news-details
الإعجاز التشريعي

(... وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*) - (البقرة‏:184)

هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتيم الثلث الثاني في سورة البقرة وقد سبق لنا استعراضها ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في النص القرآني الكريم الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال . من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم يقول ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *" (البقرة : 183 ، 184). ومن معاني هذا النداء الإلهي المحبب إلى كل نفس مؤمنة أن الصيام عبادة فرضها ربنا- تبارك وتعالى على جميع الأمم من قبلنا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن نص الكريم قَبْلِكُمْ ..." وفي هذا النص الكريم إنباء بحقيقة غيبية لم تكن معروفة لأحد من الناس في زمن، الوحي ، مؤداها أن الله- تعالى- كتب صيام شهر رمضان على كل أمة مؤمنة من لدن أبوينا آدم وحواء- عليهما السلام- إلى بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- وحتى قيام الساعة ، وفي ذلك يقول هذا الرسول الخاتم- صلوات ربي وسلامه عليه- : " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم " (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- مرفوعا ). ويدعم ذلك استخدام الفعل (كتب) أي كتبه الله-تعالى- عليكم كما كتبه على جميع الأمم من قبلكم ، والفعل (كتب) يشير إلى ثبات الحكم ثباتا مطلقا ، وهو يختلف عن مرادفاته من مثل الأفعال (شرع) ، (فرض) ، و(وصى) لأن دلالة هذه الأفعال وقتية ، تتعلق بالشرائع الخاصة بأمة من الأمم ، في زمن من الأزمنة . ويوضح قول ربنا- تبارك وتعالى-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*" أن الغاية المقصودة من أداء هذه العبادة المكتوبة على المؤمنين في كل الأمم هي تحقيق تقوى الله ، وذلك بإدراك مراقبته ، وضرورة خشيته باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، وهو ما يحققه الصوم بتقوية الإرادة ، وتطهير السريرة ، وضبط السلوك ، وربط المخلوق بخالقه ، وحراسة الجوارح والقلوب من إفساد الصوم بالوقوع في معصية من المعاصي . والآية الكريمة تثبت وحدة رسالة السماء ، والأخوة بين الأنبياء ، وبين الناس جميعا، انطلاقا من وحدانية الخالق- سبحانه وتعالى- كما تثبت أنه ليس بعد سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- نبي ولا رسول . والصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب وعن غيرهما من المفطرات طوال النهار من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع حضور النية . والصيام منه: المفروض وهو صيام شهر رمضان (أداءا وقضاءا) وهو أحد أركان الإسلام الخمسة ، ومنه: صيام الكفارات ، وصيام النذر (الصيام المنذور) . وهناك الصيام المسنون (أو المندوب) ومنه الصوم في شهر المحرم ( وأفضله التاسع والعاشر منه ) ، والصيام في بقية الأشهر الحرم ( ذو القعدة ، وذو الحجة ، ورجب ) ، ومنه الصيام في شهر شعبان (خاصة في نصفه الأول)، ومنه صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ( ويندب أن تكون هي الأيام البيض : الثالث عشر إلى الخامس عشر من كل شهر قمري ) ، كما يندب صوم يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة ) لغير القائم بأداء الحج ، ويندب صوم ستة أيام من شوال مطلقا ، والقادر على صيام يوم وإفطار يوم أفضل أنواع الصيام المندوب .وقد فعله داود- عليه السلام- من قبل ، وامتدحه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوله الشريف : "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى". والصائم المتطوع أمير نفسه ، إن شاء صام وإن شاء أفطر، كما جاء في حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- . وهناك من الأوقات ما يكره فيها الصوم وذلك من مثل إفراد يوم الجمعة ، أو إفراد يوم من أيام أصحاب المعتقدات الفاسدة بالصوم . ومن المكروه وصل الصيام في شهر شعبان بصوم رمضان ، وينهى عن صوم يوم الشك . ومن الصيام المحرم صيام يومي العيدين (الفطر والأضحى ) ، وصيام أيام التشريق ، وصوم الوصال (وهو مواصلة الإمساك نهارا وليلا ) ، وصيام الدهر ، وصوم الصمت (بالامتناع عن الكلام لفترات طويلة ) ، وصيام الزوجة نفلا بغير إذن زوجها . وصوم رمضان كتبه الله- تعالى- على كل مسلم ، بالغ ، عاقل ، حر ، صحيح ، مقيم ، وكان ذلك يوم الإثنين الثالث من شعبان في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة . فمن أدرك هذا الشهر من المسلمين الذين تنطبق عليهم هذه الشروط ، فعليه صومه انصياعا لأوامر الله- تعالى- وطاعة له ، ويجب أن تكون الأنثى طاهرة من الحيض والنفاس . لذلك إذا انتفى شرط من هذه الشروط سقط الصيام سقوطا مطلقا أو مرحليا ، فلا صيام على كافر ، ولا على مجنون ، ولا على صغير السن ( إلا إذا كان لمجرد التدريب على الصوم ) ، ولا على مريض ، ولا مسافر ، ولا على طاعن في السن ، ولا على حائض ، ولا نفساء ، ولا على حامل ولا مرضع من النساء إذا شعرت بخطر على جنينها أو على رضيعها أو على نفسها من الصوم . فكل من الكافر والمجنون لا صيام عليه مطلقا ، ومن كان دون البلوغ يطلب من وليه أن يأمره بالصيام من قبيل تعويده على القيام بهذه العبادة ، وفي بعض الحالات يجب الفطر ثم القضاء ، وفي البعض الآخر يرخص بالفطر وتجب الفدية ، أو يجب القضاء والفدية حسب تفصيل الفقهاء ، ولذلك قال- تعالى-: "أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *" ( اليقرة : 184 ) . وصوم رمضان هو لأيام معدودات ( 29-30 يوما ) ، ومع ذلك فقد أعفي من الصوم فيه كل من المرضى حتى يصحوا ، والمسافرون حتى يعودوا إلى ديار إقاماتهم ، وذلك تيسيرا من رب العالمين .