(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلً) [الإسراء: 12]
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
في هذه الآية الكريمة يذكرنا ربنا -تبارك وتعالى- بأنه قد جعل الليل والنهار آيتين من آياته الكونية الباهرة التي تدل على طلاقة قدرته، وبالغ حكمته، وبديع صنعه في خلقه، فاختلاف هيئة كلٍّ من الليل والنهار في الظلمة والنور، وتعاقبهما على وتيرة رتيبة منتظمة ليدل دلالة قاطعة على أن لهما خالقًا قادرًا عليمًا حكيمًا.
والآية في اللغة: العلامة، والجمع آي، وآيات. والآية من كتاب الله: جماعة حروف تُكوِّن كلمة أو مجموعة كلمات تُبنى منها الآية لتحمل دلالة معينة.
آراء المفسرين:
يذكر عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة أن الله -تعالى- قد جعل من صفات الليل أنه مظلم، كما جعل من صفات النهار أنه منير، وربما كان ذلك هو آية كلٍّ منهما، وهذا الفهم دفع ببعض المفسرين إلى القول بأن من معاني قوله -تعالى-: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ..." أي جعلنا الليل -وهو آية من آيات الله- مظلما، وجعلنا من صفاته تلك الظلمة، وأن من معاني قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً" أي جعلنا الآية -التي هي النهار- منيرة تعين على الإبصار فيها، من نحو قول العرب: أبصر النهار إذا أنار وصار بحالة يبصر فيها، ولكن المقابلة بين محو آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة ربما تتحمل من المعاني ما هو فوق ذلك مما يحتاج إلى توظيف العديد من الحقائق العلمية الحديثة؛ من أجل حسن فهم دلالة تلك المقابلة.
فواضح نص الآية الكريمة أن الله -تعالى- قد محا آية الليل، وأبقى آية النهار مبصرة؛ لكي يتيح الفرصة للخلق لابتغاء الفضل منه، والسعي على كسب الرزق أثناء النهار، وللخلود إلى السكينة والراحة بالليل، وأن في هذا التبادل بين الليل المظلم والنهار المنير وسيلة ميسرة لتحديد الزمن، ولتأريخ الأحداث، فبدون ذلك التتابع الرتيب لليل والنهار يتلاشى إحساس الإنسان بمرور الزمن، وتتوقف قدرته على متابعة الأحداث والتأريخ لها؛ ولذلك يمن علينا ربنا -تبارك وتعالى- في ختام هذه الآية الكريمة بأنه قد فصل لنا كل شيء في وحيه الخاتم -القرآن الكريم- الذي ليس من بعده وحي من الله، وليست من بعده أية رسالة ربانية؛ ولذلك جاء ذلك التفصيل الإلهي تفصيلًا دقيقًا واضحًا لكل أمر من أمور الدين الذي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيه أية ضوابط صحيحة.
آيتا الليل والنهار:
الليل والنهار آيتان كونيتان عظيمتان من آيات الله في الخلق، تشهدان بدقة بناء الكون، وانتظام حركة كل جرم فيه، وإحكام السنن الضابطة له، ومنها تلك السنن الحاكمة لحركات كلٍّ من الأرض والشمس، والتي تتضح بجلاء في التبادل المنتظم للفصول المناخية، والتعاقب الرتيب لليل والنهار، وما يصاحب ذلك كله من دقة وإحكام بالغَيْن.
فنحن نعلم اليوم أن التبادل بين الليل المظلم والنهار المنير هو من الضرورات اللازمة للحياة على الأرض، ولاستمرارية وجود تلك الحياة بصورها المختلفة، حتى يرث الله -تعالى-الأرض ومن عليها.
فبهذا التبادل بين الظلام والنور يتم التحكم في درجات الحرارة والرطوبة، وكميات الضوء اللازمة للحياة في مختلف بيئاتها الأرضية، كما يتم التحكم في العديد من الأنشطة والعمليات الحياتية، مثل التنفس، والنتح، والتمثيل الضوئي، والأيض، وغيرها، ويتم ضبط التركيب الكيميائي للغلاف الغازي المحيط بالأرض، وضبط صفاته الطبيعية، وتتم دورة المياه بين الأرض والسماء، والتي لولاها لفسد كل ماء الأرض، كما يتم ضبط حركات كلٍّ من الأمواج المختلفة في البحار والمد والجزر، والرياح والسحاب، ونزول المطر بإذن الله، ويتم تفتيت الصخور، وتكون التربة بمختلف أنواعها -ومنها الصالحة للإنبات، وغير الصالحة- وترسب الصخور -ومنها القادرة على خزن كل من الماء والنفط والغاز ومنها غير القادرة على ذلك- وتركيز مختلف الثروات الأرضية، وغير ذلك من العمليات والظواهر التي بدونها لا يمكن للأرض أن تكون صالحة للحياة.
وتعاقب الليل والنهار على نصفي الأرض هو ضروريكذلك؛ لأن جميع صور الحياة الأرضية لا تتحمل مواصلة العمل دون راحة وإلا هلكت، فالإنسان والحيوان والنبات، وغير ذلك من أنماط الحياة البسيطة يحتاج إلى الراحة بالليل لاستعادة النشاط بالنهار، أو عكس ذلك بالنسبة لأنماط الحياة الليلية، فالإنسان -على سبيل المثال- يحتاج إلى أن يسكن بالليل فيخلد إلى شيء من الراحة والعبادة والنوم، مما يعينه على استعادة نشاطه البدني والذهني والروحي، وعلى استرجاع راحته النفسية، واستجماع قواه البدنية؛ حتى يتهيأ للعمل في النهار التالي، وما يتطلبه ذلك من قيام بواجبات الاستخلاف في الأرض.
وقد ثبت بالتجارب العملية والدراسات المختبرية أن أفضل نوم الإنسان هو نومه بالليل، خاصة في ساعات الليل الأولى، وأن إطالة النوم بالنهار ضار بصحته؛ لأنه يؤثر على نشاط الدورة الدموية تأثيرًا سلبيًّا، ويؤدي إلى شيء من التيبس في العضلات، والتراكم للدهون على مختلف أجزاء الجسم، وإلى زيادة في الوزن، كما يؤدي إلى شيء من التوتر النفسي والقلق، وربما كان مرد ذلك إلى الحقيقة القرآنية التي مؤداها أن الله -تعالى- قد جعل الليل لباسًا، وجعل النهار معاشا، وإلى الحقيقة الكونية التي مؤداها أن الانكماش الملحوظ في سُمك طبقات الحماية في الغلاف الغازي للأرض ليلا، وتمددها نهارًا، يؤدي إلى زيادة قدراتها على حماية الحياة الأرضية بالنهار عنها في الليل، حين ترق طبقات الحماية الجوية تلك رقة شديدة قد تسمح لعدد من الأشعة الكونية بالنفاذ إلى الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وهي أشعة مهلكة مدمرة لمن يتعرض لها لمدد كافية، ومن هنا كان ذلك الأمر القرآني بالاستخفاء في الليل والظهور في النهار، ومن هنا أيضًا كان أمره إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- أن يستعيذ بالله -تعالى- من شر الليل إذا دخل بظلامه، وأن يلتجئ إلى الله، ويعتصم بجنابه من أخطار ذلك، فقال -عز من قائل-: (وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) [الفلق:3]، فهذا الشر ليس مقصورًا على الظلمة وما يمكن أن يتعرض فيها المرء إلى مخاطر البشر فحسب، بل قد يمتد إلى مخاطر الكون التي لا يعلمها إلا الله تعالى.
ثم إن هذا التبادل في اليوم الواحد بين ليل مظلم ونهار منير، يعين الإنسان على إدراك حركة الزمن، وتأريخ الأحداث، وتحديد الأوقات بدقة وانضباط ضروريين للقيام بمختلف الأعمال، ولأداء جميع العبادات، وللوفاء بمختلف العهود والحقوق والمعاملات، وغير ذلك من الأنشطة الإنسانية، فلو كان الزمن كله على نسق واحد من ليل أو نهار، ما استقامت الحياة، وما استطاع الإنسان أن يميز من حياته ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلا، وبالتالي لتوقفت الحياة؛ ولذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى- في ختام الآية : (لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [الإسراء:12].
ولذلك أيضًا يمن علينا ربنا -وهو تعالى صاحب الفضل والمنة- بتبادل الليل والنهار في العديد من آيات القرآن الكريم، ومع إيماننا بذلك، وتسليمنا به يبرز التساؤل في الآية الكريمة التي نحن بصددها [رقم12 من سورة الإسراء] عن مدلول آيتي الليل والنهار، وعن كيفية محو آية الليل وإبقاء آية النهار مبصرة.
محو آية الليل وإبقاء آية النهار مبصرة عند المفسرين:
في شرح معنى هذه الآية الكريمة ذكر نفر من المفسرين أن آيتي الليل والنهار نَيِّراهما، فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وإذا كان الأمر كذلك فكيف مُحيت آية الليل، والقمر لا يزال قائمًا بدورانه حول الأرض ينير ليلها كلما ظهر، فقد رُوِي عن عبد الله بن عباس -رضي الله تبارك وتعالى عنهما- أنه قال: "كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار"، وعلى ذلك فمعنى قول الحق -تبارك وتعالى-:(فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) هو السواد الذي في القمر -أي انطفاء جذوته- وأضاف: أن مدلول(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) أي ليلًا ونهارا، وكذلك خلقهم الله عز وجل.
وتبع ابن عباس في ذلك قتادة -يرحمه الله- الذي قال: كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه، وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم. وفي الكلام إشارة دقيقة إلى الفارق الذي حدده القرآن الكريم في آيات عديدة بين ضوء الشمس ونور القمر، والذي لم يدركه العلماء إلا متأخرًا، بأن الأول ينطلق من نجم ملتهب، شديد الحرارة، مضيء بذاته، بينما الثاني ينتج عن انعكاس أشعة الشمس على سطح القمر البارد المعتم.
وقال نفر آخر من المفسرين: إن آية الليل هي ظلمته، كما أن آية النهار هي نوره ووضاءته، فالله -تعالى- جعل من الظلام آية لليل، كما جعل من النور آية للنهار، فيُعرف كلٌّ منهما بآيته، أي بعلامته الدالة عليه، ومن هؤلاء المفسرين ابن جريج -يرحمه الله- الذي نقل عن عبد الله بن كثير -رحمة الله عليه- قوله: آيتا الليل والنهار هما ظلمة الليل، وسرف النهار.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف يستقيم هذا الفهم مع قول الحق -تبارك وتعالى-: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ)[الإسراء:12]وظلمة الليل باقية مع بقاء نور النهار؟ وإذا كانت آية الليل هي ظلمته، فكيف مُحيت تلك الظلمة وهي لاتزال باقية؟
وعلى الرغم من هذا التعارض فقد أيد عدد من المفسرين المعاصرين هذا الفهم بصورة أو أخرى، ومنهم صاحب الظلال -يرحمه الله- الذي كتب ما نصه:"والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة، ولا يدركه التعطل مرة واحدة، ولا يني يعمل دائبًا بالليل والنهار، فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار؟ يبدو -والله أعلم- أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفى فيها الأشياء، وتسكن فيها الحركات والأشباح، فكأن الليل محو إذا قيس إلى ضوء النهار، وحركة الأحياء فيه والأشياء، وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء -بالنور- الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار. (انتهى قول المفسر).
من هذا الاستعراض يتضح اختلاف آراء المفسرين -قدامى ومعاصرين- في اجتهادهم لفهم دلالة الآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها [الآية الثانية عشرة من سورة الإسراء]؛ فمنهم من قال بأن آية النهار هي نوره الوضَّاء، أو هي الشمس مصدر ذلك الضياء، بينما آية الليل هي ظلمته، أو هي القمر المتميز بظلمة سطحه الذي لا ينير إلا بسقوط أشعة الشمس عليه، وانعكاسها من ذلك السطح المعتم المظلم، وقد دفع ذلك ببعض المفسرين إلى القول باحتمال كون القمر في بدء خلقه ملتهبا، شديد الحرارة، مشتعلا، مضيئًا بذاته تمامًا كالشمس، ثم انطفأت جذوته وخبت، فمُحي ضوءه الأصلي، ولم يعد له نور إلا ما يسقط على سطحه من أشعة الشمس، وهذا الاحتمال لا تدعمه الملاحظات العلمية الدقيقة في صفحة الكون، وفي تاريخ الأرض القديم، فكتلة القمر المقدرة بحوالي 735 مليون مليون مليون طن، البالغة حوالي80/1 من كتلة الأرض لا تمكنه من أن يكون نجمًا ملتهبًا بذاته، فالحد الأدنى لكتلة الجرم السماوي كي يكون نجمًا لا تقل عن 8% من كتلة الشمس المقدرة بألفي مليون مليون مليون مليون طن، أي لا يجوز للنجم أن تقل كتلته عن 160 مليون مليون مليون مليون طن، وهو أكثر من مائتي ضعف كتلة القمر، ولو افترضنا جدلًا إمكانية أن يكون القمر نجمًا لأحرق لهيبه الأرض لقربه منها -380000 كيلومتر في المتوسط- ولأدى إلى خلخلة غلافها الغازي، وإلى تبخير مياهها، وإلى تركها جرداء قاحلة لا أثر للحياة فيها على الإطلاق.
إضاءة السماء في ظلمة الليل كانت آية الليل، ومحوها هو حجبها عنا:
على الرغم من الظلام الشامل للكون، والذي لم يدركه الإنسان إلا بعد ريادة الفضاء منذ مطلع الستينات من القرن العشرين، وعلى الرغم من محدودية الحزام الرقيق الذي يُرى فيه نور النهار بسمك لا يتعدى المائتي كيلومتر فوق مستوى سطح البحر في نصف الكرة الأرضية المواجهة للشمس، حتى أن الإنسان في انطلاقه من الأرض إلى فسحة الكون في أثناء النهار فإنه يُفاجأ بتلك الظلمة الكونية الشاملة التي يرى فيها الشمس قرصًا أزرق في صفحة حالكة السواد، لا يقطع من شدة سوادها إلا أعداد من النقاط المتناثرة، الباهتة الضوء التي تحدد مواقع النجوم.
على الرغم من كل ذلك فإن العلماء قد لاحظوا في سماء الأرض عددًا من الظواهر المنيرة في ظلمة الليل الحالك نعرف منها:
(1)ظاهرة توهج الهواء في طبقات الجو العليا(Air glowen the upper atmosphere):
وهي عبارة عن نور باهت متغير ينتج عن عدد من التفاعلات الكيميائية في نطاق التأين (Ionosphere)المحيط بالأرض من ارتفاع 90 إلى1000 كيلومتر فوق مستوى سطح البحر، وهو نطاق مشحون بالإلكترونات، مما يساعد على رجع الموجات الراديوية إلى الأرض.
(2) ظاهرة أنوار مناطق البروج(Zodiacal Lights):
وتظهر على هيئة مخروط من النور الباهت الرقيق الذي يُرى في جهة الغرب بمجرد غروب الشمس، كما يُرى في جهة الشرق قبل طلوعها بقليل، وتُفسَّر تلك الأنوار بانعكاس وتَشتُّت ضوء الشمس غير المباشر على بعض الأجرام الكونية التي تعترض سبيله في أثناء تحركها متباعدة عن الأرض أو مقتربة منها.
(3) ظاهرة أضواء النجومStellar Lights) ):
وتصدر من النجوم في مواقعها المختلفة، ثم تتشتت في المسافات الفاصلة بينها حتى تصل إلى غلاف الأرض الغازي.
(4) ظاهرة أضواء المجرات (Galactic Lights):
وتصدر من نجوم مجرة من المجرات القريبة منا، والتي تتشتت أضواؤها في داخل المجرة الواحدة، ثم يعاد تشتتها في المسافات الفاصلة بين المجرات حتى تصل إلى الغلاف الغازي المحيط بالأرض.
(5) ظاهرة الفجر القطبي وأطيافه (Aurora and Aurora spectra):
وتعرف هذه الظاهرة أيضا باسم الأضواء القطبية (PolarLights)، أو باسم فجر الليل القطبي (Polar Nights Dawn)، وهي ظاهرة نورانية تُرى بالليل في سماء كلٍّ من المناطق القطبية وحول القطبية (Polar and Sub-polarRegions)، وتتركز أساسًا في المنطقتين الواقعتين بين كلٍّ من قطبي الأرض المغناطيسيتين، وخطي العرض المغناطيسيين 67 درجة شمالًا،67 درجة جنوبًا، وقد تمتد أحيانًا لتشمل مساحات أوسع من ذلك.
وتبدو ظاهرة الفجر القطبي عادة على هيئة أنوار زاهية متألقة جميلة، تختلف باختلاف الارتفاع الذي تُرى عنده (ويغلب عليها اللون الأخضر والأحمر والأبيض المشوب بزرقة، والبنفسجي، والبرتقالي)، وهي تتوهج وتخبو -أي تزداد شدة ولمعانًا ثم تهدأ- بطريقة دورية كل عدة ثوان (قد تمتد إلى عدة دقائق)، وتتباين ألوان الشفق القطبي في أجزائه المختلفة تباينًا كبيرًا، وإن تناقصت شدة نورها إلى أعلى بصفة عامة، حيث تتدلى تلك الأنوار من السماء إلى مستوى قد يصل إلى80 كيلومترًا فوق مستوى سطح البحر، وتمتد أفقيًّا إلى مئات الكيلومترات لتملأ مساحات شاسعة في صفحة السماء، على هيئة هالات حلقية أو قوسية متموجة، تُكوِّن عددًا من الستائر النورانية المطوية المتدلية من السماء، والتي يشبه نورها النور المصاحب لبزوغ الفجر الحقيقي.
ويفسر العلماء حدوث ظاهرة الفجر القطبي بارتطام الأشعة الكونية الأولية بالغلاف الغازي للأرض، مما يؤدي إلى تأينه -أي شحنه بالكهرباء- وإصدار أشعة كونية ثانوية، ثم تصادم الأشعة الكونية -وهي تحمل شحنات كهربية مختلفة- مع بعضها البعض، ومع غيرها من الشحنات الكهربية الموجودة في الغلاف الغازي للأرض، مما يؤدي إلى تفريغها وتوهجها، وتكثر الشحنات الكهربائية في الغلاف الغازي للأرض في كل من أحزمة الإشعاعRadiation)(Beltsالمعروفة باسم أحزمة فان ألن (Van Allens Belts)، والموجودة في داخل نطق التأين المحيطة بالأرض (Ionosphere Zones) وفي نطق التأين ذاتها، والأشعة الكونية الأولية (Primary Cosmic Rays) تملأ فسحة الكون على هيئة الجسيمات الأولية المكونة للذرات(Elementary or subatomic particles)، وهي جسيمات متناهية في الدقة، ومشحونة بشحنات كهربائية عالية، وتتحرك بسرعات تقترب من سرعة الضوء، وتنطلق الأشعة الكونية الأولية من الشمس، وإن كان أغلبها يصلنا من خارج المجموعة الشمسية، ولم تكتشف تلك الأشعة الكونية إلا في سنة1936م.
وتتسرب الأشعة الكونية الأولية إلى الأرض عبر قطبيها المغناطيسيين لتصل إلى أحزمة الإشعاع ونطق التأين في الغلاف الغازي للأرض، مما يؤدي إلى تكون الأشعة الكونية الثانوية
(Secondary cosmic rays)، التي قد يصل بعضها إلى سطح الأرض فيخترق صخورها، أما الأشعة الكونية الأولية فلا يكاد يصل منها إلى سطح الأرض قدر يمكن قياسه.
