يقول ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه : " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* " ( البقرة : 185). ونفهم من هذه الآية الكريمة ما يلي : أولا : يشرف ربنا- تبارك وتعالى- شهر رمضان باختياره من بين الشهور القمرية الإثني عشر للسنة من أجل إنزال هدايته للبشرية فيه ( القرآن الكريم) فقال- تعالى-: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ....*" ويذكر ابن عباس- رضي الله عنهما- أن القرآن الكريم نزل جملة واحدة من اللوح المحفزظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان ، ثم أنزل بعد ذلك مفرقا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحسب الوقائع على مدى ثلاث وعشرين سنة ، وكان بدء نزوله في نهار الإثنين من شهر رمضان سنة البعثة النبوية الشريفة ، ولذلك قال- تعالى-: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ * لَيْلَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ*" ( القدر : 1-5 ). وقال- تعالى-: "حـم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *" (الدخان: 1-6). ثانيا : إذا كان صيام شهر رمضان قد كتبه الله- تعالى- على كل مسلم ، بالغ ، عاقل ، صحيح ، مقيم ، وذلك تعظيما لهذا الشهر الكريم الذي اختاره الله- سبحانه وتعالى- لإنزال القرآن الكريم فيه ، فإن أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تؤكد أن جميع ما نعلم من أصول الكتب السماوية قد أنزل في شهر رمضان ، فقد روى كل من الإمام الطبراني في الكبير بسند حسن ، والأمام أحمد في مسنده عن وائلة بن الأسقع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشر خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " . ثالثا : هذا يؤكد كرامة خاصة لشهر رمضان عند رب العالمين ، لا يدانيه فيها شهر آخر من شهور السنة . ويؤكد أيضا ضرورة الأخذ بالشهور القمرية ، وذلك لأن القمر هو أقرب أجرام السماء إلى الأرض ، ومن ثم فإن حركته هي أوضح بالنسبة لأهل الأرض من حركة أي جرم سماوي آخر . ويضاف إلى ذلك أن دورة القمر حول الأرض هي دورة فطرية ، لا دخل للإنسان فيها ، وهي دورة تضبط ذاتها بنفسها في كل شهر قمري ، ومن معاني ذلك توزيع الفروق الزمنية على الشهور القمرية بشكل تلقائي يضبطه ميلاد القمر في مطلع كل شهر قمري . أما توزيع الفروق الزمنية قي الشهور الشمسية فيتم بشكل عشوائي اصطلاحي يتفق عليه الناس . فالمدة الزمنية للشهر القمري تقدر في المتوسط ب (29) يوما ، (12) ساعة ، (44) دقيقة ، (2،8) ثانية . ويمتد زمن الشهر القمري من وقت غروب الهلال الوليد بعد غروب الشمس إلى غروبه مرة أخرى تحت نفس الظروف . ويتعين مولد الهلال بخروجه من مرحلة المحاق التي يكون فيها وجه القمر المواجه للأرض مظلما إظلاما كاملا بسبب وجوده بين كل من الأرض والشمس ،وتكون مراكز هذه الأجرام الثلاثة على استقامة واحدة ، وبذلك يبقى نصف القمر المواجه للشمس منيرا ، ونصفه المواجه للأرض مظلما . وبمجرد خروج القمر عن هذه الاستقامة يولد الهلال الجديد ، وإذا حدث ذلك بعد غروب الشمس مباشرة دخل الشهر القمري الجديد . ويكون الشهر القمري إما (29) يوما أو (30) يوما ، ويحدد ذلك بميلاد القمر . وقد تتوالى الأشهر القمرية الناقصة أو الأشهر الكاملة مرة أو مرتين في السنة . أما الأشهر الشمسية فيتم توزيع الأيام فيها حسب اتفاق الناس الذين