"وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ" [النحل:68]
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بداية النصف الثاني من سورة "النحل"، وهي سورة مكية، وعدد آياتها128 بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى تلك المجموعة المباركة من الحشرات المعروفة باسم النحل؛ لأن الله -تعالى- قد نحل إناثها القدرة على جمع رحيق الأزهار، وما بها من غبار الطلع -حبوب اللقاح- من العديد من النباتات المزهرة، وهضمه وتحويله في بطونها إلى ذلك الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس، والمعروف إجمالًا باسم عسل النحل، ولو أنه يشمل مركبات عديدة بالإضافة إلى هذا العسل، من أهمها غذاء ملكات النحل، والشمع، وحبوب اللقاح، والمعكبر-صموغ النحل- وسم النحل.
ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضيتي العقيدة الإسلامية، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وكلتاهما من ركائز الإسلام، واستشهدت في سبيل الدعوة إلى تلك الركائز بالعديد من الإشارات الكونية التي صيغت صياغة علمية غاية في الدقة والشمول والكمال، مما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق، ويشهد للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة.
من ركائز العقيدة في سورة "النحل":
(1) الإيمان بالله -تعالى- ربا واحدا أحدا، فردا صمدا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وتنزيهه -سبحانه وتعالى- عن الشريك، والشبيه، والمنازع، والصاحبة، والولد، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، وتوحيده -تعالى- توحيد الألوهية، فلا يعبد سواه، وتوحيد الربوبية، فلا يخلق ولا يرزق غيره، وتوحيد الأسماء والصفات، فلا يسمى ولا يوصف إلا بما سمى به ذاته العلية من الأسماء الحسنى، ووصف به جانبًا من صفاته العليا.
والإيمان بأن الله -تعالى- هو خالق كل شيء وربه ومليكه يجعل كل ما سواه مخلوقًا بأمره، والخالق يختلف اختلافًا كليًّا عن خلقه، كما أن المخلوقين يختلفون اختلافًا كليًّا عن خالقهم، ومن هنا فلا يجوز لهم أن يضربوا الأمثال للخالق -سبحانه وتعالى- وهو الذي يعلم كل شيء، وهم لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا.
ومن صفات الله -تعالى- التي أوردها لنا في سورة "النحل" أن له غيب السماوات والأرض، وأن أمره نافذ عاجل لا يرد(وهو بين الكاف والنون)، وأن الدين له -سبحانه وتعالى- لأنه وحده، لا يشاركه في ذلك شريك، ولا ينازعه منازع، وأن الله على كل شيء قدير.
واليقين بأن الخلق يشهد لخالقه بالربوبية، والألوهية، والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه جزء لا يتجزأ من الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- والخلق يشهد لخالقه بطلاقة القدرة، وبديع الصنعة، وإحكام الخلق، وبالعلم المحيط، والهيمنة الكاملة على جميع ما في السماوات والأرض، وكلهم له عبد، يسجد لجلاله طوعًا وكرهًا.
(2) الإيمان بحقيقة الوحي، ومن معانيه أن الله -تعالى- ينزل ملائكته بالهداية الربانية لخلقه على من يشاء من عباده الذين يصطفيهم بعلمه وحكمته، وهم الأنبياء والمرسلون الذين يبعثهم الله -سبحانه- بتعاليم الدين. والدين قائم على ركائز أربع من العقيدة؛ وهي: غيب مطلق لا يستطيع الإنسان الوصول إليه بعقله ولا بحواسه منفردًا، والعبادة، وهي أوامر إلهية كاملة لا يليق بالإنسان أن يكون له فيها رأي، وعلى كلٍّ من الأخلاق والمعاملات، وهي ضوابط للسلوك، والتاريخ يؤكد لنا عجز الإنسان دومًا عن وضع ضوابط صحيحة للسلوك من عند نفسه الأمَّارة بالسوء.