والأشعة الكونية بأنواعها المختلفة تتحرك بمحاذاة خطوط المجال المغناطيسي للأرض، والتي تنحني لتصب في قطبي الأرض المغناطيسيين ساحبة معها موجات الأشعة الكونية؛ وذلك لعجزها عن عبور مجال الأرض المغناطيسي، وحينما تنفذ تلك الأشعة من قطبي الأرض المغناطيسيين فإنها تؤدي إلى زيادة تأين الغلاف الغازي للأرض في منطقتي قطبيها المغناطيسيين، ويؤدي اصطدام الشحنات المختلفة إلى تفريغها من شحناتها الكهربائية، ومن ثم إلى توهج الغلاف الغازي للأرض في كلٍّ من المنطقتين القطبيتين، في ظاهرة تعرف بظاهرة الوهج القطبي، أو الشفق القطبي، أو الأضواء القطبية، أو فجر الليل القطبي، وهي ظاهرة تُرى بوضوح في ظلمة الليل الحالك حول القطبين المغناطيسيين للأرض، خاصة في أوقات الثورات الشمسية العنيفة، حين يتزايد اندفاع الأشعة الكونية الأولية من الشمس، فتصل كميات مضاعفة منها في اتجاه الأرض.
ويتزايد الإشعاع في الطبقات العليا من الغلاف الغازي للأرض إلى نسب مهلكة مدمرة، خاصة في نطق التأين التي تحتوي على تركيز عال من البروتونات (الموجبة)، والإليكترونات (السالبة)، ويحتبس المجال المغناطيسي للأرض الغالبية العظمى من تلك الإشعاعات، ويوجهها إلى قطبيها المغناطيسيين في حركة لولبية موازية لخطوط المجال المغناطيسي، والتي تنحني من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي وبالعكس، وعندما يقترب الجسم المشحون بالكهرباء من جسيمات الأشعة الكونية تلك من أحد قطبي الأرض المغناطيسيين فإنه يرده إلى الآخر، وهكذا تحدد خطوط الحقل المغناطيسي للأرض اتجاهات تحرك الأشعة الكونية، وتركزها حول قطبي الأرض المغناطيسيين.
ومن الثابت علميًّا أن نطق الحماية المتعددة الموجودة في الغلاف الغازي للأرض -ومنها نطاق الأوزون، نطق التأين المتعددة، أحزمة الإشعاع، والنطاق المغناطيسي للأرض- لم تكن موجودة في بدء خلق الأرض، ولم تتكون إلا على مراحل متطاولة من بداية خلق الأرض الابتدائية Proto-Earth))، وعلى ذلك فقد كانت الأشعة الكونية وباقي صور النور المتعددة في صفحة الكون تصل بكميات هائلة إلى المستويات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض ككل، فتؤدي إلى إنارتها وتوهجها ليلًا مثل ظاهرة الشفق القطبي، توهج الهواء، أضواء النجوم، أضواء المجرات، وغيرها مما نشاهد اليوم، ولكن بمعدلات أشد وأقوى، وكان هذا التوهج وتلك الإنارة يشملان كل أرجاء الأرض، فتنير ليلها إنارة تقضي على ظلمة الليل.
وبعد تكون نطق الحماية المختلفة للأرض أخذت هذه الظواهر في التضاؤل التدريجي، حتى اقتصرت على بقايا رقيقة جدًّا، وفي مناطق محددة جدًّا، مثل منطقتي قطبي الأرض المغناطيسيين؛ لتبقى شاهدة على حقيقة أن ليل الأرض في المراحل الأولى لخلقها كان يضاء بوهج لايقل في شدته عن نور الفجر الصادق، وشاهدة على رحمة الله بنا أن جعل للأرض هذا العدد الهائل من نطق الحماية المتعددة، والتي بدونها تستحيل الحياة على الأرض، وشاهدة على حاجتنا إلى رحمة الله -تعالى- ورعايته في كل وقت- وفي كل حين من الأخطار المحيطة بنا من كل جانب، وشاهدة على صدق تلك الإشارة القرآنية المعجزة: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)[الإسراء:12].وهي حقيقة لم يدركها العلم المكتسب إلا في السنوات المتأخرة من القرن العشرين، ولم يكن لأحد من البشر إدراك لها وقت تنزل القرآن الكريم، ولا لعدد من القرون بعد ذلك.
وانطلاقًا من هذه الحقيقة يمنُّ علينا ربنا -تبارك وتعالى- بتبادل الليل والنهار فيقول -عز من قائل-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[القصص:71: 73].
وجاء ذكر الليل في القرآن الكريم اثنتين وتسعين (92) مرة؛ منها ثلاثة وسبعون (73) مرة بلفظة (الليل)، ومرة واحدة بلفظة (ليل)، وثماني (8) مرات بلفظة (ليلة)، وخمسة (5) مرات بلفظة (ليلًا)، وثلاث(3) مرات بلفظة (ليال)، ومرة واحدة بكلٍّ من اللفظين (ليلها) و(ليالي).
كذلك ورد ذكر النهار في القرآن الكريم سبعًا وخمسين(57) مرة؛ منها أربعة وخمسون(54) مرة بلفظ (النهار)، وثلاث(3) مرات بلفظ(نهارًا)، كما وردت ألفاظ (الصبح)، و(الإصباح) و(الفلق) ومشتقاتها بمدلول النهار في آيات أخرى كثيرة، كذلك وردت كلمة اليوم أحيانًا بمعنى النهار.
ونعمة الله -تعالى- على أهل الأرض جميعًا بمحو إنارة الليل، وإبقاء إنارة النهار نعمة مابعدها نعمة؛ لأنه لولا ذلك ما استقامت الحياة على الأرض، ولا استطاع الإنسانُ الإحساسَ بالزمن، ولا التأريخ للأحداث بغير تبادل ظلام الليل مع نور النهار، ولتلاشت الحياة، ومن هنا جاءت إشارة القرآن الكريم إلى تلك الحقيقة سبقًا لكافة المعارف الإنسانية.
وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته، وعلى أن هذا النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- كان موصولًا بالوحي، ومعلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض، وأنه -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-"وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" كما وصفه ربنا تبارك وتعالى.
وإذا كان صدق القرآن الكريم جليًّا في إشاراته إلى بعض أشياء الكون وظواهره، فلابد أن يكون صدقه في رسالته الأساسية وهي الدين بركائزه الأربع: العقيدة، والعبادة، والأخلاق والمعاملات جليًّا كذلك.
وهنا يتضح جانب من جوانب الإعجاز في كتاب الله، وما أكثر جوانبه المعجزة! هو الإعجاز العلمي، وهو خطاب العصر ومنطقه، وما أحوج الأمة الإسلامية، بل ما أحوج الإنسانية كلها إلى هذا الخطاب في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه، وزمن العولمة الذي تحاول فيه القوى الكبرى -على ضلالها- فرض قيمها الدينية والأخلاقية والاجتماعية المنهارة على دول العالم الثالث -وفي زمرتها الدول الإسلامية- بحد غلبتها العلمية والتقنية، وهيمنتها الاقتصادية والعسكرية!
وقد عانت الدول الغربية ذاتها –ولا تزال- من الإغراق المادي الذي دمر مجتمعاتها، وأدى إلى تحللها الأسري والاجتماعي والأخلاقي والسلوكي والديني، وإلى ارتفاع معدلات الجريمة، والإدمان، والانتحار، وإلى الحيود عن كل قوانين الفطرة السوية التي فطر الله خلقه عليها، وإلى العديد من المشاكل، والأزمات النفسية، والمظالم الاجتماعية والسياسية على المستويين المحلي والدولي.
وما أحوج علماء المسلمين إلى إدراك قيمة الآيات الكونية في كتاب الله، فيقبلوا عليها تحقيقًا علميًّا منهجيًّا دقيقًا بعد فهم عميق لدلالة اللغة وضوابطها وقواعدها، ولأساليب التعبير فيها، وفهم لأسباب النزول، ومعرفة بالمأثور من تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجهود السابقين من المفسرين، ثم تقديم ذلك الإعجاز العلمي إلى الناس كافة -مسلمين وغير مسلمين- مما يعد دليلًا ماديًّا ملموسًا على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وعلى أن سيدنا ونبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم أنبيائه ورسله، في غير تكلف ولا اعتساف؛ لأن القرآن الكريم غني عن ذلك، وهو أعز علينا وأكرم من أن نتكلف له.
وهذا المنهج في الاهتمام بالآيات الكونية في كتاب الله، وشرح الإشارات العلمية فيها من قِبل المتخصصين -كلٌّ في حقل تخصصه- هو من أكثر وسائل الدعوة إلى دين الله قبولًا في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه.