news-details
الإعجاز التربوي

"إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ" [سورة الحِجر: 95] – ج2

"إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ" [سورة الحِجر: 95] – ج2

من أسرار القرآن

مقالات جريدة الأهرام المصرية

بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار

 

 

 

       هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة "الحِجر"، وهي سورة مكية، وآياتها تسع وتسعون (99) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيــها إلى "أصحاب الحِجر" وهم قوم نبي الله صالح –عليه السلام– وذلك في الآيـــات [80: 84] من هذه السورة المباركة. 

       وقد سبق لنا استعراض سورة "الحِجر"وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات الكونية، ونركز هنا على وعد الله –تعالى-بالدفاع عن خاتم أنبيائه ورسله بقوله العزيز:"إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ" [الحِجر: 95].

من الإعجاز التاريخي والإنبائي في الآية الكريمة:
أولًا: حماية الله –تعالى- لرسوله من المستهزئين من كفار قريش:
       أخرج الحافظ البزار –رحمه الله– عن أنس بن مالك –رضي الله عنه– أنه قال: مَر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فغمزه بعضهم، فجاء جبريل-أحسبه قال فغمزهم-فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. وفي توضيح ذلك قال محمد بن إسحاق: كان هؤلاء المستهزئون خمسة نفر، وكانوا ذوي مكانة في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى (أبو زمعة الأسود بن المطلب)، وكان رسول الله فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: "اللهم أعم بصره وأثكله ولده"، ومن بني زهرة (الأسود بن عبد يغوث)، ومن بني مخزوم (الوليد بن المغيرة)، ومن بني سهم (العاص بن وائل)، ومن خزاعة (الحارث بن الطلاطلة)، فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- الاستهزاء أنزل الله –تعالى- قوله العزيز: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" وهو تهديد شديد ووعيد أكيد من الله –تعالى-لكل متطاول على مقام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الملاحدة والكفار الذين تنكروا لخالقهم العظيم، ومن المشركين الذين جعلوا مع الله –تعالى- معبودًا آخر بافتراءات لا سند لهم فيها ولا حجة، إلا ما انقادوا له من غمزات الشياطين، وكذبهم، وغوايتهم.
       وقال ابن إسحاق أن جبريل أتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء الخمسة المتطاولون على رسول الله يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمى، ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشارإلى بطنه، فاستسقى (بطنه) فمات منه حبنًا (أي: نتيجة لانتفاخ البطن من الاستسقاء)، ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، كان قد أصابه قبل ذلك بسنين، فانتقض به جرحه (أي: تجدد بعد ما برئ) فقتله، ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه (أي: ما لم يصب الأرض من باطن قدمه)، ثم خرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبارقة (أو شبرقة، وهي شجرة عالية ذات أشواك) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته، ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخض قيحًا، فقتله، وهكذا أهلك الله –تعالى– هؤلاء الخمسة الذين تطاولوا على مقام سيد المرسلين.

ثانيًا: حماية الله –تعالى– لرسوله من جهل أبي جهل وأمثاله: 
تروي لنا كتب السيرة أن أبا جهل تطاول على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائلًا: واللات والعزى لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن على عنقه،ولأعفرن وجهه بالتراب. فما أن اقترب قليلًا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليفعل به ما حلف عليه حتى رجع يهرول، وهو يتقي وجهه بيديه، فقال له الكفار: مالك يا أبا الحكم؟ قال: رأيت بيني وبينه خندقًا من نار، ورأيت أجنحة وهولًا تكاد تتخطفني. فبلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوا" وفي ذلك نزل قول ربنا –تبارك وتعالى-: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ" [العلق: 9: 19].

       وبالمثل يروي ابن إسحاق أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مر بكل من الوليد بن المغيرة، وأميه بن خلف، وأبي جهل بن هشام، فهمزوه،واستهزؤوا به، فأنزل الله –تعالى- قوله الحق: "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون"[الأنبياء: 41]. 