وظاهر النص القرآني في المرض والسفر أنه يطلق ولا يحدد ، فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر ، والأمر متروك لتقدير صاحبه ، على أن يقضي المريض حين يصح. والمسافر حين يقيم ، وفي ذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم – : "إن الله - تعالى- وضع شطر الصلاة عن المسافر ، وأرخص له في الإفطار ، وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما " ( أخرجه أصحاب السنن ). وصوم رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع ، ولذلك حذر المصطفى- صلى الله عليه وسلم- من الترخص في فطره بغير عذر شرعي فقال : " من أفطر يوما من رمضان ، في عير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر كله ، وإن صامه " ( أخرجه كل من أبي داود ، وابن ماجة ، والترمذي ). وتستمر الآية الكريمة ( رقم 184) بقول ربنا- تبارك وتعالى-: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ..." (والطاقة ) اسم للقدرةعلى الشئ مع المشقة والشدة ، وعلى ذلك فإن معنى يطيقونه أي : يتحملونه بمشقة وشدة . ومن معاني هذا النص الكريم أن على الذين يجدون في الصيام مشقة ( كالشيخ الهرم والعجوز الطاعنة في السن والمرضع والحامل إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما ، ومن في حكم هؤلاء ) أن يفطر وعليه الفدية ، وهي إطعام مسكين عن كل يوم . ثم حببهم في إطعام أكثر من مسكين عن اليوم بقوله- تعالى- : "... فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ... " ، ثم حببهم في الصوم مع المشقة في غير سفر ولا مرض قائلا : ".. وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *" وذلك لما في الصوم من خير عميم . وعلى ذلك فإنه يرخص بالفطر في شهر رمضان للشيخ الكبير في السن ، والمرأة العجوز ، والمريض الذي لا يرجى برؤه ، وأصحاب الأعمال الشاقة ، الذين لا يجدون متسعا من الرزق في غير ما يزاولونه من أعمال ، إذا كان الصيام يجهدهم فوق طاقتهم ، ويشق عليهم قضاؤه في جميع فصول السنة . هؤلاء جميعا يرخص لهم الشرع الإسلامي في الإفطار في رمضان ، وعلى كل واحد منهم أن يطعم عن كل يوم مسكينا أو أكثر من مسكين على قدر طاقته . فإن لم يكونوا قادرين على إطعام مسكين عن كل يوم من أيام رمضان فيرى كل من الإمامين مالك وابن حزم أنه لا قضاء ولا فدية . قال ابن عباس : "رخص للشيخ الكبير أن يفطر ، ويطعم عن كل يوم مسكينا ، ولا قضاء عليه " ( أخرجه الإمامين الدارقطني والحاكم ) . وكل من الحبلى والمرضع- أذا خافتا على نفسيهما ، أو أولادهما – لهما الرخصة بالإفطار في رمضان ، وعلى كل منهما الفدية ، ولا قضاء عليهما عند كل من ابن عمر وابن عباس ، وعن الأحناف أنهما تقضيان فقط ولا فدية عليهما . وإن كانت أي منهما مستطيعة ماديا فالفدية والقضاء . أما المريض الذي يرجى برؤه والمسافر فيباح لكل منهما الفطر في رمضان ، ويجب على كل منهما القضاء ، والسفر المبيح للفطر ، هو السفر الذي تقصر الصلاة بسببه ، ومدة الإقامة التي يجوز له أن يقصر الصلاة فيها . واتفق الفقهاء على أنه يجب الفطر على كل من الحائض والنفساء ، ويحرم عليهما الصيام ، وعلى كل منهما قضاء ما يفوتها من صيام أيام رمضان . من هذا الاستعراض يتضح وجه من أوجه الإعجاز التشريعي فيما فرضه ربنا- تبارك وتعالى- على عباده المؤمنين من فريضة الصيام في شهر رمضان ، وسماحة هذا التشريع في جعله أولا : أياما معدودات ( وهو شهر رمضان) ، ولم يجعله فريضة مدى العمر وإلا استحال تنفيذه ، وثانيا : أنه وضع من تفاصيل تطبيق هذا الأمر مع ما يتناسب مع كل حالة من حالات البشر فأعفى من أدائه إعفاءا مؤقتا المرضى حتى يصحوا ، والمسافرين حتى يقيموا ، وعلى كل منهم القضاء ، وأعفى إعفاءا مطلقا كلا من الشيخ الكبير في السن ، والمرأة العجوز ، والمريض الذي لا يرجى برؤه ، وأصحاب الأعمال الشاقة الذين لا يجدون متسعا من الرزق في غير ما يزاولونه من أعمال ، وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا أو أكثر إن اسطاعوا ، فإن لم يستطيعوا فلا شئ عليهم ( لا قضاء ولا فدية) ، وكذلك الحبلى والمرضع إذا خافتا على نفسيهما ، أو أولادهما أفطرت كل منهما وعليها إما القضاء أو الفدية أو كليهما معا إن استطاعت ذلك . ومع كل هذه الرخص ختمت الآيتان ( رقم 183 ، 184 من سورة البقرة ) بقول ربنا – تبارك وتعالى -: "...وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*" ولا يملك مثل هذه الدقة في التشريع إلا الله رب العالمين ، فالحمد لله على ما أنعم، والصلاة والسلام على خير من أرسل ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .