news-details
الإعجاز والكون

(... يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ...) [الزمر: 5]

(... يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ...) [الزمر: 5]

من أسرار القرآن

مقالات جريدة الأهرام المصرية

بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار

       جاءت هذه الآية الكريمة في مقدمة سورة "الزمر"،‏ والتي سميت بهذا الاسم لحديثها عن زمر المتقين‏ السعداء‏،‏ المكرمين من أهل الجنة،‏ وزمر العصاة‏‏ الأشقياء، المهانين من أهل النار،‏ وحال كلٍّ منهم في يوم الحساب.‏
       وسورة "الزمر" مكية، شأنها شأن كل السور المكية، التي يدور محورها الرئيس حول قضية العقيدة؛ ولذلك فهي تركز على عقيدة التوحيد الخالص لله،‏ بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع‏.‏
       واستهلت السورة بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله ربنا‏ -‏تبارك وتعالى‏- بالحق على خاتم الأنبياء والمرسلين‏ -‏صلى الله عليه وسلم‏- هداية للناس كافة،‏ وإنذارًا من رب العالمين،‏ وجعله معجزة خالدة إلى يوم الدين،‏ وملأه بالأنوار الإلهية،‏ والإشراقات النورانية،‏ التي منها الأمر إلى رسول الله -‏صلى الله عليه وسلم‏-‏ وإلى الناس كافة‏ -بالتبعية لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم‏- بإخلاص الدين لله،‏ وتنزيهه‏ -جل في علاه‏- عن الشبيه والشريك والولد‏.‏
       وذكرت السورة عددًا هائلًا من الأدلة المادية الملموسة، التي تشهد للخالق -سبحانه وتعالى- بطلاقة القدرة،‏ وببديع الصنعة،‏ وبإحكام الخلق،‏ وبالتالي تشهد له‏ -‏سبحانه‏-‏ بالألوهية،‏ والربوبية،‏ والوحدانية،‏ والتنزيه عن كل وصف لا يليق بجلاله؛‏ ومن هذه الأدلة المادية‏:‏ خلق السماوات والأرض بالحق،‏ وخلق كل شيء حسب مايشاء‏،وتكوير الأرض، وتبادل الليل والنهار عليها،‏ وتسخير كلٍّ من الشمس والقمر،‏‏وتسخير كل أجرام السماء‏،وخلق البشر كلهم من نفس واحدة،‏ وخلق زوجها منها، وكذلك الزوجية في كل خلق، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام،‏ ومراحل الجنين التي يمر بها الإنسان، وخلقه في ظلمات ثلاث،‏ وإنزال الماء من السماء وخزن بعضه في صخور الأرض،‏ وإخراج الزرع ودورة حياته،‏ وحتمية الموت على كل مخلوق،‏ وتكافؤ النوم مع الوفاة،‏ وقبض الأرض،‏ وطيِّ السماوات يوم القيامة‏.‏

       وتحدثت السورة الكريمة كذلك عن الإيمان الذي يرتضيه ربنا‏ -‏تبارك وتعالى-‏ من عباده،‏ والكفر الذي لا يرضاه،‏ وعن علم الله -تعالى-‏ بكل ما في الصدور،‏ وقدرته -جل جلاله‏-‏ على محاسبة كل مخلوق بعمله،‏ وتحدثت السورة عن طبائع النفس البشرية في السراء والضراء،‏ وعن الفروق بين كلٍّ من الإيمان والكفر،‏ والكافر والمؤمن في مواقفهما في الدنيا والآخرة،‏ وبين الإغراق في المعاصي والإخلاص في العبادة،‏ وبين كلٍّ من التوحيد والشرك،‏ وبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون،‏ وعن العديد من مشاهد القيامة وأهوالها‏.
       كما تحدثت السورة الكريمة عن نفختي الصعق والبعث،‏ وما يعقبهما من أحداث مُروِّعة،‏ وعن يوم الحشر حين يساق المتقون إلى الجنة زُمَرًا،‏ ويُساق المجرمون إلى جهنم زُمَرًا كذلك،‏ ولكن شتان بين سوق التكريم وسوق الإهانة والإذلال والتجريم،‏ ويتم ذلك كله في حضرة الأنبياء والشهداء، والملائكة حافُّون من حول العرش،‏ والوجود كله خاضع لربه،‏ متجه إليه بالحمد والثناء، راجٍ رحمته،‏ مشفق من عذابه،‏ راضٍ بحكمه،‏ حامد لقضائه‏.‏
       ومن الأدلة المادية المطروحة للاستدلال على طلاقة القدرة الإلهية على الخلق،‏ وبالتالي على الشهادة له‏-‏سبحانه-‏ بالألوهية والربوبية قوله -‏تعالى‏-:‏
(خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ)[الزمر‏:5].
       وهي آية جامعة،‏ تحتاج في شرحها إلى مجلدات؛ ولذا فسوف أقتصر هنا على الإشارة إلى كروية الأرض وإلى دورانها من قبل ألف وأربعمائة سنة،‏ في زمن ساد فيه الاعتقاد بالاستواء التام للأرض بلا أدنى انحناء،‏ وبثباتها،‏ وتمت الإشارة إلى تلك الحقيقة الأرضية بأسلوب لا يُفزِع العقلية البدوية في زمن تنزل الوحي،‏ فجاء التكوير صفة لكلٍّ من الليل والنهار،‏ وكلاهما من الفترات الزمنية التي تعتري الأرض،‏ فإذا تكورا كان في ذلك إشارة ضمنية رقيقة إلى كروية الأرض،‏ وإذا تكور أحدهما على الآخر كان في ذلك إشارة إلى تبادلهما،‏ وهي إشارة ضمنية رائعة إلى دوران الأرض حول محورها،‏ دون أن تثير بلبلة في زمن لم تكن للمجتمعات الإنسانية -بصفة عامة- والمجتمعات في جزيرة العرب -بصفة خاصة- أي حظ من الثقافة العلمية.

       وسوف نفصِّل ذلك في السطور القادمة إن شاء الله -تعالى-‏ بعد شرح دلالة الفعل ‏(‏كَوَّرَ‏)‏ في اللغة العربية،‏ واستعراض شروح المفسرين لدلالات تلك الآية الكريمة‏.

 

الدلالة اللغوية:
صورة للأرض من الفضاء:
       يقال في اللغة العربية‏:(‏كَارَ‏)‏ الشيء‏(‏يَكُورُه‏) (كَوْرًا‏)‏ و‏(‏كُرُورًا‏)، و‏(‏يُكَوِّرُه‏)(‏تَكْوِيرًا‏)‏ أي يُديره،‏ ويضم بعضه إلى بعض، كـ(‏كوَّر‏)‏ العمامة،‏ أو جعله كالكرة،‏ ويقال‏: (‏طمنه فكَوَّرَه‏)‏ إذا ألقاه مُجتَمِعا،‏ كما يقال‏: (‏اكتار‏)‏ الفرس إذا أدار ذنبه في عدوه،‏ وقيل للإبل الكثيرة‏(‏كُورٌ‏)، و‏(‏كُوَّارة‏)‏ النحل معروفة،‏ و‏(‏الكور‏)‏ الرحل،‏ وقيل لكل مصر‏(‏كورة‏)‏ وهي البقعة التي يجتمع فيها قرى ومحال عديدة،‏ و‏(‏الكرة‏)‏ التي تضرب بالصولجان،‏ وتجمع على‏(‏ كرين‏)‏ بضم الكاف وكسرها،‏ كما تجمع على (كرات)‏.‏
       وجاء الفعل المضارع‏(‏يُكَوِّرُ‏)‏ في القرآن الكريم كله مرتين فقط في الآية الكريمة التي نحن بصددها،‏ وجاء بصيغة المبني للمجهول مرة واحدة في قول الحق‏ -‏تبارك وتعالى‏-: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)‏[التكوير‏:1].
       أي جُعِلَت كالكرة بانسحاب ألسنة اللهب المندفعة منها إلى آلاف الكيلو مترات خارجها، إلى داخلها، كناية عن بدء انطفاء جذوتها‏.‏