       كذلك روى ابن إسحاق أن رجلًا من أراش (أو إراشه) قدم إلى مكة بإبل له، فابتاعها منه أبو جهل،فمطله بأثمانها. فأقبل الآراشي ووقف على ناد من قريش، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤدينــي (أي يعينني على أخذ حقي) على أبى الحكم بن هشام، فإني رجل غريب، ابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس؟ (يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم) اذهب إليه فإنه يؤديك عليــه. (وقالوا ذلكاستهزاءً برسول الله لما يعلمون مما بينه وبين أبي جهل من العداوة) فأقبل الأراشي حتى وقف إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا عبدالله، إن أبا الحكم ابن هشام قد غلبني على حق لي قِبلَهُ، وأنا رجل غريب، ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه (أي يأخذ لي حقي منه) فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، يرحمك الله. قال –صلى الله عليه وسلم-: انطلق إليه، وقام معه، فلما رآه المشركون قام معه، قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه، فانظر ماذا يصنع! قال: وخرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حتى جاء بيت أبي جهل فضرب عليه بابه، فقال أبو جهل: من هذا؟ قال –صلى الله عليه وسلم- محمد، فاخرج إلي. فخرج إليه، وما في وجهه من رائحة (أي بقية من روح، أي مرتعدًا خائفًا ما في وجهه قطرة من دم) قد انتقع أو امتقع لونه(أي تغير)، فقال له –صلى الله عليه وسلم-: أعط هذا الرجل حقه. قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له. قال الراوي: فدخل ثم خرج إليه بحقه، فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال للأراشيالحق بشأنك، فأقبل الأراشي على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد والله أخذ لي حقي.
وعاد الرجل الذي بعثه المشركون ليراقب الموقف إليهم، فقالوا له: ويحك! ماذا رأيت؟ قال: عجبًا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه محمد بابه، فخرج إليه وما معه روحه (من شدة الفزع) فقال له: أعط هذا حقه. فقال: نعم، لا تبرح حتى أخرج له حقه، فدخل ثم خرج إليه بحقه، فأعطاه إياه. ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! مالك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط! قال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرب عليَّ بابي، وسمعت صوته، فملئت رعبًا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلًا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته (أي عنقه)، ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني. وقد كان أبو جهل بن هشام –مع عداوته لرسول الله–صلى الله عليه وسلم- وبغضه إياه، وشدته عليه، يذله الله –تعالى- له إذا رآه كما روى ابن إسحاق.

ثالثًا: انتقام الله –تعالى- من أبي لهب وآل بيته وأمثاله انتصارا لرسول الله:
1 - تروي كتب السيرة أنه لما نزل الوحي بقول ربنا –تبارك وتعالى-:"وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى" [النجم: 1: 9]جاء عتيبة بن أبي لهب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائلًا –في كفر ووقاحة وتبجح-: أنا أكفر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى.ثم بالغ في وقاحته، وقلة أدبه فشق قميص رسول الله –صلى الله عليه وسلم-،وحاول أن يتفل في وجهه الشريف فلم يصبه، فدعا عليه النبي –صلوات الله وسلامه عليه- قائلًا: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" فانصرف عتيبة ساخرًا مستهزئًا. ومرت الأيام حتى خرج عتيبة مع نفر من قريش في تجارة إلى بلاد الشام، وفي الطريق نزلوا في مكان يقال له الزرقاء (وهو مدينة كبيرة في الأردن اليوم)، وبعد أن استراحوا وضعوا العشاء، ولما جلسوا لتناوله طاف بهم أسد من الأسود، وزأر عليهم فارتعدت فرائص عتيبة، فقال له أصحابه: من أي شيء ترتعد؟ فوالله ما نحن وأنت إلا سواء! فقال لهم: إن محمدًا قد دعا علي، وما ترد له دعوة، ولا أصدق منه لهجة! ومن شدة رعب عتيبة لم يدخل يده في الطعام. وعندما جاء وقت النوم أحاط القوم أنفسهم ومتاعهم، وجعلوا عتيبة في وسطهم وناموا. ثم جاء الأسد يشم رؤوسهم رجلًا رجلًا وهم يغطون في نوم عميق حتى انتهى إلى عتيبة بن أبي لهب فهشمه هشمة كانت إياها، وقام القوم فزعين من نومهم على صرخة عتيبة، فقال وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم إن محمدًا أصدق الناس لهجة، يا ويلي وويل أخي! هو والله آكلي كما دعا علي محمد، قتلني وهو بمكة وأنا ببلاد الشام، وقد استجيب دعاؤه! ومات عتيبة.
2 – كذلك تروي لنا كتب السيرة أن"أبا لهب بن عبد المطلب" و امرأته "أم جميل بنت حرب بن أمية" كانا من أشد الناس عداءً لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-،فكانت "أم جميل" تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حيث يمر، فأنزل الله -تعالى– فيهما قوله الحق: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ" [المسد: 1: 5].
       ويروي ابن إسحاق أن "أم جميل" حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن، أتت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد الحرام عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر من حجارة (والفهر هو حجر على مقدار ملء الكف)، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلم تعد ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر: أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو لوجدته لضربت بهذا الفهر فاه، ثم انصرفت بعد أن تفوهت بشعر بذيء، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني.
3 – وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- همزه ولمزه فأنزل الله -تعالى– فيه:"وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" [الهمزة: 1: 9].
4 – وروى ابن هشام أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان إذا جلس مجلسًا فدعا فيه إلى الله -تعالى-، وتلا فيه شيئًا من القرآن الكريم خلفه في مجلسه إذا قام النضر بن الحارث فحدثهم عن ملوك فارس ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله –تعالى– فيه:"وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا" [الفرقان: 5: 6].
       وأنزل ربنا كذلك قوله العزيز: "وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ" [المطففين: 10: 17].

