﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصرية
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذه الآية الكريمة جاءت في خواتيم سورة "القمر"، وهي سورة مكية، وعدد آياتها (55) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بذكر معجزة انشقاق القمر، وهي إحدى المعجزات الحسية الكبرى التي أيد الله -تعالى- بها خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم- ضد تكذيب كفار قريش، وإنكارهم لبعثته الشريفة.
وقد روى هذه المعجزة الكبرى عدد من الصحابة من أمثال عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، عبد الله بن مسعود، أنس بن مالك، جبير بن مطعم -رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين- وقد دُون الحدث في كلٍّ من الحضارتين القديمتين الهندية والصينية.
ويدور المحور الرئيسلسورة "القمر" حول قضيتي الإيمان والكفر، والجزاء الوافي على كلٍّ منهما في الدنيا قبل الآخرة. وتحذر السورة الكريمة في مطلعها من اقتراب الآخرة، ومن أهوالها، وتستعرض موقف كفار قريش من خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-وإعراضهم عنه، واتهامهم له بالسحر وتكذيبهم لدعوته -وهو المعروف عندهم بالصادق الأمين- وذلك انطلاقًا من غرورهم وصلفهم وكبرهم، واتباعًا لأهوائهم، وقد جاءهم بالأنباء والنذر. وتبدأ السورة المباركة بالتحذير من اقتراب الساعة، وذلك بقول الحق - تبارك وتعالى-: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ﴾ [القمر: 1].
ومن الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله الشريف : "بعثت أنا والساعة كهذا"وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى(رواه الشيخان). وصدق خاتم الأنبياء والمرسلين فيما أشار إليه؛ لأننا نعلم اليوم من أنباء الكون الذي نحيا فيه أنه يرجع في القدم إلى أربعة عشر بليونًا من السنين،بينما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أربعة عشر قرنًا، ونعلم كذلك أن أقدم صخور الأرض قد يبس على هيئته الصخرية منذ نحو الخمسة بلايين من السنين (4،6 بليون سنة)، فإذا أشار -عليه الصلاة والسلام- إلى ما بقي من عمر الكون بالنسبة إلى ما مضى منه بالمسافة بين السبابة والوسطى فقد صدق. ونحن نرى اليوم أن جميع العلامات الصغرى للساعة قد تحققت، وبقي أن تظهر أولى العلامات الكبرى،فيقفل باب التوبة، ثم تتراءى باقي العلامات الكبرى العشر الواحدة تلو الأخرى،ثم تقوم الساعة التي نسأل الله -تعالى- أن يهون علينا أهوالها إنه هو الرحمن الرحيم.
وتابعت سورة "القمر" بالإشارة إلى معجزة انشقاق القمر، والمعجزات الحسية لا تُعلَّل؛ لأنها خوارق للسنن المعهودة، وللقوانين المعروفة، وهي شهادة على من رآها من الناس، وليست حجة على من لم يرها، ولكنا نؤمن بها لوجود الإشارة إليها في هذه الآية الكريمة من كتاب الله، وفي العديد من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولثبوت شهادات من شاهدها من كبار صحابته -عليهم رضوان الله-. خاصة أن أحدًا من كفار ومشركي قريش لم ينكر وقوع تلك المعجزة، بل تحايلوا على التقليل من شأنها بإحالتها إلى السحر، وهم أعلم الناس بصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمانته، وببعده عن مثل هذه السلوكيات المشينة كالسحر والشعوذة.
وكذلك أثبتها أحد ملوك ماليبار-وهي إحدى مقاطعات جنوب غربي الهند- وكان اسمه شاكاراواتيفارماس(SHAKARAWATIFARMAS) كما هو مُدون في إحدى المخطوطات الهندية القديمة والمحفوظة في مكتبة المركز الهندي بمدينة لندن(تحت رقم2807/152-173)، وقد حققها المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد حميد الله -رحمه الله رحمة واسعة- في كتابه المُعَنْون (محمد رسول الله)، والذي ذكر فيه أن هذا الملك قد أعلن إسلامه بمجرد معرفته أن انشقاق القمر الذي شاهده هو في بلده كان معجزة مؤيدة لخاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه-.
