"وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" [الأنعام:38]
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية الكريمة جاءت في الربع الأول من سورة "الأنعام"، وهي سورة مكية، وعدد آياتها 165 بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود ذكر الأنعام فيها، والإشارة إلى قاعدة من أهم قواعد تصنيف صور الحياة المختلفة في إحدى آياتها.
وكطبيعة القرآن المكي ركزت السورة الكريمة على العقيدة الإسلامية، وإن جاءت بها بعض التشريعات، وبعض الإشارات إلى عدد من الأمم البائدة، وموقف كل أمة من تلك الأمم من رسولها الذي أرسله الله -تعالى- لهدايتها، وعدم اعتبار كلٍّ منها بمن هلك من الأمم السابقة عليهم جزاء عصيانهم لأوامر ربهم، ولا بما حل بهم من عقاب تأكيدًا على غفلة الناس وقصر أنظارهم.
وفي استعراض وحدة الدين السماوي من لدن أبينا آدم -عليه السلام- إلى بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- جاءت الإشارة إلى عدد من أنبياء الله ورسله الذين بُعِثُوا جميعًا بالإسلام.
كذلك استشهدت السورة الكريمة بعدد من الآيات الكونية للتدليل على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الكون، وعلى قدرته -سبحانه وتعالى- على البعث، وعلى وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه، بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد؛ لأن ذلك كله من صفات المخلوقين، والله -تعالى- منزه عن صفات خلقه.
وتبقى هذه الإشارات الكونية -فوق رسالتها الأصلية- خطابًا لأهل عصرنا الذين فتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة، يقيم الحجة عليهم بالدليل العلمي القاطع أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولًا بالوحي، ومُعَلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض.
من ركائز العقيدة في سورة "الأنعام":
(1) الإيمان بخالق السماوات والأرض وبديعهما، وفاطرهما، وقيومهما، خالق الإنسان من طين، وخالق كل شيء، وربه ومليكه، ومبدعه، وقيومه، جاعل الظلمات والنور، ومبدع الظل والحرور، إلهًا واحدًا أحدًا، فردًا صمدًا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وبأنه -تعالى- هو مالك الملك، ومحصي أعمال الخلق، محدد الآجال والأرزاق، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، كاشف الضر، ومنزل الخير، القاهر فوق عباده، الذي يُطعِم ولا يُطعَم، السميع العليم، والغفور الرحيم، البر الودود، والباعث الشهيد، الحكيم الخبير، والغني القادر، الذي يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار، العليم بالسر والعلن وبما تخفي الصدور، عالم الغيب والشهادة، فالق كلٍّ من الإصباح والحب والنوى، مخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي، خير الفاصلين الذي لا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين، منزل الكتاب، ومجري السحاب، ومرسل الأنبياء والمرسلين لينذروا الناس بيوم الدين.
(2) الإيمان بملائكة الله، وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وتتويج كل ذلك بالإيمان بالرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- لأنها قد تكاملت فيها كل رسالات السماء السابقة؛ ولذلك تعهد ربنا -تبارك وتعالى- بحفظ هذه الرسالة الخاتمة؛ لأنه ليس من بعد خاتم الأنبياء والمرسلين من نبي ولا من رسول، وربنا -تبارك وتعالى- تعهد بعدم عذاب أحد من خلقه المكلفين بغير إنذار مسبق من رسول مرسل، ورسالة سماوية محددة.
(3) الإيمان بعوالم الغيب التي أخبرنا بها ربنا -تبارك وتعالى- دون الخوض فيها بغير علم؛ لأن عالم الغيب يختلف في طبيعته وسننه وقوانينه عن عالم الشهادة الذي نعيشه.
(4) التسليم بحتمية الآخرة وبضرورتها، وبما فيها من بعث وحساب وعرض أكبر أمام الخالق -سبحانه وتعالى- وبخلود في حياة قادمة، إما في الجنة أبدًا، أو في النار أبدًا، كما أخبر بذلك خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-، ومن هنا تصف سورة "الأنعام" الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب، وتصف الآخرة بأنها خير للذين يتقون.