جعلوا أربعا منها على ثلاثين (30) يوما ، وسبعا على واحد وثلاثين (31) يوما ، وواحد منها على ثمانية وعشرين (28) يوما ، في السنة البسيطة وعلى تسعة وعشرين (29) يوما في السنة الكبيسة . وهذا هو إجراء بشري ، إصطلاحي ، عشوائي محض ، ولذلك فهو عرضة للخطأ . واليوم في كل من التقويم الإسلامي والفلكي يبدأ بالليل الذي يليه النهار ، ويبدأ الليل بعد غروب الشمس مباشرة ، وينتهي عند طلوع الفجر الصادق ، حين يبدأ النهار الذي ينتهي مع غروب الشمس . أما في التقويم الوضعي فإن اليوم يبدأ من منتصف الليل إلى منتصف الليل التالي ، وبذلك يقع النهار بين ليلتين ، ويعتبر ذلك سابقا لليل ، وهذا مخالف لجميع الحقائق الكونية . والسنة القمرية تتكون من إثني عشر شهرا قمريا يقدر زمنها ب (354) يوما ، (8) ساعات ، (48) دقيقة ، (33،6) ثانية ، وعلى ذلك فإن زمن السنة القمرية يتراوح بين (354) ، (355) يوما ، واليوم الزائد يستوعب في أي شهر من أشهر السنة بحسب دورة القمر حول الأرض دون أدنى تدخل من الإنسان . والسنة الشمسية هي المدة اللزمة للأرض لإتمام دورة كاملة حول الشمس ، ومدتها إثنا عشر شهرا شمسيا ، وطولها الزمني هو في المتوسط (365) يوما ، (5) ساعات ، (48) دقيقة ، (46) ثانية . وبجبر الكسور تصبح السنة الشمسية (365) يوما في السنة البسيطة ، (366) يوما في السنة الكبيسة ، ويضاف اليوم الزائد عشوائيا إلى عدد أيام شهر فبراير ليصبح (29) يوما . من هنا تتضح دقة الشهور القمرية ، ويصبح ورودها في كتاب الله وجها من أوجه الإعجاز فيه . رابعا : في وصف القرآن الكريم بأنه: " هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ..." تأكيد على أنه الصورة الوحيدة من كلام رب العالمين ، المحفوظ بين أيدي الناس اليوم ، والمحفوظ بحفظ الله في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) بنفس النص الذي أوحي به ، لذلك بقي القرآن الكريم هاديا لقلوب من آمن به وصدقه واتبعه ، ودلائل وحجج بينة واضحة ، ومفرقا بين الحق والباطل .خامسا : في قوله تعالى: ".... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...." وهذا إيجاب جازم على كل من شهد استهلال شهر رمضان من المسلمين المكلفين أن يصوم الشهر لا محالة . والشهود المقصود هنا هو حضور المسلم بداية الشهر معافى ، مستقرا غير مسافر ، أورؤية هلال رمضان أو التأكد من دخول الشهر بأية وسيلة صحيحة كالحساب الفلكي ، أو العلم بدخول شهر رمضان من مصدر موثوق به ، وذلك لأن (الشهود) و (الشهادة) هي الحضور مع (المشاهدة) ، إما بالبصر، وإما بالبصيرة ، أو بهما معا . ولكن الشهود بالحضور المجرد أولى هنا ، واللشهادة مع المشاهجة هي قول صادر عن علم يقيني تحقق بمشاهدة البصر أو البصبرة أو بهما معا . ويأتي الفعل (شهد) بمعنى استيقن أي علم علما قاطعا ، أو أخبر إخبارا مقرونا بالعلم والإظهار . وأتي ضمن ذلك الحساب الفلكي . والخطاب القرآني بالأمر الإلهي : "... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..." هو خطاب لجميع المسلمين المكلفين بالصيام ، وليس معنى ذلك مطالبة كل مكلف برؤية الهلال لاستحالة تحقيق ذلك ، ومن هنا فإن المعنى المقصود من قول ربنا-تبارك وتعالى- (فمن شهد) هو من أدرك شهر رمضان ، وعلم بثبوت رؤية هلاله بالبصر ، أو بالبصيرة، أو بهما معا ، وذلك بنفسه أو بواسطة أهل العلم والرأي والحكم، وجب عليه الصوم إذا كان مكلفا . ويؤكد هذا الفهم قول ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : " إذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له" (البخاري). والتقدير هو الحساب ، وعنه أيضا أن رسول الله- صلوات ربي وسلامه عليه- قال: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" (البخاري). وذلك لا يعني عدم الحساب ، بل هو من قبيل التسهيل على الأمة في زمن لم يكن لديها أي من المعارف والتقنيات المتوافرة لنا اليوم . وقد أكد المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله : " لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" (البخاري). والتقدير هنا يشير إلى الحساب ، وإلى غيره من الوسائط المتاحة، والتقنيات المتطورة . فالحساب المبني على أسس علمية صحيحة والذي يعين على رؤية كل من هلال رمضان بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان ، وهلال شوال بعد غروب شمس التاسع والعشرين من رمضان باستخدام كل من الحسابات الفلكية والمتاح من التقنيات المتطورة (من مثل المقربات، والطائرات ، والأقمار الصنعية وغيرها) هو المناط الحقيقي لإثبات دخول الشهر، ويدخل في نطاق قول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "فاقدروا له". ورؤية الهلال إذا ثبتت بعد غروب الشمس في أية بقعة من بقاع الأرض ، فإن ثبوتها ملزم لجميع الأقطار الأخرى متى علموا بها ، وذلك لأن عملية ميلاد الهلال هي حدث كوني ، غير مرتبط ببقعة محددة من الأرض ، فإذا رؤي الهلال بعد غروب الشمس في أية بقعة من الأرض دخل الشهر القمري بالنسبة للأرض ككل ، مع اعتبار الفروق الزمنية . ولكن لما كان كل من القمر والأرض يدور حول محوره من الغرب إلى الشرق ، فإن البلاد في نصف الكرة الغربي ترى هلال أول الشهر لفترة أطول من البلاد في نصفها الشرقي . ويبقى فرق النوقيت بين أبعد نقطتين على سطح الأرض لا يتعدى (12) ساعة بالزائد أو بالناقص . كذلك فإن التغير في طول أي من الليل أو النهار يتضاعف باستمرار في اتجاه خطوط العرض العليا ، فإذا وصلنا إلى خط عرض (48،5) شمالا أو جنوبا فإن شفق العشاء يتصل بشفق الفجر في فصل الصيف ، ويكون طول الليل حوالي أربع ساعات فقط ، وهنا يلزم التقدير على أساس من أقرب منطقة تنتظم فيها العلامات الفلكية ، أو صيام عدة من أيام أخر . وفي زمن تسارع وسائل الاتصال والمواصلات الذي نعيشه لم يعد هناك مجال لاختلاف الأمة في تحديد أوائل الشهور القمرية التي يرتبط بها كل من الصيام والفطر ، والزكاة، والحج ،وهي من أركان الإسلام . ولما كان الأمر الإلهي في هذا النص أمرا عاما ، استمرت الآية الكريمة في استثناء: "...مَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ..." وذلك من تيسير الله على عباده ولذلك قال – تعالى-: "... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ..." وقد جعل الله- سبحانه وتعالى- الصوم في أيام أخر لمن رخص له الإفطار في بعض أيام رمضان لكي يتمكن هذا المضطر من إكمال عدة أيام الشهر حتى لا يضيع عليه شئ من الأجر ، ولذلك ختمت الآية بقول الحق-تبارك وتعالى- : ".... وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*.."، وهكذا تتضح نعمة الله على عبادة بأن كتب عليهم صوم شهر رمضان، ويتضح وجه من أوجه الإعجاز النشريعي في سعة كل من القرآن والسنة وأبواب الفقه الإسلامي بهذا الشمول الذي لا ينسى حالة واحدة من الحالات .