "... والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه إحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم". ويقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". (7) والصيام يعود المسلم علي الانتظام في العبادة، وعلي الاجتهاد في حسن أدائها، فيجمع إلي الصلوات المفروضة وسننها، العديد من السنن الأخري ومنها صلاة التراويح، وقيام الليل، والمواظبة علي قراءة القرآن ومدارسته، وعلي التفقه في الدين بحضور مجالس العلم، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وأداء عمرة رمضان إن استطاع إلي ذلك سبيلا لقول رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: "عمرة في رمضان تقضي حجة" أو قال "حجة معي". وقال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". تعويد المسلمين علي مدارسة القرآن الكريم طوال شهر رمضان- وهو شهر القرآن- يعينهم علي عدم هجر القرآن بقية العام: قراءة، وفهما، وتدبرا، وتطبيقا واقعا في حياة الناس، ورسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول: "الصيام والقرآن يشفعان يوم القيامة للعبد، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان". وشهر رمضان كما أنه هو شهر الصيام، وشهر القرآن، وشهر العبادة، فمن صفاته أيضا أنه هو شهر الدعاء، والدعاء هو مخ العبادة، ومن أجمل صور التعبير عن حقيقة العبودية لله- تعالي- وقوف العبد متضرعا إليه بالدعاء. والدعاء في رمضان أحري بالإجابة لقول رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" ( ابن ماجه)، وقوله: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتي يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم" ( الترمذي). ومن بركات شهر رمضان تعرض الصائمين لبركات ليلة القدر التي يصفها القرآن الكريم بأنها خير من ألف شهر( أي خير مما يزيد علي38 سنة من العبادة)، وفي ذلك يقول المصطفي- صلي الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". (8) تعويد الصائم علي الجود والكرم، وعلي البذل في سبيل الله، لاستشعاره بآلام الجوع والعطش مما يجعله يدرك جانبا من معاناة الفقراء والمحتاجين في مجتمعه، فيندفع لمساعدتهم بما تجود به نفسه التي هذبها الصيام في شهر رمضان، وهذا يعين علي حسن التواصل بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الواحد، ويزيل آثار الحسد والغل والضغينة من قلوب المحتاجين، ويملأ قلوب الأغنياء بالعطف والحنان علي الضعفاء وذوي الحاجة من حواليهم فتستقيم الأمور، وتأمن المجتمعات. وجاء في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، "فلرسول الله- صلي الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة" ( أخرجه الإمام البخاري). وقال- صلوات ربي وسلامه عليه-: "الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار" ( أخرجه الإمام الترمذي)، وسئل- صلي الله عليه وسلم-: أي الصدقة أفضل ؟ قال: "صدقة في رمضان" ( أخرجه الإمام الترمذي)، وفي ذلك يروي عن رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: "من فطر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء". ( أخرجه الإمام الترمذي). (9) من الحكمة في تشريع الصيام إتاحة الفرصة لأجساد الصائمين بأخذ فترة راحة استشفائية يتم خلالها تطهيرها مما تجمع فيها طوال السنة، من الدهون، والشحوم، والسموم، والنفايات، ومسببات الأمراض، ويتم خلال تلك الفترة أيضا إصلاح ما أصاب الجسم من أعطاب، وذلك لأن(01%) من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلي جسم الإنسان تذهب إلي الجهاز الهضمي أثناء عملية هضم الطعام، ويتوقف دفع هذه الكمية أثناء الصيام مما يقلل من إجهاد عضلة القلب، ويريحها طوال فترة الصيام. هذا بالإضافة إلي ما ثبت للصوم من فوائد صحية عديدة لا يتسع المقام لذكرها خاصة في تأثيره الإيجابي علي قدرات التفكير والتذكر، وفي تقوية جهاز المناعة، وتعجيل الشفاء من العديد من الأمراض. نذكر ذلك مع إيماننا بأن الأصل في العبادات أنها طاعة لله- تعالي- لا تعلل، وإن كان إدراك العلة يعين علي حسن الفهم، وحسن الأداء، وتحقق الأجر وافرا إن شاء الله. (10) إحياء روح الجهاد في أمة الإسلام، وذلك بتذكير المسلمين بأن جميع انتصاراتهم العسكرية كانت في شهر رمضان ابتداء بغزوة بدر الكبري، ثم فتح مكة، ثم فتح كل من رودس، وبلاد الأندلس، وتحرير فلسطين من أيدي الصليبيين في معركة حطين، ثم من أيدي التتار في موقعة عين جالوت، إلي معركة الشرف والكرامة التي دكت حصون الصهاينة في العاشر من رمضان سنة3931 هجرية الموافق السادس من أكتوبر سنة3791 م. (11) صوم شهر رمضان يذكر المسلمين بحقيقة أنهم أمة واحدة، لديها من عوامل التوحد ما لا يتوافر لغيرها من الأمم، فلعلهم يستشعرون ذلك، فيسعوا إلي توحيد صفوفهم ولو علي مراحل حتي يتمكنوا من العيش بكرامة وسط عالم التكتلات الذي نعيشه. هذه بعض أوجه الحكمة من التشريع الإلهي بصوم شهر رمضان، والتي جمعتها الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال في قول ربنا- تبارك وتعالي-: "... لعلكم تتقون*" ولذلك قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: "بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له".