5 – وروى ابن إسحاق أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-جلس يومًا في المسجد الحرام مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من قريش، فتكلم الرسول الخاتم –صلوات الله وسلامه عليه– فعرض له النضر بن الحارث، وردَّ عليه الرسول حتى أفحمه، ثم قرأ عليه وعليهم قول الحق –تبارك وتعالى-: "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ"[الأنبياء: 98: 100].
       وقال ابن إسحاق: ثم قام رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس، فقال له الوليد: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا وما قعد (أي ما استطاع أن يقارع حجته أو يرد عليه) وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدًا: أكُلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم، فعجب الوليد، ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-فقال:"إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم الشياطين بعبادته"فأنزل الله-تعالى– في ذلك قوله العزيز: "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ" [الأنبياء: 101، 102].

       وتأتي هذه الوقائع وأمثالها انطلاقًا من هذا الوعد الإلهي المطلق الذي قطعه ربنا –تبارك وتعالى– على ذاته العلية، فقال لخاتم أنبيائه ورسله –صلى الله عليه وسلم-:"إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين" [الحِجر: 95: 99].

       وهذا الوعد الإلهي قد تحقق في حياة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-كما أسلفنا في الأحداث التي اخترناها من بين المئات، كما سوف تحقق في مئات من الحالات بعد وفاته يتحقق في الحاضر والمستقبل وفاء لوعد الله الذي لا يتخلف، ووفاؤه في القديم هو من صور الإعجاز التاريخي، ووفاؤه في الحاضر والمستقبل هو من صور الإعجاز الإنبائي في كتاب الله، وعلى ذلك فليس من قبيل الحدس أو الأمل بل هو من قبيل اليقين القاطع أن يتنزل عقاب الله الرادع بكل من تطاول على دين الله، وكتابه ورسوله من أمثال الشيطان "فستر جورد" رسام الكاريكاتير في صحيفة يولاندز بوسطن الدنماركية وكل من حاكى صوره المسيئة من الإعلاميين، والشيطان الكندي "آنديدوناتو"، والشيطان الأمريكي "روبرت دورنان" والشيطان الهولندي "جيرت فيلدرز" صاحب فيلم "الفتنة" والشيطان الإيراني إحسان جامي صاحب فيلم "الإساءة لأمهات المؤمنين"، والشيطانين المصريين "زكريا بطرس" صاحب قناة الموت المسماة زورًا باسم "قناة الحياة"،و"بسنت رشاد" الصحفية بإحدى الجرائد المغمورة بالقاهرة، هذا عدا عن شياطين السجون الأمريكية في كل من "جونتانامو"، والعراق، وأفغانستان، وشياطين الصهاينة في فلسطين المحتلة الذين دنسوا المصحف الشريف، والمساجد،والمقابر الإسلامية، "...وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف:21].

       ويبقى التأكيد في سورة "الحِجر" على أن الذين يسيئون إلى مقام رسول الله في القديم والحديث هم المشركون ومضة من ومضات الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده، في نفس لغة وحيــــه (اللغة العربية) على مدى يزيد عن الأربعة عشر قرنًا وتعهد بهذا الحفظ تعهدًا مطلقًا حتى يبقى القرآن الكريم حجة الله –تعالى– على خلقه إلى يوم الدين.