(5) اليقين بأن من عمل سوءًا بجهالة ممن يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ثم تاب من بعد ذلك وأصلح فإن الله غفور رحيم.
(6) التصديق بأن الله -تعالى- يجازي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإلى ما فوق ذلك لمن يشاء، ولا يجازي السيئة إلا بمثلها.
(7) الإيمان بأن الله -سبحانه وتعالى- قد ختم وحيه بالقرآن الكريم، وبسنة خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- وأكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا، وحفظه بنفس لغة وحيه -اللغة العربية- كلمة كلمة، وحرفا حرفا، في كل آية من الآيات، وفي كل سورة من السور، وفي موضع الآية من السورة، وبترتيب السور في المصحف الشريف؛ حتى يبقى الإسلام هاديا للبشرية كلها وحجة عليها إلى يوم الدين.
من التشريعات الإلهية في سورة "الأنعام":
(1) تحريم كلٍّ مما يلي:
الشرك بالله، وقتل الأولاد من إملاق -أي من فقر- وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأكل ما لم يُذكَر اسم الله عليه، وما أُهِلَّ لغير الله به، والميتة، والدم، ولحم الخنزير إلا من اضطر غير باغٍ ولا عادٍ، وتحريم الاقتراب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وافتراء الكذب على الله، ومن ذلك الادعاء الباطل بتلقي شيء من الوحي، أو بالتظاهر بالقدرة على الإتيان بشيء من مثل القرآن الكريم.
(2) الأمر بكلٍّ مما يلي:
التزام صراط الله المستقيم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتقوى الله -تعالى- ومراقبته في كل الأحوال، والإحسان إلى الوالدين، ووفاء كلٍّ من الكيل والميزان بالقسط، والعدل في القول، والإخلاص في العمل، والوفاء بعهود الله كلها.
من القصص القرآني في سورة "الأنعام":
(1) جاء في سورة "الأنعام" ذكر عدد من أنبياء الله ورسله الذين بعثوا قبل بعثة خاتمهم سيدنا محمد بن عبد الله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- وهم: نوح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، داود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى، إلياس، اليسع، ويونس على نبينا وعليهم من الله السلام.
(3) عرضت هذه السورة الكريمة لعدد من الأمم البائدة التي رفضت رسالات ربها، وجحدت آياته، وقاومت رسل الله وأنبياءه إليهم، على الرغم من علمهم بهلاك الأمم التي سبقتهم إلى هذه المعاصي.
(3) أكدت سورة "الأنعام"-كما أكدت أكثر من سورة غيرها من سور القرآن الكريم- حقيقة انحراف اليهود عن منهج الله، وكذبهم عليه -جل جلاله- فحرم الله -تعالى- عليهم كثيرًا من أطايب الطعام.
(4) كذلك أكدت هذه السورة المباركة تكامل جميع رسالات السماء في هذا الدين الخاتم الذي بعث به النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- لينذر به أهل مكة المكرمة، ومن حولها أهل الأرض جميعًا؛ وذلك لثبوت توسط هذه المدينة المباركة لليابسة بالكامل.
من الآيات الكونية في سورة "الأنعام":
(1) التأكيد على قضية الخلق، وعلى أن الله -تعالى- هو خالق كل شيء بالحق، وأنه على كل شيء وكيل، وعلى أن من بديع صنع الله خلق كلٍّ من السماوات والأرض، والظلمات والنور، والنجوم وتوابعها -من الكواكب والكويكبات، والأقمار والمذنبات، والشهب والنيازك وغيرها- وخلق الإنسان من طين، وخلق السلالة البشرية كلها من نفس واحدة، وخلق ما يسكن بالليل وما يسكن بالنهار من الكائنات.
(2) جاءت بالسورة الكريمة الإشارة إلى أن كل نوع من أنواع الحياة عبارة عن خلق يشبه خلق الإنسان في انبثاقه عن أصل واحد، وترابطه في أمة واحدة.
(3) الإشارة إلى أن بالكون غيوبًا مطلقة لا يعلمها إلا الله -تعالى- وأن النوم هو صورة مصغرة للوفاة، وأن اليقظة من النوم تمثل البعث بعد الموت، وأن ظلمة الكون هي الأصل، وأن النور هو نعمة يمن الله -تعالى- بها على من يشاء من خلقه، وأن فلق الصبح من ظلمة الليل في كل يوم وفلق الحب والنوى لإخراج كلٍّ من السويقة والجذير من البذرة النابتة عمليتان متشابهتان، وتشهدان لله -تعالى- بطلاقة القدرة في إبداع الكون، وأن الليل مخصص للسكن، وأن النهار مخصص لعمارة الأرض وللجري وراء المعايش.
(4) استخدام ظاهرة تبادل الليل والنهار للإشارة إلى حقيقة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، وأن كلًّا من الشمس والقمر يجري بنظام محكم دقيق يُمَكِّن الإنسان من حساب الزمن والتاريخ للأحداث.
(5) التأكيد على أن الحَب المتراكب في النبات يخرج -أصلًا- من الصبغة النباتية الخضراء المعروفة باسم اليخضور، وأن القنوان الدانية تخرج من طلوع النخل، وأنه بإنزال الماء من السماء أخرج ربنا -تبارك وتعالى- جنات معروشات وغير معروشات من الأعناب، والنخل، والزيتون، والرمان، متشابهًا وغير متشابه، ومن الزرع المختلف أكله، وأن ثمره إذا أثمر وينعه لهُوَ من أروع الآيات لقوم يؤمنون.
(6) الإشارة إلى أن التصعد في السماء -بغير وقايات حقيقية- يجعل صدر الصاعد ضيقا حرجا.
(7) الإشارة إلى توسط مكة المكرمة لليابسة.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، وكلها يدخل من العلوم الكونية في الصميم؛ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا على النقطة الثانية فقط من القائمة السابقة، والتي تشير إلى خلق كل صور الحياة في تجمعات شبيهة بالتجمعات الإنسانية في انبثاقها عن أب واحد وأم واحدة، وترابطها في أمة واحدة، كما جاء في الآية الكريمة رقم 38 من سورة "الأنعام"، ولكن قبل الوصول إلى ذلك لابد لنا من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين في تفسير قوله -تعالى-: "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" [الأنعام:38]:
ذكر ابن كثير -يرحمه الله تعالى- ما مختصره : قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها، وقال قتادة: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة.وقال السدي: "... إِلَّاأُمَمٌ أَمْثَالُكُم ..." أي خلق أمثالكم.(انتهى قول المفسر).
وجاء في الظلال -رحم الله كاتبها برحمته الواسعة- ما نختار منه قوله: وهي حقيقة هائلة، حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك، وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر، ولكن علمهم لا يزيد شيئًا على أصلها، وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها، وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء، وتدبير الله لكل شيء، وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة. (انتهى قول المفسر).
وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن -رحمه الله رحمة واسعة- ما نقتطف منه قوله: "... إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ..." طوائف مختلفة أمثالكم في الخلق والموت، والحاجة إلينا في الرزق والتدبير في جميع أمورها، والدلالة على كمال القدرة، وبديع الصنعة في تسخيرها وتصريفها بقدرتنا. (انتهى قول المفسر).
أما أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم -جزاهم الله خيرًا- فقد ذكروا ما نصه:وإن أقوى دليل على قدرة الله وحكمته ورحمته أنه خلق كل شيء، وليس في الأرض حيوان يدب في ظاهر الأرض وباطنها، أو طائر يطير بجناحيه في الهواء، إلا خلقها الله جماعات تماثلكم، وجعل لها خصائصها ومميزاتها ونظام حياتها، ما تركنا في الكتاب المحفوظ عندنا شيئًا إلا أثبتناه، وإن كانوا قد كذبوا، فسيحشرون مع كل الأمم للحساب يوم القيامة. (انتهى قول المفسر).
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما نصه: تنتظم الكائنات الحية في مجموعات يختص كلٌّ منها بصفات تكوينية ووظيفية أو طبائع مميزة، وفي الآية الكريمة تنبيه إلى تباين صور المخلوقات وطرائق معيشتها، فكما أن الإنسان نوع له خصائصه، فكذلك سائر أنواع الأحياء، وهذا ما يكشفه علم التصنيف كلما تعمقنا في دراسة نوع منها. (انتهى قول المعلق).
من الدلالات العلمية للآية الكريمة:
يتعرف علماء الأحياء اليوم على أكثر من مليون ونصف مليون نوع من أنواع الأحياء التي تعمر مختلف البيئات المائية والأرضية والهوائية، وبالإضافة إلى ذلك تعرف علماء الأحافير على أكثر من ربع مليون نوع من أنواع الحياة البائدة، وبمعدلات الاكتشافات السنوية في هذين الميدانين يقدر العلماء أن المجموع المتوقع لأنواع الأحياء على كوكبنا الأرض قد يصل إلى نحو أربعة ملايين ونصف مليون نوع، ولما كان كل نوع من هذه الأنواع يمثل ببلايين الأفراد المتزامنين والمتعاقبين، حيث إن المدى الزمني لكل نوع من أنواع الحياة يتراوح بين نصف مليون سنة وخمسة ملايين من السنين (بمتوسط مليونين وسبعمائة وخمسين ألف سنة)، وإن أقدم أثر للحياة على الأرض يمتد إلى ثلاثة بلايين وثمانمائة مليون سنة، فإنه يصبح من العسير تتبع كل فرد من هذه البلايين من ملايين الأنواع مهما أوتي الإنسان من علم، ومهما توافر له من وسائل الإحصاء، ومن هنا كانت ضرورة التصنيف الذي أشارت إليه سورة "الأنعام" بقول الحق -تبارك وتعالى-:"وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" [الأنعام:38].
والآية الكريمة تشير إلى أن وحدة التصنيف الأساسية هي النوع الذي ينقسم إلى جماعات تضم أعدادًا من هذا النوع تعيش في منطقة معينة من مناطق الأرض -أمة من الأمم- فبنو الإنسان ينقسمون إلى أعراق مختلفة، يمثل كل عرق منها أمة من الأمم، وتنتهي هذه الأمم كلها إلى أصل واحد، وأب واحد هو آدم -عليه السلام- الذي وصفه ربنا -تبارك تعالى- بقوله العزيز:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء:1]، وبقوله -عز من قائل-:"هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ..." [الأعراف:189]، وبقوله -وقوله الحق-:"خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ..."[الزمر:6]، ويصف خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- هذا الأصل الواحد لبني البشر فيقول:"كلكم لآدم، وآدم من تراب".
والآية الكريمة التي نحن بصددها تشير إلى أنه كما أن البشر ينقسمون إلى أعراق مختلفة، يمثل كل عرق منها بأمة من الأمم، وتنتهي أمم البشر جميعهم إلى أصل واحد، فكذلك كل نوع من أنواع الأحياء، ينقسم إلى عدد من الجماعات أو الأمم (Populations) التي تنتهي إلى أصل واحد، مما يؤكد تعدد النوع الواحد إلى جماعات أو أمم شتى، وعلى استقلالية كل نوع من أنواع الأحياء عن غيره من الأنواع، وإن كان هناك قدر من التشابه في البناء يشير إلى وحدانية الخالق -سبحانه وتعالى- فجميع الخلق من الذرة إلى المجموعة الشمسية إلى المجرة، ومن الخلية الحية المفردة إلى جسد الإنسان، كل ذلك مبني على نسق واحد، ونظام واحد في زوجية واضحة تشهد للخالق -تقدست أسماؤه- بالخالقية، والألوهية، والربوبية، والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه.
النوع في القرآن الكريم وفي علم التصنيف:
في محاولة للإلمام بهذه الأعداد اللانهائية من الخلق قام علماء الأحياء بتصنيفها إلى مجموعتين رئيستين، هما النباتات، والحيوانات على أساس من أن النباتات الرئيسة مثبتة في الأرض بواسطة جذورها، وقد أعطاها الخالق -سبحانه وتعالى- القدرة على تصنيع غذائها بنفسها، أما الحيوانات فقد أعطاها الله -تعالى- القدرة على الحركة الذاتية، وعلى جمع والتهام وهضم وتمثيل الغذاء الذي تحصل عليه من غيرها.
وقد بقي تقسيم الكائنات الحية إلى هاتين المجموعتين الكبيرتين سائدًا إلى أوائل القرن العشرين، على الرغم من اكتشاف الكثير من الكائنات الحية التي يصعب تصنيفها مع أيٍّ من النبات أوالحيوان، وذلك باستخدام المجهر الذي تم بناؤه في القرن السابع عشر الميلادي، وقد كان من بين هذه المكتشفات العديد من الكائنات الدقيقة ذات الخلية الواحدة والتي تضم أفرادًا لها شبه بالنبات، وأخرى لها شبه بالحيوان، وثالثة تضم مميزات المجموعتين معًا، وقد وُضِعَت هذه الكائنات وحيدة الخلية في مجموعة مستقلة عرفت باسم الطلائعيات(Protista)، وباكتشاف البكتريا اتضح افتقارها إلى التركيب الخلوي الذي يميز أفراد الممالك الثلاث الكبرى، وهي الطلائعيات، النباتات، والحيوانات، فخلية البكتريا تفتقر إلى النواة المحددة التي تميز خلايا المجموعات الثلاث الكبرى، ويشبه البكتريا في ذلك كائنات بسيطة تعرف باسم الطحالب الخضراء المزرقة(Blue Green Algae)، وكلها كائنات وحيدة الخلية، وليس لخليتها نواة محددة، بل تنتشر حاملات الوراثة فيها في سائل الخلية دون أدنى قدر من التحديد.
كذلك مع اكتشاف الفيروسات(Viruses) اتضح أن لها ما يميزها أيضًا، فهي تعيش متطفلة على غيرها من الكائنات، وتتكاثر بإدخال مادتها الوراثية البسيطة إلى الخلايا النباتية أو الحيوانية أو الطلائعية، ولما كانت المادة الوراثية في هذه الكائنات البدائية غير مترابطة بشكل محدد، فإن الفيروسات تسمى أحيانًا باسم المورثات -الجينات- العارية.
وعلى ذلك قسمت الأحياء في أربعة ممالك هي: البدائيات (Monera)، والطلائعيات (Prortista)، والنباتات (Plantae)، والحيوانات (Animalia)، ثم ثبت بالدراسة أن الفطريات تختلف عن الأوليات في أنها تمتص غذاءها من خلال جذرها الخلوية كالنباتات، ولكنها لا تقوم بتصنيع غذائها بنفسها كالنباتات، كما أنها لا تقوم بالتهام غذائها كالحيوانات، ولذلك كان لابد من فصلها في مملكة مستقلة، وبفصلها أصبحت ممالك الحياة المعروفة لنا خمسًا كما يلي:
(1) مملكة البدائيات (Kingdom Monera):
وتشمل كلًّا من الفيروسات، والبكتريا، والطحالب الخضراء المزرقة، وهي غالبًا وحيدة الخلية، والخلية منها ليست لها نواة محددة.
(2) مملكة الطلائعيات (Kingdom Protista):
وتشمل الأوليات وبقية الطحالب، وهي وحيدة الخلية وخليتها لها نواة محددة.
(3) مملكة الفطريات أو الفطور(KINGDOMFUNGI):
وتشمل كلًّا من الفطريات الغروية، والفطريات الحقيقية، والفطريات الطحلبية، والأشنات، وقد تكون وحيدة الخلية أو عبارة عن تجمعات خلوية، ولكل خلية من خلاياها نواة محددة، وتختلف الفطريات عن النباتات في خلوها من الصبغة الخضراء؛ ولذلك تعتمد في غذائها على غيرها من الكائنات الحية والمواد العضوية المتحللة؛ ولذلك فمنها الفطريات الرمية التي تعيش على الجِيَف الميتة، وبقايا النباتات المتحللة، والفطريات الطفيلية التي تعيش على حساب غيرها من الكائنات الحية.
(4) مملكة النبات(Kingdom Plantae):
وتشمل كائناتٍ عديدة الخلايا، ولكل خلية منها نواة محددة، والخلايا متخصصة في أنسجة وأعضاء، وتحمل الصبغيات النباتية التي تمكنها من القيام بعملية التمثيل الكربوني لإعداد غذائها، والخلية جدارها غير حي، والنبات غالبًا مثبت بالتربة.
(5) المملكة الحيوانية(Kingdom Animalia):
وتشمل كائنات حية عديدة الخلايا، ولكل خلية نواة محددة، وجدار حي، وهي كائنات قادرة على الحركة الذاتية، والتغذي على غيرها من النباتات أو الحيوانات.
وهذا التقسيم الوضعي هو وسيلة من وسائل الحصر التي تعين دارسي الأحياء على الإلمام -ولو بصورة تقريبية- بهذا الكم الذي لا يكاد إنسان أن يحصيه من المخلوقات الحية؛ ولذلك يصفه أحد علماء الحياة البارزين في زماننا هذا بقوله:"ومع أن النظام المبني على أساس أن هناك خمس ممالك هو المفصل في هذا الكتاب، إلا أنه كغيره من الأنظمة التقسيمية الأخرى لا يخرج عن كونه من صنع العقل الإنساني، ولهذا فهو محاولة لوضع حدود اعتباطية للطبيعة، ولما كانت الطبيعة تتميز بالتنوع الكبير، فإن عمل تقسيمات دقيقة ومتجانسة يعتبر أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا"(ريتشارد أ. جولد زبي في كتابه المُعَنْوَن علم الأحياء الجزء الأول ص394)(RichardA.Goldzbi1980Biology).
التصنيف الحالي للكائنات الحية:
إمعانًا في تبسيط الصورة، والذي أدى في الحقيقة إلى المزيد من تعقيدها، قُسِّمَت كل مملكة من هذه الممالك الخمس للأحياء إلى عدد من القبائل(Phyla)، وقُسِّمَت كل قبيلة إلى عدد من الطوائف(Classes)، كما قُسِّمَت كل طائفة إلى عدد من الرتب(Orders)، وقُسِّمَت كل رتبة إلى عدد من العائلات(Families)، وقُسِّمَت كل عائلة إلى عدد من الأجناس(Genera)، وقُسِّمَ كل جنس إلى عدد من الأنواع(Species)، وقُسِّمَ كل نوع إلى عدد من الأصناف(Varieties)، وقُسِّمَ الصنف الواحد إلى عدد من السلالات(Strains)، وتشتمل كل سلالة على عدد من الأفراد.
وزيادة في التعقيد فُتِحَ الباب لمضاعفة كل وحدة من هذه الوحدات التصنيفية إلى ثلاثة أضعافها، وذلك بالسماح بإضافة وحدة قبلها تسبقها المقدمة: فوق أو (Super)، ووحدة بعدها، وذلك بتوظيف الإضافة: تحت أو (Sub)، فيقال: فوق المملكة، المملكة، وتحت المملكة، وهكذا بالنسبة لجميع الوحدات التصنيفية المقترحة.
وهذا كله تم في محاولة يائسة من أدعياء التطور لإلغاء حقيقة الخلق، وإنكار الخالق -سبحانه وتعالى- ونسبة كل شيء إلى الطبيعة، ولكن الكشوف العلمية المتلاحقة -وفي مقدمتها علم الوراثة- بدأت تؤكد لنا أن الوحدة التصنيفية الحقيقية للأحياء هي النوع الذي مايزه الخالق -سبحانه وتعالى- إلى بلايين الأفراد التي نشرها في الأرض، وجمعها في عدد من الأمم أو الجماعات(Populations), يعيش كلٌّ منها في منطقة محددة من الأرض، وتحت ظروف بيئية خاصة، وينتهي نسبها إلى أصل واحد أوجده الخالق -سبحانه وتعالى- بعلمه وحكمته وقدرته، ويبقى النوع (Species)هو الوحدة التصنيفية الوحيدة المؤكدة في جميع التصنيفات الحديثة لكل المخلوقات الحية، وما فوق ذلك من وحدات هو محض افتراضات ظنية، تدخل فيها اعتبارات شخصية عديدة، فالشخص الذي يقوم بعملية التصنيف يختار صفات ويتجاهل أخرى من أجل تيسير عملية حصر هذا الكم الهائل من الخلق.
وعلى ذلك فإن كل نوع من أنواع الكائنات الحية يشمل مجموعة من الأمم أو الجماعات (Populatioms) التي تجمعها صفات خارجية شكلية وصفية واحدة، وصفات تشريحية داخلية واحدة، ووظائف أعضاء واحدة، وبنية كيميائية حيوية واحدة، وصفات وراثية أساسية واحدة، وظروف بيئية متقاربة -وإن باعدت بينها المسافات الأرضية- وقدرة على التزاوج فيما بينها، وإنتاج سلالة خصبة نتيجة لهذا التلاقح.
وهذه الصفات تجمع بين أفراد كل أمة من هذه الأمم كما تجمع بين جميع أفراد كل أمم النوع الواحد، وإن قامت بين تلك الأمم بعض الفروقات الناتجة عن الاختلافات البيئية، أو العزل الجيني، حيث إن جميع هؤلاء الأفراد قد استلوا من شفرة وراثية واحدة.
وعلى ذلك فإن الأفراد من نوعين مختلفين من أنواع الأحياء لا يمكن أن يتم بينهما تلاقح يؤدي إلى سلالة خصبة أبدا، وكل نوع من هذه الأنواع لا يمكن أن ينسل خارج نوعه الذي ينتسب إليه أبدًا، وإنما تتباين أفراده عن بعضها البعض تباينًا قليلًا في الأمة الواحدة -أو الجماعة الواحدة- من أمم هذا النوع على أساس من تنوع نصيب كل فرد من الأفراد من الميراث الجيني الذي وضعه ربنا -تبارك وتعالى- في أصل هذا النوع من أنواع الأحياء، وقد تزيد الفروق الفردية قليلًا بين الأفراد في أمتين منفصلتين نتيجة للعزل الوراثي -الجيني- وللاختلاف في الظروف المناخية والبيئية. وهذه الملاحظة وحدها تكفي لنفي فكرة التصنيف الرأسي لمجموعات الأحياء المبنية على افتراض صلات القربى بين أفراد المملكة الواحدة من النوع أو السلالة إلى المملكة، وبين الممالك كلها انتصارًا لفكرة التطور العضوي التي هزمها وحسمها العلم بمعطياته المتلاحقة، وأهمها قراءة الشفرة الوراثية للإنسان وللعديد غيره من الكائنات الحية، التي بدأ الإنسان بمحاولة تصنيفها في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، حين قام الطبيب وعالم الأحياء السويدي كارولسلينيوس (Carolus Linnaeus) بنشر كتابه المُعَنْوَن: النُّظُم الطبيعية (SystemaNaturae) في سنة1758م، وذلك قبل نشر كتاب أصل الأنواع لـتشارلس داروين(Charles Darwin) بمائة سنة، وقد نادى لينيوس في كتابه بضرورة تصنيف الأحياء وتسميتها حسب نظام وضعه باسم نظام التسمية الثنائية، وهو نظام قائم على افتراض تأصل كل أنواع الحياة ونسبتها إلى أصل واحد، ولكن الآية القرآنية التي نحن بصددها والتي يقول فيها ربنا -تبارك وتعالى-:"وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَاطَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ..." [الأنعام:38] تشير إلى أن كل نوع من أنواع الأحياء بأممه وأفراده هو كيان خاص معزول عن غيره من الأفراد والأمم والأنواع، وأن كل صلات القربى المتعلقة به محصورة في أفراده، ولا تمتد إلى غيره من الأنواع، وهي حقيقة بدأت أعداد من نتائج العلوم المتلاحقة، مثل علوم الوراثة، علم الأحياء الجزيئي، علم الكيمياء الحيوية وغيرها تتحدث عنها بوضوح.
وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلى هذه الحقيقة من قبل ألف وأربعمائة من السنين لمما يؤكد أن هذا الكتاب الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية حفظًا كاملًا: كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، بنفس لغة وحيه -اللغة العربية- على مدى يزيد على الأربعة عشر قرنًا وإلى أن يرث الله -تعالى- الأرض ومن عليها.
فالحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقى القرآن العظيم من ربه -تعالى- فحمله إلينا بأمانة كاملة في صفائه الرباني وإشراقاته النورانية، وبكل ما أنزل فيه من حق، وهو كله حق، والصلاة والسلام على آله وصحبه الغُرِّ الميامين، وعلى كل من تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.