هذا النص القرآني الكريم جاء في نهاية الثلث الثاني من سورة "البقرة"، وهي سورة مدنية ، وآياتها (286) بعد البسملة ، وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق . ويدور المحور الرئيسي لسورة "البقرة" حول قضية التشريع الإسلامي ، مع الإشارة إلى عدد من ركائز العقيدة الإسلامية ، واستعراض لصفات كل من المؤمنين والكافرين والمنافقين ، وتفصيل لقصة خلق الإنسان ممثلا في خلق أبوينا آدم وحواء- عليهما السلام- وإشارة إلى عدد من أنبياء الله ورسله ، وتناول لمواقف أهل الكتاب بشئ من التفصيل الذي استغرق أكثر من ثلث هذه السورة الكريمة التي ختمت بإقرار حقيقة الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، وبدعاء إلى الله- تعالى- يهز القلوب والعقول والنفوس في آن واحد . هذا ، وقد سبق لنا استعراض سورة "البقرة" ،وماجاء فيها من ركائز التشريع ، ومكارم الأخلاق ، والقصص ، والإشارات الكونية ، ونركز هنا على أوجه الإعجاز التشريعي في اختيار شهر رمضان لتطبيق عبادة الصيام فيه ، وفي فرض هذه العبادة وجعلها ركنا من أركان الإسلام . من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم (1) إن شهر رمضان هو أشرف شهور السنة على الإطلاق ولذلك جاء ذكره باسمه مفصلا في كتاب الله ، وهو الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم ، بينما جمعت الأشهر الحرم- على فضلها- تحت هذا المسمى ، وفصلت أسماؤها في أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ( وهي ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ) والتي كان العرب منذ القدم يحرمون القتال فيها ، كأحد بقايا الحق القديم الذي أنزله الله- تعالى- هداية لعباده المؤمنين ، ثم انحرف العباد- في غالبيتهم عنه . (2) عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن القرآن الكريم نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان في أول سنة من البعثة المحمدية الشريفة ، ثم أنزل بعد ذلك مفرقا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحسب الوقائع على ثلاث وعشرين سنة . (3) يؤكد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن جميع ما نعلم من رسالات السماء أنزل إلى الأرض في شهر رمضان ، فقد روى الإمام أحمد عن وائلة بن الأسقع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " . (4) هذه الحقيقة تؤكد أن تعظيم شهر رمضان ليس فقط لفرض الصيام فيه ، بل لسر يعلمه الله- تعالى- مما جعله مناط اختياره- سبحانه وتعالى- له لإنزال جميع ما نعلم من رسالاته السماوية في هذا الشهر بالذات ،وربما يكون ذلك هو من مبررات تشريع الصيام في شهر رمضان- على جلال عبادة الصيام وقدرها عند رب العالمين لأنها أحب العبادات الى الله- فعن أبي أمامة- رضي الله عنه- أنه قال : أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت : مرني بعمل يدخلني الجنة ، قال: " عليك بالصوم فإنه لا عدل له " ثم أتينه الثانية ، فقال: " عليك بالصوم" (أخرجه كل من أحمد ، والنسائي والحاكم ) . وعن سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : " لا يصوم عبد يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفا" ( أخرجه الجماعة ، إلا أبا داود) . وعن سهل بن سعد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "إن للجنة بابا ، يقال له الريان ، يقال يوم القيامة : أين الصائمون ؟ فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب " ( أخرجه الإمامين البخاري ومسلم) . (5) إن إنزال جميع ما نعلم من الكتب السماوية في شهر رمضان فيه تأكيد على وحدة رسالة السماء ، وعلى الأخوة بين الأنبياء ،وبين بني آدم جميعا ،وذلك كله منطلق من وحدانية الخالق- سبحانه وتعالى- فوق جميع الذين خلقهم في زوجية واضحة حتى يبقى الله- تعالى- متفردا بوحدانيته . (6) إن اختيار شهر رمضان لإنزال جميع ما نعلم من رسالات السماء فيه تأكيد على أنه أشرف شهور السنة على الإطلاق ، فكما فضل الله- تعالى- بعض النبيين وبعض الرسل على بعض ، وفضل بعض الأفراد العاديين على بعض ، فضل بعض الأماكن وبعض الأزمنة على بعض ، فجعل مكة المكرمة أشرف بقاع الأرض ، يليها في الشرف مدينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم بيت المقدس الذي ندعو الله- تعالى- أن يعين أمة الإسلام على تحريره من دنس اليهود . ومن تفضيل بعض الأزمنة على بعض جعل ربنا- تبارك وتعالى- يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ، وجعل شهر رمضان أفضل شهور السنة ،وجعل العشر الأواخر من ليله أفضل عشرة ليال في السنة ، وجعل أشرفها على الإطلاق "ليلة القدر" التي جعلها ربنا- تبارك وتعالى- خيرا من ألف شهر ،( أي أن العبادة فيها تفضل العبادة في أكثر من ألف شهر ، وهي تزيد على 83 سنة ) . وفي المقابل جعل ربنا- سبحانه وتعالى- الأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة أفضل عشرة أيام ( بمعنى النهار) في السنة ، وجعل أشرفها على الإطلاق يوم عرفة . (7) من هنا كان تأكيد القرآن الكريم على فضل شهر رمضان الذي قال ربنا- تبارك وتعالى- فيه : "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.....*". ( البقرة:185 ). (8) وكان المصطفى- صلى الله عليه وسلم- يبشر صحابته الكرام بمقدم شهر رمضان بقوله : " قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم " ( أخرجه كل من أحمد ، والنسائي والبيهقي ) . (9) في قوله- تعالى- ".... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ....*" المراد بالشهود هنا هو شهود الوقت ، لا شهود رؤية الهلال ، الذي لا يراه بالقطع كل الناس . و(شهد) هنا بمعنى حضر ، ويقصد به من شهد منكم الشهر بالغا، مقيما ، غير مسافر ولا مريض فليصمه أي شهر رمضان ، وهذا دليل على كرامة هذا الشهر عند رب العالمين . و(الشهود) و(الشهادة) هو الحضور مع (المشاهدة) إما بالبصر ، أو البصيرة ، وإما بهما معا ، ولكن (الشهود) بالحضور المجرد هنا أولى ، ولكن (الشهادة) مع (المشاهدة) تكون أولى عند رؤية الهلال ، وهي قول صادر عن علم يقيني حصل بمشاهدة البصر ، أوبإدراك البصيرة ، أو بهما معا . ويأتي الفعل (شهد) بمعنى علم علما قاطعا . أو اطلع اطلاعا صادقا ، أو حضر حضورا واقعا ، أو أخبر وتبين إخبارا مقرونا بالعلم واالإظهار ، ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : " صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " ( رواه البخاري ومسلم). وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله عليه وسلم- يقول " إذا رأيتموه فصوموا ، وأذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له" (أخرجه الإمام البخاري). وعنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" ( أخرجه الإمام البخاري). وذلك لا يعني عدم الحساب ، بل هو من قبيل التسهيل على الأمة في زمن لم يكن متوافرا لها شئ من المعارف والتقنيات المتاحة لنا اليوم . وعلى ذلك فإن الرؤية تشمل إدراك ذلك بالعين المجردة ، أو بواسطة الأجهزة المقربة (التلسكوبات) ، أو بواسطة الحساب الفلكي ، أو باستخدام الطائرات والأقمار الصناعية . والتقدير في حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يشير صراحة إلى الحسابات الفلكية ، وعلى كل ما هو متاح من المعارف المكتسبة والتقنيات المتطورة . والذي يعين على رؤية هلال رمضان بعد غروب يوم (29) من شعبان واستخدام كل التقنيات المتاحة هو المناط الحقيقي لإثبات دخول شهر رمضان . ورؤية هلال رمضان إذا ثبتت في أي بقعة من بقاع الأرض ، فإن ثبوتها ملزم لجميع بقاع الأرض إذا أعلموا بذلك ، وذلك لأن عملية ميلاد الهلال هي حدث كوني يعم كل الأرض مع اعتبار الفوارق الزمنية . ومن الملفت للنظر أن كلا من فقهاء الأحناف والمالكية والحنابلة يقررون بأنه لا عبرة باختلاف المطالع ، فإذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على بقية البلاد لقوله- صلى الله عليه وسلم- : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وهو خطاب عام لجميع الأمة ، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعا . ومن المعلوم أن كلا من القمر والأرض يدور من الغرب إلى الشرق ، ونتيجة لذلك فإن البلاد في نصف الكرة الغربي ترى الهلال الوليد لفترة أطول من نظائرها في نصف الكرة الشرقي . ويبقى فرق التوقيت بين أبعد نقطتين على سطح الأرض لا يتعدى (12) ساعة بالزائد او بالناقص ، ومن ثم فإن اختلاف الأمة في بدء الصيام ونهايته هو ناتج عن انقسام المسلمين اليوم إلى أكثر من (62) دولة ودويلة ، ولا علاقة له بالمعطيات العلمية . كذلك فإن التغير في طول كل من الليل وانهار يتضاعف باستمرار في اتجاه خطوط العرض العليا ، فإذا وصلنا إلى خط عرض (48،5) شمالا أو جنوبا فإن شفق العشاء يتصل بشفق الفجر في فصل الصيف ، ويكون طول الليل حوالي أربع ساعات فقط ، وهنا يلزم التقدير على أساس أقرب منطقة تنتظم فيها العلامات الفلكية أو اختيار عدة من أيام أخر . وفي قول ربنا- تبارك وتعالى- "... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ...*" هو أمر ملزم لكل مسلم ، بالغ ، عاقل ، صحيح ، مقيم متى رأى الهلال أو أخبر برؤيته من مصدر موثوق به . وفي زمن تسارع وسائل الاتصال والمواصلات الذي نعيشه لم يعد هناك مجال لاختلاف الأمة في تحديد أوائل الشهور القمرية التي يرتبط بهما ركنان من أركان الإسلام هما : الصيام والحج ، ولم يعد هناك مبرر لمسلم مكلف أن يحرم نفسه من بركات شهر رمضان بغير عذر شرعي ، ولذلك حذر المصطفى- صلى الله عليه وسلم- من التفريط في يوم واحد من أيام رمضان فقال : "من أفطر يوما من رمضان ، في غير رخصة رخصها الله له ، لم يقض عنه صيام الدهر كله ، وإن صامه" (أخرجه أبو داود ، وابن ماجة والترمذي). من كل ذلك يتضح وجه من أوجه الإعجاز التشريعي في فريضة صيام شهر رمضان ، وفي جعل هذا الشهر أفضل شهور السنة لاختياره من بين شهور السنة لإنزال جميع ما نعلم من الكتب السماوية فيه ، فالحمد لله على نعمة الإسلام ، والحمد لله على نعمة القرآن ، والحمد لله على بعثة خير الأنام – صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .