يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه: ".. وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوَهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيما*" ( الاحزاب:5،4). و(الادعياء) جمع( الدعي)، وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه وليس بإبنه، و(التبني) كان شائعا في الجاهلية نتيجة للسبي حيث كان يسبي الأطفال والفتيان فيمن كان يسبي أثناء الحروب والغارات التي كانت تشنها القبائل العربية ضد بعضها البعض. وكان الرجل من القبيلة التي سبت يعجبه أحد هؤلاء السبايا، فيأخذه ويعطيه اسمه ونسبه، فكان يعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه وأدخله في أسرته، وأعطاه كل حقوق البنوة وواجباتها، ومنها حرمة تزوجه بمطلقة من تبناه، كما تحرم مطلقة الابن الحقيقي علي أبيه، فأبطل الله ـ تعالي ـ حكم التبني، كما أبطل حكم الظهار. "ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ" أي أن كلا من الظهار والتبني هو مجرد قول باللسان لا حقيقة له، ولا علاقة له بالواقع فلا يترتب عليه أي حكم. "وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ " أي ينبئكم ربكم بالقول الثابت المحقق الذي لايخالطه شيء من الباطل أبدا، "وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ" أي أن بيان الله ـ تعالي ـ يرشد الي سبيل الحق والي طريق الصواب والنجاة، وذلك لأن من الحق قيام العلاقات الأسرية علي ما شرعه الله ـ تعالي ـ من روابط النسب والدم، لا علي أساس من الأهواء البشرية. و" ادْعُوَهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ..." أي: انسبوا هؤلاء الأولاد الي آبائهم الحقيقيين، لأن ذلك هو أعدل عنه الله. فإن لم تعلموا آباءهم الذين جاءوا من أصلابهم، فهم إخوانكم في الدين ومواليكم. و(الموالي) جمع( مولي) من الولاية، و(المولي) هو الإنسان الذي يربطه بغيره حقوق متبادلة، واللفظة( مواليكم) تعني إخوانكم في الدين، ولا إثم عليكم حين نسبتم هؤلاء الأطفال والغلمان الذين تبنيتموهم وأعطيتموهم أسماءكم خطأ منكم، ولم تدعوهم الي آبائهم الأصليين، ولكن الإثم فيما قصدته قلوبكم عمدا بعد أن تبين لكم الأمر. والله يغفر لكم خطأكم، ويقبل توبة الذين تعمدوا التبني منكم إذا تابوا بصدق توبة نصوحا، وقاموا بتصحيح الأخطاء التي وقعوا فيها بتبني أبناء غيرهم ونسبتهم إليهم بغير حق. وعندما جاء الإسلام أبطل( التبني) وجعله محرما لأن فيه نسبة الولد الي غير أبيه، وما يستتبعه ذلك من اختلاط للأنساب، واطلاع علي عورات غير المحارم، واحتمال الوقوع في زواج محرم، وإرث من لاحق له في إرثه، ولذلك اعتبره الاسلام من الكبائر التي توجب السخط والغضب من الله ـ تعالي ـ علي فاعله، وفي ذلك يروي عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أقواله الشريفة التالية: (1) "من ادعي الي غير أبيه، أو انتمي الي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله منه صرفا ولا عدلا" ( أخرجه كل من الإمامين البخاري ومسلم). والصرف هو التوبة، والعدل هو الفدية، بمعني ان الله ـ تعالي ـ لايقبل ممن يقوم بالتبني توبة ولا فداء. (2) "ليس من رجل ادعي لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر" ( الإمامان البخاري ومسلم). (3) "من ادعي الي غير أبيه ـ وهو يعلم أنه غير أبيه ـ فالجنة عليه حرام" ( الامامان البخاري ومسلم). وواضح في كل من الآيتين القرآنيتين الكريمتين(5،4) من سورة الأحزاب، ومن الأحاديث الشريفة حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، أما نداء الصغير بتعبير الإبن من قبيل الشفقة والتودد والتكريم فلا علاقة له بموضوع التبني لا من قريب ولا من بعيد، وبالمثل فإن دعوة الكبير بنداء الأب من قبيل الاحترام والتوقير والتبجيل فلا علاقة لذلك بقضية التبني علي الإطلاق، وثابت أن المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ نادي أنسا قائلا يا بني. وعلي ذلك فإن قول ربنا ـ تبارك وتعالي: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيما*" ( الأحزاب:5). يفهم منه أنه بعد الأجتهاد في رد الأنساب الي أصولها، فليس علي المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها الي النسب الصحيح. كذلك ليس عليهم جناح في كل ماسبق إليه اللسان إما علي سبيل الخطأ، أو علي سبيل التحنن والشفقة من الكبير للصغير، أو من سبيل التوقير والتبجيل من الصغير للكبير كما سبق وأن وضحنا. أما( الاستلحاق) بمعني إلحاق الولد بأبيه فإنه ليس من التبني المحرم، ولذلك أباحه الإسلام، لأن من شروط ( الاستلحاق) أن يعلم المستلحق بكسر الحاء أن( المستلحق) بفتح الحاء هو ابنه، وذلك بشهادة الأم، وتحليل الحمض النووي، وبغير ذلك من الوسائل العلمية، من هنا شرع الإسلام استلحاقه، وأثبت نسبه لأبيه بشروط فصلتها كتب الفقه. والإسلام يبيح تسمية من لايعرف أبوه بعدد من الأسماء العامة من مثل فلان ابن عبدالله، كما يبيح نداءه بنداء: يا أخي، أو يا مولاي بقصد الأخوة في الدين، والولاية فيه، ولا علاقة لذلك بأخوة النسب وقرابته، هذا إذا كان المنادي ملتزما بتعاليم الإسلام، أما اذا كان غير ذلك فإنه لايجوز نداؤه بنداء الأخوة أو الولاية لأن المسلم منهي عن التودد الي الكافر المعلن كفره، أو الي المشرك المجاهر بشركه، أو الي الفاسق المجاهر بفسقه، أو المنافق المعروف بنفاقة، وذلك انطلاقا من قول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: " لا تقولوا للمنافق يا سيد، فإنه إن يك سيدا فقد أغضبتم ربكم" ونظرا للفوضي في علاقات الأسر في زمن الجاهلية، ولانتشار الفوضي الجنسية في ظل الحضارة المادية السائدة في زماننا، والتي تخطط للقضاء علي نظام الأسرة في بناء المجتمعات الإنسانية، ومحاولة التشريع لذلك من خلال الأمم المتحدة تحت عدد من المسميات الخادعة من مثل اتفاقية القضاء علي جميع أشكال التمييز ضد المرأة، في محاولة لإعطاء الفوضي الجنسية شرعية ملزمة يرفضها دين الله رفضا تاما، فإن الإسلام يحرص علي صون الأعراض وعلي نسبة الأبناء إلي آبائهم الحقيقيين ولذلك ألغي التبني، وعظم العقوبة علي جريمة الزنا، وحض علي رعاية وكفالة الأيتام. ففي زمن الجاهلية واجه الإسلام العظيم أمثال هذه الفوضي بضوابط إقامة الأسرة علي أساس مما شرعه الله لها وهو ما يمكننا تطبيقه اليوم فقرر مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية، وهذا المكان أقامة الإسلام علي أساس من الأخوة والموالاة في الدين، وكان ذلك في حالة الأدعياء الذين لم يمكن الأهتداء إلي معرفة آبائهم الحقيقيين وفي ذلك قال ـ تعالي ـ:" فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ"، وهي علاقة إنسانية لا يترتب عليها أي التزامات شرعية محددة كالتزام التوارث، والتكافل في دفع الديات، وهي التزامات يحتمها النسب بالدم والعرق، وكانت تلتزم كذلك في حالة التبني. والتعبير القرآني( فإن لم تعلموا آباءهم...) يجسد حقيقة الفوضي التي تسود المجتمعات الإنسانية في غيبة تحكيم شرع الله. من هذا العرض تتضح حكمة التشريع الإلهي بتحريم التبني لما فيه من اختلاط للأنساب، ومن إمكانية الإطلاع علي عورات غير المحارم، أو الزواج بالمحرمات، وإرث من لا حق له بإرثه. وكانت بدعة( التبني) قد تفشت في عصور الجاهلية واستمرت إلي اليوم في غالبية المجتمعات غير المسلمة، كما لا يزال عدد من المسلمين يقعون فيها عن جهل بأصول الدين. ولكي يبطل الإسلام تلك الممارسات الخاطئة ألهم ربنا ـ تبارك وتعالي ـ خاتم أنبيائه ورسله ـ قبل بعثته الشريفة ـ أن يتبني أحد السبايا، ثم يلغي بنوته بعد البعثة حتي يصبح ذلك تشريعا للأمة الإسلامية كلها إلي يوم الدين. وفي ذلك يروي عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: إن زيد بن حارثة مولي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم. ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتي نزل القرآن بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: " ادْعُوَهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ..." فقال النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ" أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل". ( البخاري، مسلم، الترمذي، النسائي). وتتلخص قصة تبني رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ لزيد في أن زيدا كان طفلا صغيرا مع أمه عند أخواله من بني طي، فأغارت عليهم إحدي قبائل العرب فسلبتهم أموالهم وذراريهم، وكان زيد من ضمن من سبي في تلك الغارة، فقدم به الذين سبوه إلي مكة وباعوه في إحدي أسواقها إلي حكيم بن خزام الذي اشتراه لعمته السيدة خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ فلما تزوجها رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهبت له زيدا الذي بقي في خدمته لعدد من السنين. وكان والد زيد( حارثة بن شرحبيل) متعلقا بابنه تعلقا شديدا، وكان دائم البكاء عليه والسؤال عن مصيره بعد سبيه حتي علم بوجوده في مكة، فقدم اليها مع شقيق له ثم بالسؤال علما أن زيدا عند محمد بن عبدالله، فاستأذنا بالدخول عليه، ولما أذن لهما قال له حارثة: يا محمد: إنكم أهل بيت الله، تكفون العاني، وتطعمون الأسير، وقد علمت بأن ابني عندك فأمنن علينا فيه، وأحسن إلينا في قبول فدائه، فإنك ابن سيد قومك، ولك ما أحببت من المال في فدائه!!! فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ اعطيكم خيرا من ذلك، قالوا ما هو؟ قال: أخيره أمامكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضي علي من اختارني فداء، فقالوا: أحسنت، وجزاك الله خيرا. فدعا رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ زيدا وقال له: أتعرف هؤلاء؟ قال نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال يا زيد: هذا أبوك، وهذا عمك، وأنا من عرفت، فاختر من شئت منا، فدمعت عينا زيد وهو يقول: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت مني بمنزلة الوالد والعم، فقال له أبوه وعمه: ويحك يا زيد، اتختار العبودية علي الحرية؟ فقال زيد: لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان ما يجعلني لا أستطيع فراقه، وما أنا بمختار عليه أحدا أبدا، فأعتقه محمد بن عبدالله وتبناه، ثم خرج إلي الناس قائلا: أشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني، فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد علي من تبناه، وكان من أكرم الناس معه. فلم يزل زيد، يدعي في الجاهلية بأسم زيد بن( محمد) حتي نزل قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: " ادْعُوَهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ..."، فدعي( زيد ابن حارثة) ونزل قوله ـ تعالي ـ: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً" ( الأحزاب:40). وبعد نزول الوحي كان زيد بن حارثة أول من آمن برسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من الموالي. ولمزيد من التأكيد علي إلغاء التبني إلغاء كاملا، جاء في ختام سورة الأحزاب موقف آخر يدعم ذلك التأكيد. ويتلخص هذا الموقف في السماح للرجل بالزواج من مطلقة ابنه المتبني، وكانت العرب تحرم هذا الزواج كحرمته من مطلقة الابن من النسب. لذلك انتدب الله ـ تعالي ـ خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في حمل مسئولية تلك الإباحة. وتروي لنا كتب السيرة أن رسول الله كان قد زوج مولاه زيد بن حارثة من إحدي كبريات أشراف قريش وهي السيدة زينب بنت جحش ابنة عمته، وذلك من أجل تحطيم الفوارق الطبقية الموروثة في المجتمع العربي. ثم شاءت إرادة الله أن ينتهي هذا الزواج بالطلاق، بعد مراجعة زيد لرسول الله في هذا الأمر عدة مرات والرسول ينصحه بالتمسك بزوجه، علي الرغم من أن الله ـ تعالي ـ كان قد أخبره بحتمية وقوع هذا الطلاق وأن الله ـ تعالي سوف يزوجه بزينب. وبالفعل تم الطلاق وتم زواج الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ من زينب بنت جحش مطلقة مولاه زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه قبل بعثته الشريفة ليكون في ذلك: أولا التعويض لأم المؤمنين السيدة زينب بزواجها من رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بعد أن رضخت لأمره بتزويجها من مولي من مواليه، وثانيا: التشريع بإباحة الزواج من مطلقات الأدعياء، وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ : "فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً" ( الأحزاب:37).