(وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) (سورة الحِجر 78)
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل الربع الأخير من سورة "الحِجر"، وهي سورة مكية، وآياتها تسع وتسعون (99) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة في الآية الثمانين منها إلى (الحِجر) وهو اسم أطلق على مدائن قوم نبي الله صالح –عليه السلام– الذين عرفوا باسم قوم ثمود (أو عاد الثانية) وهذه المدائن عبارة عن أعداد من البيوت المنحوتة في الصخور الرملية المكونة لجانبي (وادي القرى)، أو المجلوبة إلى بطن الوادي بواسطة السيول الجارفة وبواسطة غيرها من وسائل النقل التي تفوق قدرة البشر لضخامة أحجامها. ومدائن صالح (الحِجر) هي الآن خربة تقع إلى الشمال الغربي لمدينة رسول الله –صلى الله عليه وسلم– في منتصف الطريق القديم -تقريبا-بينها وبين مدينة تبوك.
ويدور المحور الرئيس لسورة "الحِجر" حول ركائز العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية، واستخدمت في ذلك العديد من آيات الله في الكون وقصص عدد من الأمم البائدة.
هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة "الحِجر" وما جاء فيها من ركائز العقيدة الإسلامية، والإشارات الكونية والتاريخية، ونركز هنا على ومضة الإعجاز التاريخي بذكر "أصحاب الأيكة"، كما جاء في الآية الثامنة والسبعين وما تلاها من آيات إلى ختامالآية الرابعة والثمانين من سورة "الحِجر".
من الإعجاز التاريخي في ذكر أصحاب الأيكة:
"أصحاب الأيكة" هم قوم نبي الله شعيب –على نبينا وعليه من الله السلام-، وهم أهل مدين، كانوا عربًا سكنوا الأطراف الشمالية الغربية من أرض الحجاز في المثلث المتكون عند التقاء خليج العقبة بالبحر الأحمر على هيئة كتلة صخرية كبيرة تعرف جيولوجيًّا باسم "كتلة مدين"، وتقع في الزاوية المتكونة بالتقاء خليج العقبة مع شمال البحر الأحمر، ممتدة من الثلث الجنوبي لخليج العقبة في خط مستقيم يتجه جنوبا بشرق ليلتقي بشمال البحر الأحمر.
وأهل "مدين" كانوا على دين إبراهيم –عليه السلام– وهو الإسلام العظيم المعروف بالحنيفية السمحة، فهم بنو مدين بن إبراهيم –عليه السلام-، وبمرور الزمن نسي نسلهم الدين، واجتالتهم الشياطين فضلوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض إفسادًا كبيرا.
وكانوا من ضلالهم يعبدون شجرة من الأيك وسط غيضة ملتفة بها؛ ولذلك عرفوا باسم "أصحاب الأيكة"، وكان من ضلالهم أيضا أنهم كانوا يبخسون المكيال ويطففون الميزان، كما كانوا يقطعون الطريق على المسافرين، ويأخذون العشور من المارة، وكانوا أول من سَنَّ ذلك، فبعث الله –سبحانه وتعالى– إليهم نبيه شعيبا –عليه السلام– يدعوهم إلى عبادة الله –تعالى– وحده، وينهاهم عن الشرك بالله، وعن أعمالهم وسلوكياتهم الخاطئة.
وذكرهم نبيهم شعيب بنعم الله –تعالى– عليهم بأن كثَّرهم من بعد قلة، وأغناهم من بعد فقر، ونصحهم بأن القناعة بالرزق الذي قسمه الله-تعالى- لهم هو من أكل أموال الناس بالباطل، وأن ما يبقى لهم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير من تطفيفهما، وأن دين الله الذي أنزله على سلسة طويلة من أنبيائه ورسله، وجاءهم به نبيهم شعيب هو خير لهم من معتقداتهم الفاسدة، فسخروا منه وهددوه ومن آمن معه بالطرد من قريتهم إن لم يعودوا إلى شركهم وفسادهم، فأنزل الله –تعالى– بهم رجفة قضت على أغلبهم وهم في بيوتهم، ونجى الله –تعالى– شعيبا وقلة من أصحاب مدين كانوا هم الذين آمنوا معه، وفي ذلك يقول ربنا –تبارك وتعالى– في محكم كتابه:
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ * قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ * وَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف: 85: 93]
وجاء ذكر نبي الله شعيب وذكر قومه في خمسين آية من آيات القرآن الكريم منها الآيات السابقة [85: 94] من سورة "الأعراف"، ومنها الآيات [84: 95] من سورة "هود"، والآيتان [78، 79] من سورة "الحِجر"، والآيات [176: 191] من سورة "الشعراء"، والآيتان [36، 37] من سورة "العنكبوت"، بالإضافة إلى ثلاث آيات في سورة "القصص"، وآية واحدة في كل من السور "طه" ، "الحج"، "ص"، "ق".
ففي سورة "هود"يقول ربنا –تبارك وتعالى–: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) [هود: 84: 95].