ومن رسالة الوحي: دعوة الناس إلى الإيمان بالله -تعالى- وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ودعوتهم إلى توحيد الله -جل جلاله- توحيدًا خالصًا لا تشوبه أدنى شبهة من شرك، وإلى عبادته -تعالى- بما أمر، وتقواه في كل أمر، واجتناب الطاغوت، وأن الله -سبحانه وتعالى- قد أكمل للإنسانية دينها، وأتم نعمته عليها، ورضي لها الإسلام دينًا ببعثة الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- وأنه ما على الرسول إلا البلاغ المبين.
(3) اليقين بحقيقة الآخرة، وبحتميتها، وفجائيتها، وبأن موعدها قد اقترب، واليقين بحقيقة كلٍّ من البعث والحساب، والجنة والنار، وبأن الجنة هي مثوى المتقين، وبأن النار هي مثوى المتكبرين الذين لم يؤمنوا بالله ولا برسالته، أو أشركوا غيره في عبادته، ولم يعتبروا بتكرار عقاب الأمم العاصية من قبلهم.
وتؤكد الآيات في سورة "النحل" أن الله -تعالى- سوف يبعث في كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم في يوم القيامة، وأن خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- سوف يشهد على أمته، وعلى جميع الأمم من بعدها إلى يوم الدين؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- مبعوث للناس كافة.
(4) الإيمان بأن كل نعمة اختص الله -تعالى- بها عبدًا من عباده هي من فضل الله العلي العظيم الذي لا تحصى نعمه ولا تعد أفضاله، وأن الله -جل جلاله- قد فضَّل بعض خلقه على بعض في الرزق لحكمة يعلمها، وأن من نعمه -تعالى- على عباده أن جعل لهم من أنفسهم أزواجًا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة حتى يكتسبوا بها المعارف والعلوم؛ لأن الله -سبحانه- يخرج المواليد من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا.
(5) الإيمان بأن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، وبأن الهجرة في سبيل الله أجرها عظيم في الدنيا، وثوابها في الآخرة أعظم، وأن الذين مكروا السيئات في الدنيا لا يأمنون أن يخسف الله -تعالى- بهم الأرض أو أن يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأن من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فسوف يحييه الله حياة طيبة، ولسوف يجزيه أجره بأحسن ما كان يعمل، وأن الذين زين لهم الشيطان أعمالهم سوف يكون هو وليهم يوم القيامة، وأن لهم عذابًا أليمًا، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة، ولكن يؤخرهم إلى نهاية الأجل حيث لا مهرب منه، ولا تأخر عنه.
(6) التسليم بأن الحاكمية لله وحده، ومن ثم فإن له وحده حق التحليل والتحريم، ولا يجوز ذلك لأحد من المخلوقين أبدًا.
(7) القناعة بأن الله -تعالى- قد وهب الناس عقولًا مدركة تفكر، وإرادة حرة تختار وتوجه، وتبين لهم طريق الاستقامة الموصل إلى الخير، وطرق الانحراف المفضية إلى الشر، وترك الخيار كاملًا لكل فرد، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
من مكارم الأخلاق في سورة "النحل":
(1) الدعوة إلى إقامة عدل الله في الأرض، وإلى الإحسان إلى الخلق، والوفاء بالعهد، واحترام الإيمان، وإلى غير ذلك من مكارم الأخلاق، وضوابط السلوك، وقواعد المعاملات بين الناس، على أن ينطلق ذلك كله من منطلق تقوى الله، ورجاء رضوانه، ومخافة عقابه، بعد القناعة الكاملة بضرورة ذلك من أجل استقامة الحياة على الأرض.
(2) الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وإيتاء ذي القربى.
(3) الدعوة إلى رفض الظلم بكل أشكاله وصوره، وبضرورة مقاومته بكل وسيلة مشروعة، فإن تعذر ذلك فلتكن الهجرة في سبيل الله.