شروح المفسرين:
       في تفسير قوله -تعالى- ‏:‏(خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ)‏[الزمر‏:5]:
       ذكر ابن كثير‏ -‏يرحمه الله‏-‏ مانصه‏:‏ يخبر -تعالى- أنه الخالق لما في السماوات والأرض،‏ وما بين ذلك من الأشياء،‏ وبأنه مالك الملك،‏ المُتصرِّف فيه،‏ يقلب ليله ونهاره.‏ "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ" أي سخرهما يجريان متعاقبين،‏ ولا يفترقان،‏ كلٌّ منهما يطلب الآخر طلبًا.
       ويضيف‏:‏ وقوله –عز وجل‏-:(... وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ...)[الزمر:5]،أي إلى مدة معلومة عند الله -تعالى-‏ ثم ينقضي يوم القيامة‏.‏"أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ" ‏أي مع عزته وعظمته وكبريائه،‏ هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه‏.‏ (انتهى قول المفسر).
       وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏ -‏رحمهما الله‏-‏ ما نصه‏:"خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ‏"‏ ولحكمة،‏ لا عبثًا باطلًا،‏ متعلق بـ(خلق)‏.‏ "يُكَوِّرُ"‏ أي يدخل. "اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ"فيزيد‏."‏وَيُكَوِّرُالنَّهَارَ‏"‏ يدخله. "عَلَى اللَّيْلِ" فيزيد‏.‏ (انتهى قول المفسر).
       وجاء في الهامش التعليق التالي من أحد المحققين‏:‏ قوله -تعالى-‏:"‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ" ما ذكره المؤلف الجلال المحلي في معنى التكوير هو معنى الإيلاج الوارد في مثل قوله -تعالى-: "‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏" [الحج:61].وهذا تفسير غير موافق لمعنى اللغة‏؛ لأن التكوير والإيلاج ليسا بمعنى واحد،‏ وإلا فما معنى قوله -تعالى-‏:"‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏"؟ قال‏: ‏في القاموس‏:‏ (التكوير) في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض،‏ ومنه (كَوَّرَ) العمامة،‏ فيكون معنى الآية‏:‏ إن الله -تعالى- سخر الليل والنهار يتعاقبان،‏ يذهب أحدهما فيعقبه الآخر إلى يوم القيامة‏،‏ وفي الآية إشارة واضحة إلى أن الأرض لا تخلو من ليل في مكان ونهار في آخر‏ على مدار الساعة. (انتهى قول المحقق).
       وذكر صاحب الظلال‏ -‏رحمه الله رحمة واسعة‏- ما نصه‏:‏‏"خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ" وأنزل الكتاب بالحق‏، فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب،‏ وكلاهما صادر من مصدر واحد،‏ وكلاهما آية على وحدة المُبدِع العزيز الحكيم‏. "‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ‏" وهو تعبير عجيب، يقسرالناظر فيه قسرًا على الالتفات إلى ما كُشف حديثًا عن كروية الأرض،‏ ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان‏؛ لأنها نظريات تخطئ وتصيب،‏ وتثبت اليوم وتبطل غدا،‏ والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته،‏ ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل‏.‏
       مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسرًا على النظر في موضوع كروية الأرض،‏ فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض،‏ فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس،‏ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا،‏ ولكن هذا الجزء لايثبت؛ لأن الأرض تدور،‏ وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار،‏ وهذا السطح مكور،‏ فالنهار كان عليه مكورًا،‏ والليل يتبعه مكورًا كذلك،‏ وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل،‏ وهكذا في حركة دائبة‏ "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ"، واللفظ يرسم الشكل،‏ ويحدد الوضع،‏ ويُعيِّن نوع طبيعة الأرض وحركتها،‏ وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرًا أدق من أي تفسير آخر‏.‏ (انتهى قول المفسر).
       وذكر صاحب صفوة البيان -‏رحمه الله رحمة واسعة‏-‏ ما نصه‏: "‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ" تكوير الشيء إدارته،‏ وضم بعضه إلى بعض كـ(كَوَّرَ) العمامة،‏ أي أن هذا يكر على هذا‏ ‏، وهذا يكر على هذا كرورًا متتابعًا كتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض،‏ إلا أن أكوار العمامة مجتمعة،‏ وفيما نحن فيه متعاورة‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ يزيد الليل على النهار ويضمه إليه،‏ بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا،‏ فيطول النهار عن الليل،‏ ويزيد النهار عن الليل ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء النهار ليلًا، فيطول الليل عن النهار،‏ وهو كقوله -تعالى-: "‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏" [الحج:61].‏ (انتهى قول المفسر).
       وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏ -جزاهم الله خيرًا-‏ ما نصه‏:‏ خلق السماوات والأرض متلبسًا بالحق والصواب على ناموس ثابت،‏ يلف الليل على النهار، ويلف النهار على الليل على صورة الكرة،‏ وذلل الشمس والقمر لإرادته ومصلحة عباده،‏ كلٌّ منهما يسير في فلكه إلى وقت محدد عنده‏ -وهو يوم القيامة‏- ألا هو -دون غيره- الغالب على كل شيء،‏ فلا يخرج شيء عن إرادته،‏ الذي بلغ الغاية في الصفح عن المذنبين من عباده. (انتهى قول المفسر).
       وجاء في الهامش هذا التعليق‏:‏ تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الأرض كروية تدور حول نفسها؛ لأن مادة التكوير معناها لفَّ الشيء على الشيء على سبيل التتابع،‏ ولو كانت الأرض غير كروية‏ -‏مسطحة مثلًا-‏ لخيَّم الليل، أو طلع النهار على جميع أجزائها دفعة واحدة. (انتهى قول المفسر).

       وذكر صاحب صفوة التفاسير‏ -بارك الله في جهده‏-:"‏خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ"‏أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات،‏ بالحق الواضح والبرهان الساطع‏."‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ"‏ أي يغشي الليل على النهار ويغشي النهار على الليل،‏ وكأنه يلف عليه لف اللباس على اللابس‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وتكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته، وهذا منقول عن قتاده‏. (انتهى قول المفسر).

كروية الأرض في المعارف المكتسبة:
       كان أول من قال بِكُرَويَّة الأرض فلاسفة الحضارة العراقية القديمة المعروفة باسم (حضارة ما بين النهرين) في حدود سنة ‏2000‏ ق‏.‏م، وعنهم أخذ فلاسفة اليونان، ومنهم فيثاغورس الذي نادى بها في منتصف القرن السادس ق‏.‏م، مؤكدًا أن الشكل الكروي هو أكثر الأشكال الهندسية انتظامًا لكمال انتظام جميع أجزاء الكرة،‏ بالنسبة إلى مركزها،‏ وعلى ذلك فإن الأرض وجميع أجرام السماء لابد وأن تكون كروية الشكل‏.‏
       وبقي هذا الرأي شائعًا في الحضارة اليونانية القديمة حتى القرن الرابع ق‏.‏م، إلى أن عارضه أرسطو، فشاع بين الناس الاعتقاد باستواء الارض بلا أدنى انحناء‏.‏
       وفي عهد الخليفتين العباسيين الرشيد والمأمون -في القرن الهجري الثاني وأوائل الثالث‏- نادى عدد من علماء المسلمين -ومنهم البيروني، وابن سينا، والكندي، والرازي، وغيرهم- بكروية الأرض التي استدلوا عليها بعدد من الظواهر الطبيعية، التي منها ما يلي‏:‏

(1)‏ استدارة حد ظل الأرض حين يقع على سطح القمر في أوقات خسوفه.
‏(2)‏ اختلاف ارتفاع النجم القطبي بتغير مكان الراصد له قربًا من خط الاستواء، أو بعدًا عنه‏.‏
‏(3)‏ تغير شكل قبة السماء من حيث مواقع النجوم وتوزيعها فيها باقتراب الراصد لها من أحد القطبين‏.‏
‏(4)‏ رؤية الأفق دومًا على هيئة دائرة تامة الاستدارة، واتساع دائرته بارتفاع الرائي على سطح الأرض‏.‏
‏(5)‏ ظهور قمم الجبال البعيدة قبل سفوحها بتحرك الرائي إليها،‏ واختفاء أسافل السفن قبل أعاليها في تحركها بعيدًا عن الناظر إليها‏.‏
       وقام علماء المسلمين في هذا العصر الذهبي بقياس محيط الأرض بدقة فائقة،‏ وبتقدير مسافة درجة الطول في صحراء العراق وعلى طول ساحل البحر الأحمر،‏ وكانوا في ذلك سابقينللحضارة الغربية بتسعة قرون على الأقل،‏ فقد أعلن الخليفة المأمون لأول مرة في تاريخ العلم أن الأرض كروية، ولكنها ليست كاملة الاستدارة‏.‏
       ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي ليتحدث عن نقص تكور الأرض من منطلق آخر؛ إذ ذكر أن مادة الأرض خاضعة لقوتين متعارضتين‏:‏ قوة الجاذبية التي تشد مادة الأرض إلى مركزها،‏ والقوة الطاردة المركزية الناشئة عن دوران الأرض حول محورها، والتي تدفعها إلى الخارج، والقوة الأخيرة تبلغ ذروتها عند خط استواء الأرض، فتؤدي إلى انبعاجها قليلًا، بينما تنقص إلى أقل قدر لها عند القطبين فيتفلطحان قليلا،‏ ثم جاء تصوير الأرض من الفضاء في أواخر القرن العشرين ليؤكد كلًّا من كروية الأرض وانبعاجها قليلًا عند خط استوائها.

كروية الأرض في القرآن الكريم:
       من الحقائق الثابتة عن الأرض أنها مُكوَّرة -‏كرة أو شبه كرة‏-‏، ولكن نظرًا لضخامة أبعادها فإن الإنسان يراها مسطحة بغير أدنى انحناء،‏ وهكذا ساد الاعتقاد بين الناس بهذا التصور للأرض إلى زمن الوحي بالقرآن الكريم،‏ وإلى قرون متطاولة من بعد ذلك، بل بين العوام إلى يومنا هذا،‏ على الرغم من وجود عدد من الملاحظات القديمة التي تشير إلى كرويتها‏.‏
       ولذلك فإن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الحقيقة بطريقة غير مباشرة،‏ وبصياغة ضمنية لطيفة،‏ ولكنها في نفس الوقت بالغة الدقة والشمول والإحكام،‏ وجاء ذلك في عدد من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تكور كلٍّ من الليل والنهار على الآخر،‏ وولوجه فيه، وانسلاخه منه،‏ وعن مد الأرض وبسطها،‏ ودحوها وطحوها،‏ وكثرة المشارق والمغارب فيها مع بقاء قمة عظمى ونهايتين لكلٍّ منهما،‏ ومن تلك الآيات قوله‏-‏تعالى‏-:‏‏ (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ)[الزمر‏:‏ ‏5].‏
       ومعنى يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل أي يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه،‏ وهو وصف واضح الدلالة على كروية الأرض،‏ وعلى دورانها حول محورها أمام الشمس؛‏ وذلك لأن كلًّا من الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الأرض في تبادل مستمر،‏ ولو لم تكن الأرض مُكوَّرة لما تكور أي منهما،‏ ولو لم تكن الأرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار، وكلاهما ظرف زمان، وليس جسمًا ماديًّا يمكن أن يُكوَّر،‏ بل يتشكل بشكل نصف الأرض الذي يعتريه‏.‏ 

       ولما كان القرآن الكريم يثبت أن الله -تعالى- يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل -وهما فترتان زمنيتان تعتريان الأرض‏-‏ فلابد للأرض من أن تكون مكورة،‏ ولابد لها من الدوران حول محورها أمام الشمس‏.‏
       ومن هنا كان التعبير القرآني بتكوير كلٍّ من الليل والنهار فيه إعلام صادق عن كروية الأرض،‏ وعن دورانها حول محورها أمام الشمس‏، بأسلوب رقيق لا يُفزع العقلية السائدة في ذلك الزمان، التي لم تكن مستعدة لقبول تلك الحقيقة،‏ فضلا عن استيعابها،‏ تلك الحقيقة التي أصبحتمن البديهيات في زماننا، وإن بقي بعض الجُهَّال على إنكارها إلى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة‏.
       والتكوير يعني جعل الشيء على هيئة مكورة‏ -هيئة الكرة أو شبه الكرة‏-‏ إما مباشرة، أو عن طريق لف شيء على شيء آخر في اتجاه دائري شامل‏، أي في اتجاه كروي‏،‏ وعلى ذلك فإن من معاني"يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ" أن الله‏ -‏تعالى‏-‏ ينشر بالتدريج ظلمة الليل على مكان النهار من سطح الأرض المكور فيحوله إلى ليل مكور،‏ كما ينشر نور النهار على مكان ظلمة الليل من سطح الأرض المكور فيحوله نهارًا مكورا،‏ وبذلك يتتابع كلٌّ من الليل والنهار على سطح الأرض الكروي بطريقة دورية،‏ مما يؤكد حقيقتي كروية الأرض،‏ ودورانها حول محورها أمام الشمس بأسلوب لا يُفزع الأفراد ولا يصدم المجتمعات التي بدأ القرآن الكريم يتنزل في زمانها، والتي لم يكن لها حظ من المعرفة بالكون وحقائقه‏.‏
       والإشارات القرآنية الضمنية إلى حقيقة كروية الأرض ليست مقصورة على آية سورة "الزمر"-الآية الخامسة-‏ وحدها‏؛‏ وذلك لأن الله‏ -تعالى- يؤكد في عدد من آيات القرآن الكريم على مد الأرض -أي على بسطها- بغير حافة تنتهي إليها‏، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية الشكل‏؛ لأن الشكل الوحيد الذي لا نهاية لبسطه هو الشكل الكروي‏،‏ وفي ذلك يقول الحق‏ -‏تبارك وتعالى‏-:‏
‏(1)‏(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا)[الرعد‏:3].
‏(2)‏(وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ)[الحجر‏:19].‏
(3)(وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[ق‏:7].
       كذلك يؤكد القرآن الكريم كروية الأرض في آيات التطابق‏ -‏أي تطابق كلٍّ من السماوات والأرضين‏-‏ ولا يكون التطابق بغير انحناء وتكوير‏، وفي ذلك يقول‏ ربنا -تبارك وتعالى‏-:‏(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا)[الملك‏:3]، أي متطابقة،‏ يغلف الخارجُ منها الداخلَ فيها.

       ويشير القرآن الكريم إلى اتفاق الأرض في ذلك بقول الحق‏-تبارك وتعالى‏-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)[الطلاق‏:12]،أي سبع أرضين متطابقة حول مركز واحد يغلف الخارجُ منها الداخلَ فيها‏.‏
‏       كذلك تشير آيات المشرق والمغرب التي ذُكِرَت بالإفراد،‏ والتثنية،‏ والجمع إلى حقيقة كروية الأرض،‏ وإلى دورانها حول محورها أمام الشمس،‏ وإلى اتجاه هذا الدوران‏، وفي ذلك يقول الحق‏ -‏تبارك وتعالى‏-:‏
‏(1) (قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)[الشعراء‏:28].
‏(2) (رَبُّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ المَغْرِبَيْنِ)[الرحمن‏:17].
‏(3) (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)[المعارج‏:40، 41].
       فالمشرق هو جهة طلوع الشمس،‏ والمغرب جهة غيابها،‏ ووجود كلٍّ من المشرق والمغرب يؤكد كروية الأرض،‏ وتبادلهما يؤكد دورانها حول محورها أمام الشمس من الغرب إلى الشرق،‏ ففي الوقت الذي تشرق فيه الشمس على جهة ما من الأرض تكون قد غربت في نفس اللحظة عن جهة أخرى.

       ولما كانت الأرض منبعجة قليلًا عند خط الاستواء كانت هناك قمة عظمى للشروق وأخرى للغروب‏ "‏رَبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏"،‏ ولما كانت الشمس تشرق على الأرض في الفصول المختلفة من نقاط مختلفة،‏ كما تغرب عنها من نقاط مختلفة (وذلك بسبب ميل محور دوران الأرض بزاوية مقدارها‏23.5‏ درجة على مستوى فلك دورانها حول الشمس)، كانت هناك مشارق عديدة،‏ ومغارب عديدة‏ "‏رَبِّ المَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ"،‏ وكانت هناك نهايتان عظميان لكلٍّ من الشروق والغروب‏"رَبُّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ المَغْرِبَيْنِ"،‏ وينتشر بين هاتين النهايتين العظميين نقاط متعددة لكلٍّ من الشروق والغروب على كلٍّ من خطوط الطول وخطوط العرض،‏ وعلى مدار السنة‏؛ لأن دوران الأرض حول محورها أمام الشمس يجعل النور المنبثق عن ضوء هذا النجم ينتقل على سطح الأرض الكروي باستمرار من خط طول إلى آخر محدثًا عددًا لا نهائيًّا من المشارق والمغارب المتعاقبة كلَّ يوم‏.‏
       ووجود كلٍّ من جهتي المشرق والمغرب،‏ والنهايات العظمى لكلٍّ منهما،‏ وما بينهما من مشارق ومغارب عديدة،‏ وتتابع تلك المشارق والمغارب على سطح الأرض يؤكد كرويتها،‏ ودورانها حول محورها أمام الشمس،‏ وميل محور دورانها على مستوى فلك دورانها،‏ وكل ما ينتج عن ذلك من تعاقب الليل والنهار،‏ وتبادل الفصول المناخية،‏ واختلاف مطالع الشمس ومغاربها على مدار السنة‏. 

       وكلها من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم،‏ ولا لقرون متطاولة من بعده إلا بصورة بدائية، ولنفر محدودين جدًّا من أبناء الحضارات السابقة التي لم تصل كتاباتهم إلى شبه الجزيرة العربية إلا بعد حركة الترجمة، التي بدأت في منتصف القرن الهجري الثاني‏ -أي منتصف القرن الثامن الميلادي‏- في عهد الدولة العباسية‏.
       وورود مثل هذه الحقائق الكونية في ثنايا الآيات القرآنية بهذه الإشارات اللطيفة والدقيقة في نفس الوقت، لمما يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق،‏ وأن النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولًا بالوحي، ومعلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض،‏ وهي من الحقائق الاعتقادية التي يحتاجها إنسان اليوم الذي توفر له من أسباب التقدم العلمي والتقني ما لم يتوفر لجيل من البشر من قبل،‏ ولكنه في ظل هذا التقدم فقد الصلة بخالقه،‏ ففقد الكثير من القيم الأخلاقية النبيلة، والضوابط السلوكية الصحيحة، التي تدعو إلى الارتقاء بالإنسان إلى مراتب التكريم التي رفعه إليها رب العالمين، وتعينه على إقامة عدل الله في الأرض،‏ بدلًا من المظالم العديدة التي تجتاحها في كثير من أجزائها،‏ والخراب والدمار والدماء التي تُغرقها،‏ في ظل غلبة أهل الباطل على أهل الحق،‏ وفقدان هؤلاء الكفار والمشركين لأدنى علم بالدين الذي يرتضيه رب العالمين من عباده.
       ولعل في الإشارة إلى مثل هذا السبق القرآني بالعديد من حقائق الكون ومظاهره ما يمكن أن يمهد الطريق إلى الدعوة لهذا الدين،‏ وتصحيح فهم الآخرين لحقيقته من أجل تحييد هذا الكم الهائل من الكراهية للإسلام والمسلمين، والتي غرسها -ولا يزال يغرسها- شياطين الإنس والجن في قلوب الأبرياء والمساكين من بني البشر، فبدؤوا بالصراخ بصراع الحضارات ونهاية العالم،‏ وبضرورة إشعال حرب عالمية ثالثة بين الغرب‏ -‏وهو في قمة من التوحد،‏ والتقدم العلمي،‏ والتقني،‏ والتفوق الاقتصادي والعسكري- والعالم الإسلامي -‏وهو في أكثر فترات تاريخه فرقة،‏ وتمزقا،‏ وانحسارًا ماديًّا وعلميًّا وتقنيًّا، وتخلفًا عسكريًّا‏-‏ من أجل القضاء على دين الله الحق‏، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[‏يوسف‏:21].