وفي هذه الآيات تأكيد على انحراف أصحاب الأيكة إلى الشرك بالله، فدعاهم شعيب إلى التوحيد الخالص، وتأكيد على شيوع تطفيف الكيل والميزان في مجتمعهم على الرغم مما كانوا فيه من سعة في الرزق، فدعاهم إلى الرجوع عن ذلك، وهددهم بعذاب يوم القيامة نظرا لشركهم وإفسادهم في الأرض، كما هددهم بمصائر أشباههم من الأمم السابقة عليهم من مثل أقوام كل من أنبياء الله نوح، وهود، وصالح، ولوط –على نبينا وعليهم من الله السلام– مضيفًا: "... وما قوم لوط منكم ببعيد" أي في كل من الزمان والمكان،و حذرهم من مغبة الخروج على أوامر الله-تعالى- وأمرهم بضرورة استغفار الله والتوبة إليه وهو –تعالى– الرحيم الودود، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب.
وفي مقابل هذه النصائح الغالية هدده قومه بالرجم لولا عشيرته الأقربين، فأنذرهم شعيب بنزول عذاب الله، فأخذتهم الصيحة "فأصبحوا في ديارهم جاثمين" أي موتى هامدين لا حراك بهم؛ ولذلك قال -تعالى- في سورة "الحِجر":(وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ) [الحِجر: 78، 79].
والتثنية في ختام هذه الآية الكريمة تشمل كلا من أصحاب الأيكة وقوم لوط، لتقاربهما في الزمان والمكان كما سبق وقد أشرنا.
وفي سورة الشعراء قال ربنا–سبحانه وتعالى- في ذكر كل من أصحاب الأيكة ونبيهم شعيب-عليه السلام-: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ * أَوْفُوا الكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 176: 191].
وجاء في سورة "العنكبوت" قول الحق –تبارك وتعالى:(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا اليَوْمَ الآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [العنكبوت: 36، 37].
وانطلاقا من هذه الآيات القرآنية الكريمة ندرك أن عقاب الكافرين من أصحاب الأيكة كان رجفة (جاءت في سورة "الأعراف")، وصيحة (جاءت في سورة "هود")، وظلة (جاءت في سورة "الشعراء") فاجتمعت عليهم هذه النقم الثلاث في لحظة واحدة، وجاءت كل واحدة منها في السياق الذى يناسبها، فلما كان تهديد كفار أهل مدين لنبي الله شعيب والذين آمنوا معه في سورة "الأعراف" بالإخراج من قريتهم جاء ذكر الرجفة، ولما كان تهديدهم في سورة "هود" بالرجم بالحجارة جاء ذكر الصيحة، ولما كان تحديهم في سورة "الشعراء" بقولهم: "فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين" عوقبوا بعذاب يوم الظلة، وهي ثلاث صور من التعذيب اجتمعت عليهم في لحظة واحدة: رجفة، وصيحة، وظلة، أو توالت عليهم فأصبحوا في ديارهم جثثا هامدة لا حراك فيها، ونجى الله –تعالى– نبيه شعيبا والذين آمنوا معه، ولا تزال في قلب "كتلة مدين" الصخرية قرية تسمى (البدع) بها بئر يطلق عليها اسم (بئر نبي الله شعيب) وهذه البئر بقيت علامة تاريخية تشهد بصدق كل ما جاء في كتاب الله من حديث عن نبى الله شعيب وقومه.
هذا التفصيل عن نبي الله شعيب وقومه (أصحاب الأيكة) أو (أصحاب مدين) والذي جاء في 50 آية قرآنية كريمة، جاء فيها ذكر نبيهم شعيب 11 مرة، ومدين 10 مرات، وأصحاب الأيكة 4 مرات، كل ذلك أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي –صلى الله عليه وسلم– في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين وهو –صلوات الله وسلامه عليه– لم يثبت في سيرته الشريفة أنه وصل إلى منطقة مدين أبداً، وأن قصة شعيب مع قومه كانت قبل بعثة المصطفى –صلى الله عليه وسلم– بقرابة ألفى عام (من 1244ق.م: 610م) فمن أين له هذه التفاصيل إن لم تكن وحيا من رب العالمين؟ خاصة وأن العرب لم يكونوا أمة تدوين في زمانه ولا من قبل زمانه!
وإن قيل إنه سمع ذلك من أهل الكتاب رددنا عليهم بأن ذكر شعيب لم يرد في العهد القديم كله إلا مرتين فقط في ثنايا قصة موسى –عليه السلام–،مرة باسم"رعوئيل"(Reuel) كاهن مدين (سفر الخروج 2/ 16 – 22) وأخرى باسم يثرون(Jethro) كاهن مديان (سفر الخروج 3/1).
من هنا كان في تفاصيل قصة نبي الله شعيب –عليه السلام– في القرآن الكريم، وفي
وصف أحوال قومه بالتفصيل، وفي نعتهم بأصحاب مدين أو أصحاب الأيكة، وفي الإشارة القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا –تبارك وتعالى–: (وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) [الحِجر: 78] - كان في كل ذلك إعجازا تاريخيا يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية؛ لأن المؤرخين لا يعرفون شيئا عن نبي الله شعيب –عليه السلام– والكتب المتوفرة لدى أهل الكتاب لا تعرف عنه سوى أنه كان كاهنا لأهل مدين لجأ إليه موسى –عليه السلام– وتزوج من إحدى بناته السبعة، والقرآن الكريم يسجل أنهما كانتا ابنتين فقط، وعلى ذلك فلولا هذا التفصيل القرآني عن نبي الله شعيب وقومه ما كان أمام الناس وسيلة للتعرف على هذه الأمة من الأمم، ولا ما أصابها من صنوف العذاب في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن والحمد لله على بعثة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.