(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) [الفجر: 9] – ج2
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم الثلث الأول من سورة "الفجر" ، وهى سورة مكية، وآياتها ثلاثون (30)بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالقسم بالفجر (وقتًا وصلاةً).
ويدور المحور الرئيس للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية، مع الإشارة إلى بعض صور العقاب الذي نال عددا من كفار ومشركي الأمم السابقة، واستعراض عدد من طبائع النفس الإنسانية في كل من حالات الرخاء والشدة، واستنكار عدد من الأمراض النفسية، مع توضيح أن الابتلاء بالخير والشر هو من سنن الله في عباده المكلفين.
هذا، وقد سبق لنا استعراض ومضة الإعجاز التاريخي في ذكر قوم "ثمود" في القرآن الكريم، في حين لم يذكر أي من "العهدين القديم أو الجديد" شيئا عنهم ولا عن سابقيهم قوم "عاد"، وكذلك لم تذكر كتب التاريخ القديم شيئا عن هاتين الأمتين البائدتين، مع إفاضتها في ذكر أمم أقدم منهما، وأمم معاصرة لكل منهما، وأمم لاحقة بهما، ثم تأتى الكشوف الآثارية في أواخر القرن العشرين لتؤكد صدق القرآن الكريم في كل ما أشار به إلى كل من أمتي "عاد" و"ثمود" وإلى النبي الذي أُرسل إلى كل منهما: نبي الله هود إلى قوم "عاد"، ونبي الله صالح إلى قوم "ثمود" على نبينا وعليهما من الله السلام.
وفي هذا المقال نستكمل رواية القرآن الكريم عن قوم "ثمود"، ونبرز جوانب الإعجاز العلمي والتاريخي في قول ربنا –تبارك وتعالى-:(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)[الفجر: 9].
من الإعجاز العلمي والتاريخي في قول ربنا –تبارك وتعالى-: (وَثَمُودَالَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ):
تقع "مدائن صالح" عاصمة قوم "ثمود" في منطقة "الحِجر" بوادي القرى على الطريق القديم بين المدينة المنورة وتبوك في إقليم "العلا"، والمنطقة تتكون أساسًا من صخور رملية عالية المسامية والنفاذية،ينبع منها "متكون جبل الساق" الذي يمثل أهم خزان للمياه تحت السطحية في شبه الجزيرة العربية، وتحد المنطقة من الغرب حرة "عويرض" المكونة من الصخور البازلتية، والتي ينتج عن تعريتها رواسب طينية غنية بالمواد اللازمة للإنبات، تملأ الأودية العديدة التي تقطع أراضي المنطقة، ومن هنا كانت المنطقة مهيأة تهيئة كاملة للإعمار، كما كانت منطقة آمنة؛ لإحاطتها بالجبال من كل جانب، ويشير القرآن الكريم إلى ذلك بقول ربنا –تبارك وتعالى– على لسان نبيهم صالح –عليه السلام-:
(أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَا هُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)[الشعراء: 146: 152].
وكان القوم عمالقة جبارين في الأرض وكان الله –تعالى– قد ابتلاهم ببسطة في الجسم، وسعة في الرزق، فأصابهم شيء من الغرور والبطر والاستعلاء في الأرض، فأشركوا بالله -تعالى– بعد أن كانوا موحدين، وقد حمل أسلافهم ذكرى هلاك قوم "عاد" الذين كانوا قد انحرفوا إلى الشرك من قبل فأبادهم الله –تعالى– ونجَّى نبيه "هودا" والذين آمنوا معه، وكان من هؤلاء الناجين أسلاف قوم "ثمود"؛ ولذلك يجمع القرآن الكريم بين "عاد" و"ثمود" في العديد من الآيات، من مثل ما جاء في سور "الأعراف"، "التوبة" ، "إبراهيم"، "الفرقان"، "ص"، "ق"، "النجم"، و"الفجر"، ومنها قوله –تعالى– على لسان نبيه صالح –عليه السلام– موجها الخطاب إلى قومه "ثمود" قائلا لهما:(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ...) [الأعراف: 74].
وبالرغم من ذلك انحرفت غالبية قبيلة "ثمود"، فأرسل الله –تعالى– إليهم نبيه "صالحًا" ليصلح لهم دينهم، ويردهم إلى التوحيد من جديد، فما آمن معه إلا قليل منهم، وفي قول ربنا -تبارك وتعالى-:(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)[الفجر: 9] ومضة تاريخية وعلمية معجزة؛ لأنه لم يكن أحد من الخلق في زمن الوحي وإلى أواخر القرن العشرين يعلم شيئا عن قوم ثمود غير ما جاء في القرآن الكريم، وفي أحاديث سيد المرسلين صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين.
و(الجوب) في اللغة هو القطع، والتجويف، والخرق، وهي عمليات قام بها قوم "ثمود" في الجبال المحيطة بوادي "القرى" على الجانبين، فنحتوا فيها القصور والبيوت والقبور، ولم يكتفوا بذلك، فكانوا يقطعون كتلا ضخمة من صخور الجبال، ويأتون بها إلى بطن الوادي، ثم ينحتون منها القصور، والدواوين، والمساكن من طابقين وثلاث طوابق بالدرج الخارجي والمداخل المقامة على الأعمدة المزدانة بأدق النقوش والزخارف، والدرج الداخلي وتجاويف كل من الغرف والممرات والأبواب والنوافذ والشرفات، وقد ساعدهم على ذلك قلة تماسك الصخور الرملية، وسهولة تشكيلها، مع تباين ألوانها من البياض إلى الصفرة والحمرة، وقد وصف القرآن الكريم تلك الأعمال الخارقة للعادة بقول ربنا –تبارك وتعالى-: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)[الفجر: 9].
وقال –عز من قائل– مخاطبا قوم "ثمود" على لسان نبيهم صالح -عليه السلام-:(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[الأعراف: 74].
وكذلك قال ربنا –وقوله الحق– على لسان نبيه "صالح" مخاطبا قومه:(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ)[الشعراء: 149].
و"مدائن صالح" بقصورها ودواوينها ومساكنها، وقبورها المنحوتة في الجبال المكونة لجانبي وادي "القرى"، وفي الكتل الصخرية الهائلة المجلوبة إلى بطن الوادي تمثل نموذجا معماريا فريدا، مقسما بعدد من الشوارع الفسيحة، المستقيمة، والمنظمة تنظيما دقيقا، والمقطوعة في الكتل الجبلية المكونة للمنطقة، مما يدل على الجهود الجبارة التي بذلت في تخطيط وإنشاء تلك المدينة الفريدة من نوعها، وإن كان الأنباط من بعد ذلك قد أقاموا مدينة "البترا" (مدينة الصخر أو المدينة الوردية أو "سلع"، أو "رقيمو" باللغة النبطية) على منوال مدائن صالح في سنة 400 ق.م.، وتم اكتشافها سنة 1812م على يد الآثاري السويدي "يوهان بيركاردت"، ثم انتهت دولة الأنباط سنة 105 ق. م بواسطة الغزو الروماني للمنطقة العربية.
ودراسة منطقة "الحجر" تؤكد أن بعض جبال "مدائن صالح" مفرغة من الداخل تفريغا هندسيا رائعا يجعل منها السكن، والستر، والحصن، والوقاية، ومناطق الدفاع عن المدينة، ومتعة التحرك والتنزه فيها. والأودية التي تقطع جبال المنطقة تم حفر الآبار فيها -وإن كان أغلبها مطمورا الآن- وبذلك تم تهيئتها للزراعة.
ولا يمكن لزائر المنطقة أن يتخيل كيفية نقل الكتل الصخرية الهائلة إلى بطن الوادي، ولا إمكانية تشكيل تلك القصور والدواوين والمساكن والقبور بالحفر في ذلك الزمن البعيد، ولا إمكانية تزيينها بهذا القدر من الأعمدة والزخارف والنقوش المتقنة أشد الإتقان.