(4) التحذير من الوقوع في الفتن ما ظهر منها وما بطن، ومن أخطرها فتن الكفر بالله أو الشرك به، وما أكثرها في هذه الأيام.
(5) النهي القاطع عن الفحشاء والمنكر والبغي، والتذكير الدائم بنعم الله العديدة على الخلق، والحض المستمر على دوام شكرها، فبالشكر تدوم النعم، وتنكسر حدة الغرور في النفس الإنسانية التي تدرك أن ليس لها من مخرج في كل شدة من الشدائد التي تمر بها إلا اللجوء إلى الله -سبحانه وتعالى- والتذكير كذلك برحلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا من النطفة إلى النطفة الأمشاج، إلى العلقة ثم المضغة المخلقة وغير المخلقة، ثم خلق العظام، ثم كسوتها باللحم، ثم إنشاء الجنين خلقًا آخر، ثم إخراجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، ثم ما بعد ذلك من مراحل الطفولة، ثم الشباب والفتوة، ثم الكهولة، والشيخوخة، والضعف والهرم حتى لا يعلم من بعد علم شيئا، ثم الاحتضار والموت، وما يتخلل ذلك العمر من فترات الرخاء والنعمة، وفترات الابتلاء والشدة، ومحصلة ذلك عند لحظة الموت.
من الإشارات الكونية في سورة "النحل":
(1) التأكيد على قضية خلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء، وإفراد الله -سبحانه وتعالى- بذلك، ومنه خلق الإنسان من نطفة لا تُرَى بالعين المجردة، وعلى الرغم من ذلك فإنه بمجرد بلوغه مرحلة الشباب والفتوة كثيرًا ما يقابل فضل ربه عليه بالجحود والنكران، وقد خلق له الأنعام مثل الإبل، والبقر، والضأن، والماعز، وجعل فيها منافع كثيرة، وخلق له الخيل والبغال والحمير وغير ذلك من وسائل الركوب والزينة وحمل الأثقال المعروفة في زمن الوحي، والتي استجدت من بعده، والله الخالق قادر على أن يخلق ما يعلمه الناس وما لا يعلمون.
(2) الإشارة إلى دورة الماء حول الأرض بذكر إنزاله من السماء مصدرًا للشراب ولإنبات الشجر والزروع ، مثل الزيتون، والنخيل، والأعناب، ومن كل الثمرات، وجعل ذلك آية للذين يتفكرون.
(3) الاستشهاد على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في جنبات الكون بتسخير الأرض كي تكون صالحة للعمران، وذلك بتكويرها وتدويرها حول محورها أمام الشمس حتى يتبادل عليها الليل والنهار، وتسخير كلٍّ من الشمس والقمر والنجوم بأمر من الله -تعالى- كي تستقيم الحياة على الأرض وفي الكون كله. وتؤكد السورة الكريمة دوران الأرض حول محورها كذلك بالإشارة إلى ظاهرة مد الظل وقبضه واعتباره صورة من صور السجود لله.
(4) الإشارة إلى نشر مختلف صور وأشكال وألوان المخلوقات من الأحياء والجمادات في الأرض، وإعطاء الإنسان قدرات من مختلف صور الحس تعينه على تمييزها والتمتع حتى يشهد بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة في جنبات الكون.
(5) ذكر تسخير الله -تعالى- البحر للإنسان بما فيه من أحياء ذات لحم طري يؤكل، وهياكل للحيوانات تصلح لصناعة الحلي التي تلبس، وقدرة على حمل الفلك ذات الأحجام المختلفة التي تجري بمصالح العباد شاقة عباب مائه، وعباب ما فوق الماء من هواء.
(6) الاستشهاد بإلقاء الجبال على الأرض، وجعلها رواسي لها كي لا تميد ولا تضطرب، وارتباط قمم الجبال بتكون منابع الأنهار، ودور تلك المجاري المائية في تفتيت الصخور، وشق الفجاج والسبل، وتكوين تضاريس الأرض التي تصبح علامات دالة للاهتداء بها في وضح النهار، كما جعل النجوم علامات للهداية بالليل.
(7) وصف عقاب بعض الأمم السابقة وصفًا ينطبق بدقة فائقة على ما تحدثه الهزات الأرضية العنيفة -الزلازل- في زماننا، وذلك من قبل أن يدرك أحد من الخلق تفاصيل حدوث تلك الهزات الأرضية، وخسف الأرض بعدد من الأمم الباغية في القديم والحديث يؤكد أن الزلازل -كغيرها من صور الابتلاءات الدنيوية- هي جند من جند الله يسلطها على من يشاء من عباده عقابًا للمذنبين المجاهرين بالمعاصي من الكفار والمشركين وعصاة المسلمين، وابتلاءً للصالحين، وعبرةً للناجين.
(8) تأكيد لمحة الإعجاز في خلق الأنعام، وفي تكوين اللبن في ضروعها من بين فرث ودم، وخروجه من تلك الضروع لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.
(9) الاستشهاد بما في ثمرات كلٍّ من النخيل والأعناب من الرزق الحسن، وإن أساء بعض الناس استخدامها في صناعة المسكرات.
(10) الإشارة إلى خلق أمة نحل العسل، وإلى إعطائها قدرًا من الوعي والإدراك، ومنحها القدرات الفطرية على تنظيم مجتمعاتها تنظيمًا مبهرًا دقيقًا تتوزع فيه الاختصاصات والمسؤوليات والمهام في عيش جماعي تكافلي رائع، ومن هنا كانت الإشارة إليها بالجمع في تسمية السورة -سورة النحل- وفي الآيات التي جاء ذكر النحل فيها، وإعطائها كذلك قدرًا من الحرية الكبيرة في اختيار بيوتها من الجبال ومن الشجر، ومما يعرشون، وقدرًا من معرفة الأماكن والاتجاهات، وقوة على الطيران بسرعات فائقة حتى تغطي أكبر مساحة ممكنة من الأرض تجني الرحيق وحبوب اللقاح من أزهار نباتاتها، ومنحها القدرة على تحويل ذلك في بطونها إلى شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.
(11) الاستشهاد على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان باستخراج هذه البلايين من الرجال والنساء من نفس واحدة هي نفس أبينا آدم -عليه السلام- التي خلق منها زوجها، وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، وخلق من هذه الأزواج البنين والحفدة في دورة مبهرة للحياة، وجعل من كل هؤلاء من يتوفى مبكرا، ومنهم من يُرَدُّ إلى أرذل العمر وضعف البنيان الجسدي، ومن أبرز مظاهره فقدان الذاكرة جزئيًّا أو كليًّا.
(12) الإشارة إلى السمع قبل البصر في هذه السورة المباركة وفي العديد من السور القرآنية الأخرى، والدراسات العلمية تؤكد السبق في تخلق حاسة السمع على حاسة البصر في أجنة الإنسان وفي أجنة غيره من المخلوقات.
(13) التلميح إلى الإمساك بالطيور مسخرات في جو السماء، وإلى حقيقة أنه لا يمسكهن إلا قدرة الله البالغة.
(14) استخدام تعبير سرابيل تقيكم الحر بمفهوم كلٍّ من الحرارة والبرودة؛ لأن كلها درجات حرارة، وهي مفاهيم نسبية، فإذا كانت درجة الحرارة فوق المعتاد كانت تعبيرًا عن الحر، وإذا كانت دون المعتاد كانت تعبيرًا عن البرد، وهي حقيقة علمية لم تكن معروفة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده.
(15) تحريم أكل كلٍّ من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به، والبحوث العلمية أثبتت أخطار ذلك كله على صحة الإنسان.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها؛ ولهذا فسوف أقصر الحديث هنا على النقطة العاشرة من القائمة السابقة التي عبرت عنها الآية الكريمة رقم68 من سورة "النحل"، وقبل استعراض دلالتها العلمية لابد من الرجوع إلى كلام عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين في تفسير قوله -تعالى- "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ" [النحل:68]:
ذكر ابن كثير -يرحمه الله- ما مختصره: المراد بالوحي هناالإلهام والهداية والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا تأوي إليها "وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ".(انتهى قول المفسر).
وجاء في الظلال -رحم الله كاتبها برحمته الواسعة- ما نصه:والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق، فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه، وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلاياها، أو في تقسيم العمل بينها، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى، وهي تتخذ بيوتها -حسب فطرتها- في الجبال والشجر ومما يعرشون، أي ما يرفعون من الكروم وغيرها. (انتهى قول المفسر).
وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أرى حاجة لإعادته هنا.
من الدلالات العلمية للآية:
أولًا: في قوله -تعالى-: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ...":
واضح من هذه الآية الكريمة أن النحل المقصود هنا هو نحل العسل، بدليل قوله -تعالى- في الآية التي تليها: "... يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ..."،
و(الواو) حرف عطف لا يدل على الترتيب، وقد تكون بمعنى(مع) لما بينهما من المناسبة؛ لأن(مع) تعني المصاحبة، وواضح الأمر هنا أنها للجمع بين الشيئين دون الترتيب، فبعد أن ذكر الله -تعالى- عددًا من دلائل قدرته في إبداع خلقه، ومنها إخراج اللبن إلى ضروع الأنعام من بين فرث ودم، وإخراج الرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب -وإن أساء بعض الناس استخدامه- ذكر ربنا -تبارك وتعالى- في هذه الآية الكريمة قدرته البالغة في الإيحاء إلى الشغالات من نحل العسل أن تتخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم أن تأكل من كل الثمرات وتسلك سبل الله المذللة لها، وأن تخرج من بطونها ذلك الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس؛ ولذلك جاء الخطاب في هذه الآيات موجهًا إلى أنثى عسل النحل (من الشغالات)؛ لأنها هي التي تبني البيوت، وهي التي تطير إلى عشرات الكيلو مترات لتجمع رحيق الأزهار وحبوب اللقاح من العديد من النباتات المزهرة، وهي التي أعطاها الله -تعالى- القدرة على إنتاج ذلك الشراب المعروف إجمالًا باسم عسل النحل.
والفعل (أوحى) هنا من معانيه الإلهام والتسخير، ومن معاني الوحي الإلقاء بالأمر أو بالخبر في خفاء وسرعة، والوحي من الله -تعالى- إلى نحل العسل قد يكون نوعًا من الإلهام الفطري الغريزي الذي زرعه الله -تعالى- في جبلتها، أو في الشفرة الوراثية الخاصة بنوعها، أو ألقاه في روعها بعلمه، وحكمته، وقدرته وكلا الأمرين يشي بشيء من الغرائز الفطرية لدى نحل العسل تعطيه قدرًا من الذكاء، والوعي، والإدراك، والشعور، والإحساس الذي يمكنه من تمييز الأشياء، والأماكن، والاتجاهات، والأوقات، كما يمكنه من تنظيم، وترتيب، وضبط حياته الاجتماعية بعدد من القواعد الدقيقة التي وهبه الله -تعالى- إياها.
وهذا العلم الوهبي الذي منَّ الله -سبحانه وتعالى- به على نحل العسل، لم يُحْرَم منه أيٌّ من مخلوقاته التي وهب كل أمة منها قدرًا منه يتفاوت بتفاوت الدور المخطط لها في هذه الحياة، وفي الحدود التي خططها لها الله -سبحانه- بعلمه وحكمته وقدرته.
وقد تعرف علماء الحشرات على أكثر من 12.000 نوع من أنواع النحل، منها حوالي600 نوع يحيون حياة جماعية في مستعمرات متباينة الأحجام، والباقي يحيون حياة فردية. ونحل العسل المقصود في الآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها يحيا في جماعات منظمة تنظيمًا دقيقًا للغاية؛ ولذلك جاء اسم السورة الكريمة بصيغة الجمع -النحل- وجاءت الإشارة في الآيتين الكريمتين المتعلقتين بهذه الحشرة المباركة بصيغة الجمع أيضًا، حيث يقول ربنا -تبارك وتعالى-:"وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ..." [النحل:68].
ويتراوح عدد الأفراد في خلية نحل العسل سنويًّا من 40.000 إلى 80.000 شغالة من إناث النحل العاقرات -العواقر- وحوالي المائتين من ذكور النحل، وملكة واحدة تبيض حوالي 1500 بيضة في اليوم، وما يلقَّح من هذا البيض ينتج إناثًا وملكات، وما لا يُلقَّح ينتج الذكور. ووظيفة ذكر النحل منحصرة في إخصاب الملكة، بينما تقوم شغالات النحل العقيمة بجميع أعمال الخلية، والملكة تمثل أكبر الأحجام في الخلية، يليها في الحجم الذكور، ثم الشغالات.
وتتمثل دورة حياة نحل العسل في المراحل الأربع التي تتحرك فيها من طور البيضة إلى طور اليرقة، إلى طور العذراء، ثم إلى طور الحشرة الكاملة.
وواضح الأمر أن النحل المقصود في الآية الكريمة التي نحن بصددها هو نحل العسل، ويوجد منه أربعة أصناف هي كما يلي:
(1) النحل الكبير(Apisdorsata).
(2) النحل الصغير(ApisFlorea).
(3) النحل الهندي(الشرقي)(Apiscerana).
(4) النحل الغربي(Apismelifera).
والأصناف الثلاثة الأولى لا تزال تحيا حياة برية في العديد من دول جنوب شرق آسيا، والرابع هو الصنف المستأنس والمنتشر في غالبية دول عالم اليوم؛ ولذلك فهو أهم هذه الأنواع الأربعة. ونحل العسل لا يستطيع العيش إلا في جماعات منظمة تنظيمًا دقيقًا، فإذا انعزلت إحداها عن جماعتها لسبب من الأسباب فعليها أن تنضم إلى جماعة أخرى من صنفها إذا قبلتها أو أن تموت.
وجاء التعبير عن وحي الله -تعالى- إلى النحل بصيغة الماضي "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ..."؛ لأن ذلك يشمل الزمن كله من الماضي إلى الحاضر والمستقبل؛ وذلك لأن الزمن الذي يحد المخلوقين بحدود آجالهم، كما يحد أقوالهم وأفعالهم في حياتهم، هذا الزمن نفسه هو من خلق الله -تعالى- والمخلوق لا يحد خالقه أبدا، وعلى ذلك فإن الزمن لا يحد الله -جل جلاله- ولا يحد أفعاله وأوامره، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى-:
"... وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ..." [الأنعام:73].
ويقول -عز من قائل-:
"إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [النحل:40].
ويقول -جل جلاله-:
"... سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [مريم:35].
ويقول -سبحانه وتعالى-:
"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًاأَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [يس:82].
ويقول -عز من قائل-:
"... فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [غافر:68].
وانطلاقًا من ذلك فإن كلًّا من الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة إلى الله -تعالى- هو حاضر؛ لأن الله -تعالى- فوق الكون بأماكنه، وأزمنته، ومختلف صور المادة والطاقة فيه، ومرجعية كل شيء في الكون، ومرجعية الكون كله إليه.
بالإضافة إلى ذلك فإن أقدم أثر للنحل في صخور القشرة الأرضية يرجع إلى أكثر من مائة وخمسين مليونًا من السنين، وأمر الله -تعالى- إلى النحل، وإلهامه إياه بهذا السلوك المنظم الدقيق قد غرسه أو غرزه ربنا -تبارك وتعالى- في جبلة نحل العسل -أي في شفرته الوراثية- منذ الخلق الأول لأمة النحل، وجعل ذلك جزءًا من فطرتها التي فطرها الله -تعالى- عليها؛ ولذلك تعرف باسم الفطرة أو الغريزة، ولما كان ذلك قد تم منذ أكثر من مائة وخمسين مليونًا من السنين، فهو بالنسبة لنا يرجع إلى ماضٍ بعيد جدا.
ولما كان الأمر أو الإلهام الإلهي إلى النحل مستمرا من هذا الماضي البعيد جدا إلى زمننا الراهن، وممتدا في المستقبل إلى أن يرث الله -سبحانه وتعالى- الأرض ومن عليها، كان التعبير عن عملية الوحي هذه بصيغة الماضي هو الأنسب لتغطية هذا الحدث القديم والمستمر إلى أن يشاء الله.
ثانيًا: في قوله -تعالى-:"وَأَوْحَى رَبُّكَ ...":
و(رب) كل شيء هو مالكه، والمتكفل برزقه، وقضاء حاجاته، ومنشئه، ومنميه، ومربيه، والرقيب عليه، والمتكفل بإصلاح حاله، و(الرب) اسم من أسماء الله -تعالى- ولا يقال لغيره إلا بإضافة، وقد استخدم هنا التعبير -ربك- ليفيد بأن الله -سبحانه وتعالى- هو رب كل شيء ومليكه، وهو واهب النعم، ومجري الخيرات، وموزع الأرزاق، ومسخر الكائنات لخدمة بعضها بعضا، ولخدمة ذلك المخلوق المكرم المعروف باسم الإنسان أو بني آدم، ولم يستخدم تعبير(إلهك)؛ لأن الإله هو المعبود المقدس المنزه عن صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، والمقام هنا مقام التحدث بنعمة من أعظم نعم رزق الله على الإنسان، ألا وهي نعمة عسل النحل الذي فيه شفاء للناس، والأنسب في حال ذكر النعم هو مقام الربوبية، كما أن الأنسب في حال ذكر وجوب الخضوع للخالق الأعظم بالطاعة والعبادة هو مقام الألوهية، وضمير المخاطب في قول الحق -تبارك وتعالى-: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ..." [النحل:68]يعود في المقام الأول إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- ثم من بعد ذلك إلى كل من يقرأ هذه الآية الكريمة أو يسمعها ليعلم أن له ربا كريما، عليما، حكيما أنشأ له هذه الحشرة المباركة التي وهبها من القدرة على صناعة هذا الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس ما تعجز عنه البشرية مجتمعة.
ثالثا: في قوله -تعالى-: "... أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ":
والخطاب هنا إلى إناث النحل الشغالات اللائي يقمن بالبحث عن المكان المناسب لبناء بيوت النحل، ويقمن بالبناء بذواتهن، وبصيانة وتنظيف وترميم البناء، وعلى حمايته وتهويته، وهذا القدر من الحرية الكبيرة الذي أعطاه الله -تعالى- لأمة نحل العسل في اختيار مسكنها -أي المكان الذي تبني فيه بيوتها من الجبال، ومن الشجر، ومما يعرشون- له حكمة بالغة؛ لأنه يتيح لهذه الحشرة الصغيرة الحجم فرصة الاستفادة بأكبر عدد ممكن من البيئات المختلفة وبما فيها من متنوع النباتات حتى تنوع ذلك الشراب المختلف الألوان، الذي يخرج من بطونها، والذي فيه شفاء للناس، ويجعل الله -تعالى- من أنواعه المختلفة شفاءً لأمراض متباينة، وهذا بخلاف العديد من الحيوانات -بصفة عامة- ومن الحشرات -بصفة خاصة- التي حدد الله -تعالى- لها بيئات لا تستطيع الخروج عنها وإلا هلكت.
واتخاذ أي تجمع من تجمعات أمة نحل العسل القرار ببناء بيوت لها يحتاج إلى عمليات استطلاع وبحث وتشاور مكثفة حتى يتم الإجماع على اختيار المكان، وتبدأ الشغالات في بناء مستعمرة النحل من الشمع الذي تفرزه من غدد خاصة في أسفل بطن كلٍّ منها تعرف باسم الغدد الشمعية، وعددها أربعة أزواج.
ومن إلهام الله -تعالى- للشغالات بناء بيوت النحل على الهيئة السداسية الأضلاع للقضاء على المسافات البينية التي يمكن أن تنشأ عن الأشكال الأخرى، ولبناء أكبر عدد ممكن من البيوت في مساحة محددة، ولملائمة هذه الأشكال السداسية لنمو يرقات النحل الأسطوانية الشكل، ويقوم على حراسة الخلية عدد من الشغالات بالتناوب على باب الخلية من الداخل، فإذا حضر مهاجم لدغته النحلة الحارسة وماتت على الفور.
ويقوم فريق آخر من الشغالات بأعمال صيانة وترميم ونظافة خلايا النحل باستمرار، ومن عجائب الأمور أن النحل لا يتغوط أبدًا داخلَ الخلية، ولا يُبقِي فيها أدنى قدر من القاذورات، كما تقوم بعض شغالات النحل بتلميع وترميم وصيانة الخلية من الداخل باستمرار، وبسد أي شقوق يمكن أن تحدث فيها باستخدام صموغ -غراء- نحل العسل، وهي مواد صمغية(راتنجية) لزجة، وتجمعها شغالات النحل من براعم بعض النباتات، ومن فلق بعض الأشجار، وتستخدمها أيضًا في الإحاطة التامة ببقايا بعض الحشرات المهاجمة كي لا تتعفن قبل إلقائها خارج الخلية.
ويقوم فريق ثالث بتهوية الخلية وتكييفها، وفريق رابع يقوم على العناية بالصغار في مراحل النمو المختلفة من البيضة إلى الحشرة الكاملة.
هذه الدقة العلمية الفائقة في الإشارة إلى ما وهب الله -تعالى- النحل من ذكاء فطري وعلم وهبي تحاول المعارف المكتسبة اليوم الكشف عن شيء منه، والذي أشارت إليه الآية الكريمة بالفعل "أوحى"، واستخدام صفة الربوبية للخالق -سبحانه وتعالى- بدلًا من صفة الألوهية في مقام التحدث عن نعمة من نعمه، ومن توحيد الربوبية لله الخالق وصفه -تعالى- بأنه وحده هو واهب النعم، ومجري الخيرات، بينما توحيد الألوهية يقتضي ألا يعبد سواه.كذلك فإن استخدام ضمير المخاطب في قول الله -تعالى-: "وَأَوْحَى رَبُّكَ ..." [النحل:68] قصد به -في المقام الأول- خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- ولكنه ينسحب أيضًا على كل قارئ أو مستمع لهذه الآية الكريمة، ثم إن في الإشارة إلى النحل بصيغة الجمع، ونحل العسل لا يعيش إلا في جماعات كبيرة، وفي توجيه الخطاب إلى المفردة من إناث النحل(الشغالات) بالفعل "... اتَّخِذِي ..."، وهن اللائي يقمن بالبحث عن السكنى، كما يقمن على بناء البيوت وصيانتها، وحراستها، ونظافتها، وترميمها وتكييفها، وتهويتها، وفي هذه المساحة الهائلة من البيئات المتعددة التي وهبها الله -تعالى- لأمة نحل العسل على عكس غيرها من المخلوقات - كل ذلك يؤكد أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد دون أن يضاف إليه حرف واحد، أو أن ينتقص منه حرف واحد، وسوف يبقى محفوظًا كذلك إلى أن يرث الله -تعالى- الأرض ومن عليها.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والصلاة والسلام على النبي الخاتم الذي تلقاه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.