ومن ومضات الإعجاز العلمي والتاريخي في القرآن الكريم تمييزه بين النحت في الجبال، والنحت في الكتل الصخرية المجلوبة إلى بطن الوادي، وهو ما لا يقدر على تمييزه إلا الخبراء في علوم الأرض، خاصة وأن أغلب الآيات التي تتحدث عن قوم "ثمود" وعن نبيهم صالح –عليه السلام– هي من الآيات المكية، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم– لم يمر بمدائن صالح إلا وهو في طريقه لغزوة "تبوك" في السنة التاسعة بعد الهجرة؛ فعن ابن عمر –رضي الله عنهما– أنه قال: لما نزل رسول الله –صلى الله عليه وسلم– بالناس على تبوك، نزل بهم "الحجر" عند بيوت "ثمود"، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها "ثمود"، فعجنوا منها ونصبوا القدور، فأمرهم رسول الله–صلى الله عليه وسلم–فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذبوا فقال: "إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم" (مسند الإمام أحمد).
كذلك روى الإمام أحمد عن عمرو (عامر) بن سعد –رضي الله عنه-أنه لما كان في غزوة "تبوك" تسارع الناس إلى أهل "الحجر" يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فنادى في الناس: "الصلاة جامعة". قال: فأتيت النبي –صلى الله عليه وسلم– وهو ممسك ببعيره وهو يقول: "ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم" فناداه رجل: نعجب منهم يا رسول الله! قال –صلى الله عليه وسلم-: "أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئًا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا"(مسند الإمام أحمد).
وقد اختلف الباحثون في تحديد زمن قوم "ثمود"، كما اختلفوا في تحديد زمن أسلافهم قوم "عاد"، ولكن الإشارات القرآنية تؤكد على أنهم كانوا قبل زمن نبي الله موسى –عليه السلام– بفترة طويلة، وفي ذلك يقول ربنا –تبارك وتعالى-: (وَقَالَ مُوسَـى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)[إبراهيم: 8،9].
وهاتان الآيتان الكريمتان تؤكدان أن أقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم كانوا قبل زمن نبي الله موسى –عليه السلام– بفترة طويلة، ويؤيد ذلك قول مؤمن آل فرعون الذي جاء نصه في القرآن الكريم على النحو التالي:(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ)[غافر: 30، 31].
ولما كان الآثاريون يؤرخون فترة حكم فرعون موسى رمسيس الثاني (المعروف باسم فرعون الاضطهاد) بالفترة من 1301 ق.م. إلى 1234 ق.م. فإن قوم ثمود لابد وأنهم عاشوا في النصف الأول من الألفية الثانية من قبل الميلاد على أقل تقدير (من 2000: 1500 ق.م.) ووجود العديد من النقوش الثمودية والنبطية والآرامية في أجزاء كثيرة من الجزيرة العربية -بما فيها مدائن صالح- يشير إلى أن المنطقة قد سكنت بالعديد من الأقوام من بعد هلاك قوم "ثمود"؛ لأن القرآن الكريم يؤكد على هلاك المشركين من هؤلاء القوم هلاكا تاما، وذلك بقول ربنا –تبارك وتعالى-:(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى)[النجم: 50: 56].
وكذلك قال –تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) [هود: 66: 68].
أما وجود إشارات آثارية إلى قوم "ثمود" في نقش للملك الآشورى سرجون الثانى (722:705 ق.م.) سجل فيه انتصارات للجيوش الآشورية على عدد من القبائل الثمودية في شمال الجزيرة العربية، فإن هذه الآثار تشير بالتأكيد إلى سلالات عدد من الناجين من دمار قوم "ثمود"، خاصة وأن هناك ما يشير إلى أن عددا من الذين نجوا مع نبي الله "صالح" قد نزحوا إلى كل من منطقة الطائف في جنوب الحجاز، ومنطقة "الرس" في شمال شبه الجزيرة العربية.
من هذا الاستعراض تتضح ومضة الإعجاز العلمي والتاريخي في قول ربنا –تبارك وتعالى-:(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)وفي استعراض القرآن الكريم لقصة نبي الله صالح –عليه السلام– مع قومه "ثمود" الذين أغفلتهم كتب التاريخ القديم إغفالا كاملا، كما أغفلتهم كتب العهدين القديم والجديد.