وقد أثبتت دراسات القمر مؤخرًا وجود تمزقات طويلة جدًّا وغائرة إلى أعماق بعيدة في جسم القمر تتراوح أعماقها بين عدة مئات من الأمتار وأكثر من الكيلومتر، ويتراوح عرضها بين نصف الكيلومتر والخمسة كيلومترات، وتمتد أطوالها إلى مئات من الكيلومترات في خطوط مستقيمة أو متعرجة، مرورًا بالعديد من الحفر التي يزيد عمق الواحدة منها على تسعة كيلومترات، ويزيد قطرها على الألف كيلومتر، ومن أمثلتها الحفرة المعروفة باسم بحر الشرق (Mare Orientalis). وقد فُسِّرت هذه الحفر العميقة باصطدام بعض الجسيمات الصلبة -مثل النيازك الكبيرة- بسطح القمر، أما الشقوق الطولية المعروفة باسم شقوق القمر(RimaeorLunarCracks) فقد فسرت على أنها شروخ ناتجة عن الشد الجانبي لسطح القمر.
وفي الرد على ادعاءات الكافرين الذين رأوا هذه المعجزة وكذبوها يقول ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرّ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ (القمر5:2).
وتأمر الآيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالإعراض عن هؤلاء الكافرين، وبإنذارهم بالبعث وأهواله، وما سوف يلقون فيه من عذاب، وفي ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى- مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم-:
﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُون مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُهْطِعِين إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الكَافِرُون هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ [القمر: 8:6].
ومن الأمم التي استعرضتها سورة "القمر" قوم نوح الذين كذبوا رسول ربهم، واتهموه بالجنون، وزجروه،ونهروه، وسخروا منه، فأغرقهم الله -تعالى- بأن فتح عليهم أبواب السماء بماء منهمر، وفجَّر الأرض عليهم عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قُدِر، ونجَّى الله -سبحانه وتعالى- نوحًا ومن آمن معه في السفينة التي كان قد أمره ببنائها، وفي ذلك قال -عز من قائل-: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 13-17].
ثم جاءت السورة الكريمة على ذكر قوم عاد الذين كذبوا نبيهم هودًا-عليه السلام- فعاقبهم الله -تعالى- بريح صرصر عاتية يصفها بقوله العزيز: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾[القمر: 18-22].
ثم أُتبِعَت السورة الكريمة ذلك بالإشارة إلى قوم ثمود الذين كذبوا نُذُرَ ربهم، واستكبروا على اتباع أوامر نبيهم، وكذبوه، وعقروا الناقة التي بعثها الله -تعالى- لهم آية، فأرسل الله -تعالى- عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر، أي كفتات الشجر اليابس الذي تُبنَى منه حظائر البهائم. ثم تحدثت الآيات في سورة "القمر" عن تكذيب قوم لوط لنبيهم، وإنكارهم لما جاء به إليهم من نذر، فعاقبهم الله -تعالى- بإرسال ريح حاصبة عليهم -أي من شدتها كانت ترميهم بالحصباء وهي الحصى الصغيرة- ونجَّى الله آل لوط من تلك الريح الحاصبة بمعجزة منه؛ لأنهم كانوا من الشاكرين، وتمت تنجيتهم قبيل الصبح، ثم أتى قوم لوط مع الصباح الباكر عذاب دائم لا ينفك عنهم إلى أن يفضي إلى القضاء عليهم، ومن ثم إلى عذاب القبر وعذاب الآخرة، جزاء تكذيبهم لنبيهم، وتشككهم فيما أنذرهم به من عذاب، وتطاولهم بالسوء إلى ملائكة الله، فطمس الله على بصائرهم، فلم يروا الملائكة، وأنزل الله -تعالى- بهم عقابه المدمر الذي قضى عليهم في الساعات الأولى من النهار.
وبعد ذلك ذكرت سورة "القمر" تكذيب آل فرعون بنذر الله كلها وآياته فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر -أي أخذ غالب في انتقامه منهم قادر على إهلاكهم- لأنه لا يعجزه شيء. ثم توجه السورة أنظار الكافرين والمشركين من قريش ومن كل أمة من الأمم من بعدهم، وفي كل زمان ومكان بأنهم لا وزن لهم في معيار الله، كما كان جميع الكفار والمشركين من قبلهم، وبالتالي فلا يمكن لهم أن يأمنوا من عذاب الله كما لم يأمن سابقوهم، وتسألهم الآيات: ألكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة من العذاب فيما نزل من كتب الله السابقة فلذلك لا تخافون من عذاب الله؟أم تدعون بأنكم سوف تنتصرون على من خالفكم باتحادكم على الكفر أو الشرك؟ وترد عليهم الآيات بأنهم سوف يهزمون جميعًا ويولون الدبر -كناية عن الفرار- وتتهددهم الآيات بالساعة الآخرة مؤكدة أنها سوف تكون أشد من كل صنوف العذاب في الدنيا، وأدهى من الداهية الكبرى، وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يمكن الخلاص منه، ولا يهتدي إلى ذلك أبدًا، وأَمَرُّ من المرارة إذا صار الشيء مُرًّا، أي بالغ الصعوبة والمشقة.
وتؤكد الآيات أن المجرمين في ضلال وسُعُر -أي في مجافاة للحق والصواب ونيران مُسَعَّرة- وأن الملائكة سوف تتشفى فيهم وهم يُسحَبون في النار على وجوههم بقولهم لهم : ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48]، أي قاسوا آلام جهنم وعذابها؛ لأن سقر اسم من أسماء جهنم. ثم تأتي الحجة البالغة لله بأنه هو -سبحانه وتعالى- خالق كل شيء بقدر، أي مُقدَّرًا تقديرًا مُحكَمًا مُستوفِيًا كل ما تقتضيه الحكمة التي عليها مدار الكون كله. والقدر اسم لما صدر عن القادر الذي قرره قبل حدوثه -أي تقدير الله الأشياء في القدم- وعلمه أنها سوف تقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة كما حددها، فهي تجري وتقع على ما حدده الله -سبحانه وتعالى- وهو إيجاد الله للأشياء على قدر مخصوص، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها، وتقديرها بمعنى تحديد كل جزئية فيها بحدودها التي توجد عليها.
وتؤكد الآيات أن أمر الله -تعالى- في الخلق والإفناء هو بكلمة واحدة هي كن فيكون، أي توجد بسرعة كلمح البصر؛ لأن الزمن الذي يحد المخلوقين هو من صنع الخالق -سبحانه وتعالى- وعلى ذلك فهو لا يحده ولا يحد أوامره، والتشبيه هنا من قبيل التقريب لعقولنا في سرعة تعلق القدرة الإلهية بالمقدور على وفق إرادته -سبحانه وتعالى- وهي إرادة أزلية.
واللمح هو النظر بسرعة فائقة خاطفة. وتعاود الآيات مرة أخرى إلى مخاطبة كفار قريش بالإشارة إلى إهلاك الباطل وأهله وأتباعه من الأمم السابقة، وتحذرهم من إمكانية أن يصيبهم مثل ما أصابهم، والتحذير مستمر للكفار والمشركين من الأمم اللاحقة بهم إلى يوم القيامة.
وتؤكد الآيات أن كل شيء يفعلونه هو مُدون في كتب الحفظة، لا مفر منه، وكل صغير وكبير من الأفعال والأقوال والتصرفات مسطور عند الله، ومُحصَى على صاحبه. ثم تختتم سورة "القمر" بالقرار الإلهي القاطع الذي يكرِّم الله -تعالى - به المتقين فيقول -عز من قائل-: ﴿إِنَّ المُتَّقِين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54،55]. ومقعد الصدق هو الجنة؛ لأنها مقعد الحق، ومجلس الرضا الذي لا لغو فيه ولا تأثيم عند ملك الملوك، ورب السماوات والأرض، صاحب القدرة المطلقة والأمر الذي لا يُردُّ.ولقد جاءت الإشارة أربع مرات في سورة "القمر" بقول الحق -تبارك وتعالى-: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17،22،32،40] لعل الناس أن يأخذوا العبرة من استعراض تاريخ عدد من الأمم السابقة التي جاء ذكرها في سورة "القمر" وفي غيرها من سور القرآن الكريم.
من ركائز العقيدة في سورة "القمر":
تُلِحُّ الآيات في سورة "القمر" على الإيمان بما يلي:
(1) حقيقة الآخرة، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، والخلود في أي منهما، إما في الجنة أبدًا، أو في النار أبدًا.
(2) حقيقة الوحي، والنبوة، والرسالة، وجميع الأنبياء والمرسلين.
(3) عقاب من كفر من الأمم السابقة، مثل قوم نوح الذين أهلكوا بالإغراق بماء كلٍّ من السماء والأرض، وقوم عاد الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية، وقوم ثمود الذين أهلكوا بالصيحة، وقوم لوط الذين أهلكوا بالريح الحاصب، وقوم فرعون الذي أغرق وجنده باليم وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
(4) أن الله -تعالى- قد خلق كل شيء بقدَر.
(5) أن أمر الله -سبحانه وتعالى- واحدة كلمح بالبصر أي بِكُنْ فيكون.
(6) أنه ما من عمل يعمله الإنسان، أو حركة يتحركها، أو نطق ينطق به، إلا وهو مُدون عند رب العالمين تدوينًا كاملًا صَغُرَ أم كَبُرَ.
(7) أن المتقين لله سوف يُنعَّمون في الآخرة بالخلود في جنات النعيم ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].
الإشارات الكونية في سورة "القمر":
(1) التأكيد على وقوع معجزة انشقاق القمر، وعلى اقتراب الآخرة.
(2) الإشارة إلى المخزون المائي تحت سطح الأرض، وإلى أن أصله من ماء المطر.
(3) التأكيد على حقيقة عدد من الأمم البائدة، مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، ولوط، وآل فرعون،وعلى طرائق إهلاكهم.
(4) التأكيد على حتمية الآخرة.
(5) التأكيد على أن الله -تعالى- قد خلق كل شيء بقَدَر.
(6) التأكيد على أن الزمن من خلق الله، والمخلوق لا يحد الخالق، ولذلك فإن أوامر الله -تعالى- لا تحتاج إلى زمن لتحقيقها﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50].
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها، ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا على النقطة السادسة من القائمة السابقة والتي عبرت عنها الآية التاسعة والأربعون من سورة "القمر"، وقبل الدخول إلى ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله -تعالى-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
ذكر ابن كثير -يرحمه الله- ما مختصره: ...وقوله -تعالى-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ كقوله ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2]، وكقوله -تعالى-: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى:3]أي قدَّر قَدَرًا وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة... (انتهى قول المفسر).
وجاء في الجلالين -رحم الله كاتبيه- ما مختصره:... ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ﴾منصوب بفعل يفسره ﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾بتقدير، حال من ﴿كُلَّ﴾أي: مُقدَّرًا، وقرئ﴿كُلَّ﴾بالرفع مبتدأ خبره ﴿خَلَقْنَاهُ﴾... (انتهى قول المفسر).
أما صاحب الظلال -رحمه الله رحمة واسعة- فبعد أن استعرض عددًا من جوانب الاتزان في بناء السماء وفي الأرض، وفي كل ما يحيط بنا، وفي أجساد كلٍّ من الإنسان والحيوان والنبات، خلص إلى أن حركة هذا الكون كلها بجميع أحداثها، ووقائعها، وتياراتها مُقدَّرة ومُدبَّرة تقديرًا دقيقًا وتدبيرًا مُحكَمًا، صغيرَها وكبيرَها، وأضاف:... إن قدر الله وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث، ولكل نشأة، ولكل مصير، ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير.
إنه قدر الله النافذ الشامل، الدقيق العميق، وأحيانًا يرى البشر طرف الخيط القريب، ولا يرون طرفه البعيد، وأحيانًا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير، فتختفي عليهم حكمة التدبير، فيستعجلون ويقترحون، وقد يسخطون أو يتطاولون،والله يعلِّمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلِّموا الأمر لصاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح، ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق وفي أُنْس بصحبة القدر في خطوه المُطمَئِن الثابت الوثيق. (انتهى قول المفسر).
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن -رحم الله كاتبه- ما نصه:... ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أي مُقدَّرًا مُحكَمًا، مُستوفِيًا فيه ما تقتضيه الحكمة التي عليها مدار التكوين، وهو كقوله -تعالى-: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2].
والقدر: اسم لما صدر عن القادر مُقدَّرًا. يقال: قَدَّرتُ الشيء وقَدَرتُه -بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد- أو المعنى:خلقناه مُقدَّرًا مكتوبًا في اللوح قبل حدوثه، فهو بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء. وقال النووي:القدر تقدير الله الأشياء في القدم، وعلمه -تعالى- أنها ستقع في أوقات معلومة عنده -سبحانه- وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع في حسب ما قدرها الله –تعالى-، وفي شرح المواقف: قضاء الله هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. وقدره: إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها... (انتهى قول المفسر).
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم -جزاهم الله خيرًا- ما نصه: إنا خلقنا كل شيء، وخلقناه بتقدير على ما تقتضيه الحكمة (انتهى قول المفسر).
وجاء في صفوة التفاسير -جزى الله كاتبها خيرًا- ما نصه: أي إنا خلقنا كل شيء مُقدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ من الأزل (انتهى قول المفسر).
من الدلالات العلمية للآية الكريمة:
تؤكد دراسات الكون،بمجمله ودراسة كل جزئية من جزئياته على حقيقة الخلق، وعلى عظمة الخالق -سبحانه وتعالى- وتشهد له بالألوهية، والربوبية، والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه(بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد)، كما تشهد له -سبحانه- بدقة التقدير، وروعة التدبير، وإحكام الترابط والتوازن بين مختلف أجزاء هذا الكون الشاسع الاتساع، الدقيق البناء، المنضبط انضباطًا شديدًا في كل وحدة من وحداته، وكل جزئية من جزئياته، من أدق دقائقه إلى أكبر مكوناته، من اللبنات الأولية للمادة الداخلة في بناء كل جزئية من بناء الذرة إلى المجموعات النجمية المكونة للمجرة، ومن الأرض إلى باقي أجرام السماء، ومن الفيروس إلى الإنسان، وفي كل وسط بيئي محدد -على تعدد تلك الأوساط وتباينها- مما يؤكد أن الخلق قد تم بتقدير مُحكَم دقيق يعجز القلم عن إيفائه حقه لإحكام ذلك التقدير ولتعدد جوانبه، بصورة لا يمكن حصرها، ولكن تكفينا هنا الإشارة إلى لمحات من ذلك على النحو التالي:
أولًا: من لمحات التقدير في بناء الكون:
يحصي علماء الفلك في زماننا أن بالسماء من أمثال مجرتنا -مجرة الطريق اللبني- أكثر من مائتي ألف مليون مجرة، بعضها أكبر من مجرتنا كثيرًا، والبعض الآخر أصغر قليلًا. ومجرتنا يقدر قطرها بمائة ألف سنة ضوئية، ويقدر سُمْكها بعُشر ذلك، ويُحصى فيها قرابة التريليون نجم، لكلٍ منها توابع كما أن لشمسنا توابع من الكواكب والكويكبات، والأقمار والمذنبات، وغيرها.
وتجري المجرات المعروفة لنا في جزء من السماء الدنيا يقدر قطره بأكثر من(24) بليون سنة ضوئية (والسنة الضوئية تقدر بنحو9.5 تريليون كيلومتر)، ويقدر عمره بنحو(14) بليون سنة من سنيننا.
وهذا الجزء من الكون دائم الاتساع إلى نهاية لا يعلمها إلا الله -تعالى- حيث تتباعد المجرات عنا وعن بعضها بسرعات تكاد تقترب أحيانًا من سرعة الضوء المقدرة بنحو الثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية، ومعنى ذلك أنه كلما طور الإنسان أجهزة قياسه للكون وجد أن توسع الكون قد سبقه بمعدلات يعجز عن اللحاق بها، وأن كلًّا من المادة والطاقة يتخلق من حيث لا يعلم أحد لملء المسافات الناتجة عن هذا التوسع، مما يجسد أمام أنظارنا حقيقة الخلق من العدم، كما يجسد لنا حقيقة الإفناء إلى العدم ابتلاع النجوم الخانسة الكانسة المعروفة باسم الثقوب السود لكل ما تمر به أو يدخل في نطاق أفقها من مختلف صور المادة والطاقة.
وبالرجوع بعملية التوسع الكوني إلى الوراء مع الزمن يلتقي كل شيء من مختلف صور المادة والطاقة والمكان والزمان في نقطة واحدة متناهية الضآلة في الحجم إلى حد العدم، حيث تلتقي فيها الأضداد، فيُفني بعضها بعضًا، وفي ذلك ما يؤكد حقيقة أن كوننا مخلوق محدَث، وليس بأزلي كما كان يدعي كثير من المبطلين.وهنا أيضًا يتضح جانب من جوانب التقدير الإلهي المبدع في فصل الأضداد من كلٍ من المادة والطاقة عن بعضهما حتى يخلق هذا الكون بمختلف صور المادة والطاقة فيه وأضداد كل صورة باقية قائمة وشاهدة على حتمية إفناء هذا الكون في اللحظة التي يشاؤها إله الكون وخالقه ومبدعه، وبالطريقة التي يختارها، وإن كان التقاء الأضداد كافيًا لإفناء الكون بكل من فيه وما فيه إلى العدم إلا ما شاء الله. وهذا جانب واحد من جوانب دقة التقدير في كون دائم الحركة منذ أربعة عشر بليونًا من السنين. ويُجمِع علماء الفلك على أنه بعد مجاهدة كبيرة لم يتمكنوا من إدراك أكثر من10% من كم المادة والطاقة المتكدستين في الجزء المدرك من سمائه الدنيا.
ثانيًا: من لمحات التقدير في حركة الكون:
تؤكد دراسة الكون أن لكل جرم من أجرام السماء مداره الخاص به، ودوراته المتعددة حول محوره، وحول ما يدور في فلكه من الأجرام الأكبر منه، وأن لكل جرم من هذه التريليونات وأضعافها من الأجرام سرعاته المقدرة تقديرًا دقيقًا مُحكَمًا لتحفظ كلًّا منها في مداره المحدد إلى أجله المحدد، وفي توافق تام مع بقية الأجرام في السماء الدنيا، ومختلف حركاتها وسرعاتها، وأحجامها، وكتلها.
وسرعة جريان كل جرم من أجرام السماء تتباين من نقطة إلى أخرى في مداره، وتحكمه في ذلك قوتان متعارضتان من القوى التي أوجدها الخالق العليم الحكيم في الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وطلاقة قدرته، وأولى هاتين القوتين هي الجاذبية التي تشده إلى الجرم الأكبر الذي يدور حوله.وثانيتهما هي القوة الطاردة النابذة المركزية التي تدفعه بعيدًا عن ذلك الجسم الذي كان قد انفصل منه، واندفع بواسطتها بعيدًا عنه، والتوازن الدقيق بين هاتين القوتين المتضادتين يحدد مدار كل جرم من أجرام السماء الدنيا على هيئة بيضاوية إهليلجية تعرف باسم القطع الناقص، ومن قوانين الحركة في مدار القطع الناقص أن السرعة المحيطية تخضع لقانون يعرف باسم قانون تكافؤ المساحات مع الزمن، وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة على طول المحيط، فعندما يمر الجرم السماوي بالقطر الأصغر لمداره البيضاوي يصبح أقرب ما يكون للجرم الذي يدور حوله فتزداد سرعته المحيطية، وتزداد بالتالي القوة الطاردة النابذة المركزية بينهما، وذلك للحيلولة دون جذب الجرم المركزي له مما قد يؤدي إلى ارتطامهما وتدميرهما، وعلى النقيض من ذلك فإنه عند مرور الجرم بالقطر الأكبر لمداره البيضاوي فإن سرعته المحيطية تتناقص، وإلا انفلت من عقال جاذبية الجرم الذي يدور حوله إلى نهاية لا يعلمها إلا الله، وهذا هو حال القمر في جريه في مداره حول الأرض، وفي جريهما معًا في مدارهما حول الشمس، وحال كل جرم من أجرام السماء الدنيا التي نعرفها.
وهذا التوازن الدقيق في حركة أجرام السماء الدنيا قد مكَّن من تحديد مواقع عدد من الكواكب في مجموعتنا الشمسية قبل رؤيتها.
ثالثًا: دقة التقدير في بناء ذرات العناصر:
بدراسة الجزء المُدرَك لنا من الكون اتضح تكونه -أساسًا- من غاز الهيدروجين بنسبة تتعدى (74%)، وأن هذا الغاز يليه في الكثرة غاز الهيليوم بنسبة24% من مادة الكون المنظور، وأن باقي (105 عناصر) يعرفها إنسان اليوم تكون أقل من(2%) من مادة الجزء المدرك من الكون. وقد قادت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج الصحيح أن الله -تعالى- يخلق لنا جميع العناصر من غاز الهيدروجين باندماج نوى ذرات هذا الغاز -وهو أخف العناصر وأبسطها بناءًا- مع بعضها، ومع مضاعفات ذلك داخلَ النجوم، وينشأ عن هذا التفاعل النووي كل الطاقات الهائلة التي تنتجها تلك النجوم.ويساعد على إتمام عملية الاندماج النووي تلك دقة البناء الذري الذي وضعه الخالق -سبحانه وتعالى- ليحكم الكون من أدق لبناته إلى أكبر وحداته.
وتتركب الذرة من نواة في الوسط تحمل شحنة كهربائية موجبة، ويدور حولها إليكترون واحد أو عدد من الإليكترونات التي تحمل شحنة كهربية سالبة تعادل في مجموعها شحنة نواة الذرة الموجبة حتى تحتفظ الذرة بحالة من التعادل والاتزان اللازمين لتواجدها، ولذلك حفظ ربنا -تبارك وتعالى- الإليكترون السالب بأعداده المختلفة في مدارات محددة يدور فيها كل إليكترون دورة مغزلية حول محوره، ويجري في مداره حول النواة كما تجري الكواكب في مجموعتنا الشمسية حول شمسنا مع الفارق الهائل في الأبعاد.
وتبلغ أجزاء الذرة من التناهي في الدقة ما يجعل أبعادها تقاس بجزء من عشرة ملايين جزء من الملليمتر، وتسمى هذه الوحدة باسم الأنجستروم (Angstrom)، ويجعل أوزانها تقدر بجزء من تريليون التريليون جزء من الجرام(1×10^24 من الجرام)، وعلى ذلك فإن جرامًا واحدًا من اليورانيوم يحتوي على ألفي مليون تريليون ذرة من ذرات ذلك العنصر(2×10^21 ذرة).
ويحمل الشحنة الموجبة في نواة الذرة جسيمات دقيقة تعرف باسم البروتونات، وتوجد بالنواة أيضًا جسيمات متعادلة تعرف باسم النيوترونات.
ويبلغ قطر الإليكترون 1/100.000 من قطر الذرة، وتبلغ كتلته 1/1838 من كتلة ذرة الهيدروجين، وقطر الذرة يكبر قطر نواتها بعشرين ألف مرة.ويقابل الإليكترون في كتلته جزيء يحمل شحنة كهربية موجبة يعرف باسم البوزيترون(Positron)، ويعتقد علماء الفيزياء أن هذه الجسيمات الأولية للمادة تتركب من جسيمات أدق يتعدى عددها الثلاثين، ولكل منها نقيضه.
ومن التجارب المختبرية أدرك العلماء أن نواة الذرة إذا مست بشعاع من النيوترونات فإنها تنفجر، وبانفجارها تنفصم الروابط بين لبناتها الأولية مُطلِقة طاقة هائلة، وبذلك أمكن إثبات أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة تشهد للخالق -سبحانه وتعالى- بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه الذي خلقه بتقدير مذهل من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته.
ومن روعة هذا التقدير خلق جميع العناصر من غاز الهيدروجين، وجعل صفاتها متضاعفة بطريقة دورية مكنت من ترتيبها في جدول يعرف باسم الجدول الدوري للعناصر، وببناء هذا الجدول تركت فيه بعض الخانات التي لم تكن عناصرها قد اكتشفت بعد، وبعد اكتشافها اتضحت مطابقة صفاتها للخانات التي تركت خالية قبل التعرف عليها، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على الدقة الفائقة في تقدير الخلق.
رابعًا: دقة التقدير في بناء الخلية الحية:
تشير دراسات الخلية الحية إلى أنها -على دقتها المتناهية- تعتبر أعقد نظام عرفه الإنسان، وعلى الرغم من تعدد الخلايا الحية فإنها مبنية كلها على أساس من مخطط واحد يبلغ منتهى التعقيد في البناء، والدقة في الأداء بصورة لا يكاد العقل البشري أن يتصورها.
ويتراوح قطر الخلية الحية في المتوسط بين عشر الميكرون (1/10.000 من الملليمتر) إلى 300 ميكرون (أي 0.03 - من الملليمتر). وللخلية الحية جدار سيليولوزيسميك وغير حي في النباتات التي تحتوي خلاياها على مادة اليخضور القادرة على القيام بعملية التمثيل الضوئي، بينما الجدار غشائي رقيق وحي في كلٍّ من الحيوان والإنسان، وفي هذه الحالة الأخيرة يتكون الجدار من طبقة دهنية محاطة بطبقتين بروتينيتين، ويعطي الجدار للخلية شكلها، ويقوم على حمايتها، وينظم عبور مختلف المواد من داخل الخلية إلى خارجها والعكس عبر ثغور محددة بدقة فائقة.
وتتقاسم الأنشطة الحيوية داخل الخلية الحقيقية وحدات تركيبية متميزة تعرف باسم العضيات تعوم في سائل الخلية الذي يعرف باسم السيتوبلازم أو السائل الخلوي، ويتكون من خليط معقد وغير متجانس من البروتينات، والدهنيات، والسكريات، والمعادن، ويساعد هذا السائل الخلوي على التنسيق بين وظائف العضيات المختلفة التي يتم أغلبها من خلاله.
وتسبح في هذا السائل الخلوي نواة الخلية التي تمثل العقل المفكر لها، وتحمل صفاتها الوراثية، وتتحكم في جميع أنشطتها الحيوية. وتنفصل نواة الخلية عن سائلها بغشاءين محددين، ويرتبط هذان الغشاءان النوويان بجدار الخلية بواسطة شبكة خاصة تعرف باسم الشبكة الإندوبلازمية، تتصل بها عضيات صغيرة تعرف باسم الرباسات(Ribosomes) أعطاها الخالق -سبحانه وتعالى- القدرة على تصنيع مائتي ألف نوع من البروتينات تحتاجها الخلية الحية، وتفرز منها بما يتفق مع الأوامر الصادرة إليها من نواة الخلية. وهناك من العضيات ما يعرف باسم عضياتاليحلول (Lysosomes) تحتوي على إنزيمات تصنعها الرباسات للمساعدة على هضم المواد العضوية بداخل الخلية، وتوجد الإنزيمات أيضًا بداخل عضيات أخرى تعرف باسم المتقدرات(Mitochondria) يتم بداخلها تحويل المواد العضوية إلى طاقة لازمة لنشاطات الخلية الحية المتعددة.
وتحتوي نواة الخلية الحية على شفرتها الوراثية التي تتحكم -بتقدير من الخالق سبحانه وتعالى- في جميع أنشطة الخلية، بما في ذلك النمو والتكاثر الذي بواسطته تنقسم الخلية إلى خليتين جديدتين، والتمييز الذي تتمكن بواسطته خلية جنينية ذات صفات عامة من التحول إلى خلية متخصصة ناضجة.ويحتوي غشاء النواة على مادة حبيبية دقيقة تعرف باسم السائل النووي الذي يحمل كلًّا من الصبغيات -حاملات الوراثة- ونُوَيَّة واحدة أو أكثر من نُوَيَّة.وتتكون الصبغيات من جزيئات الحمض النووي وبعض البروتينات، ويحدد عدد الصبغيات داخلَ الخلية الحية نوع الكائن الحي.
ويتكون جزيء الحمض النووي من لفائف متناهية الدقة تعرف باسم الحلزون المزدوج، ويتكون هذا الحلزون المزدوج الجدار من سلاسل من القواعد النيتروجينية الملتحمة بالوسط والمرتبطة في جوانبها بجدارين متوازيين من جزيئات السكر والفوسفات. وتلتف هذه السلاسل حول بعضها عبر محور وهمي على هيئة حلزونية، وتنطوي على ذاتها لتشغل حيزًا لا يزيد على الواحد من المليون من الملليمتر المكعب، ويبلغ قطره واحدًا من نصف المليون من المليمتر، ويبلغ سُمْك جداره واحدًا من خمسين مليون من الملليمتر، ولكن إذا فُرِدَ جزيء الحمض النووي فإن طوله يبلغ أربعة سنتيمترات، بمعنى أنه إذا تم فرد حلزونات الحمض النووي في الست والأربعين صبغية الموجودة في نواة خلية واحدة من خلايا جسم الإنسان -التي لا يتعدى قطرها 0.03 مم في المتوسط- وتم رصها بجوار بعضها، فإن طولها يصل إلى قرابة المترين (184 سم). وإذا تم ذلك بالنسبة لمجموع الصبغيات الموجودة في مئات البلايين من الخلايا المكونة لجسد فرد واحد من بني البشر، فإن طول شفرته الوراثية يزيد على المسافة بين الأرض والشمس وهي مقدرة بنحو(150) مليون كيلومتر. وتتكون الشفرة الوراثية في الخلية البشرية الواحدة من18.6 بليون جزيء من القواعد النيتروجينية والسكر والفوسفات موزعة بالتساوي بين هذه المركبات الثلاثة، ويتشابه بنو الإنسان في تركيب الحمض النووي بنسبة(99.9%)، ويختلفون في (0.1%) فقط، وتتجلى قمة التقدير في أن هذه النسبة الضئيلة من الاختلاف في تركيب الحمض النووي قد أعطت -بتقدير من الخالق سبحانه وتعالى- بصمة وراثية خاصة لكل فرد من بلايين البشر الذين عاشوا وماتوا، وللبلايين التي تُعَمِّر الأرض اليوم، وللبلايين التي سوف تأتي من بعدها إلى قيام الساعة، تميزه عن غيره تمييزًا يفوق تمييز بصمة الإبهام. فأي تقدير هذا إلا تقدير الخالق البارئ المصور﴿... الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه: 50].
﴿... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2].
﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾[الأعلى:2،3].
والقائل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
ثم يأتي العلم بعد أربعة عشر قرنًا من نزول هذه الآية الكريمة ليؤكد لكل ذي بصيرة، وبالعديد من الشواهد الحسية الملموسة المدركة التي تركها لنا ربنا -تبارك وتعالى- واضحة جلية في كل شيء خلقه من الأحياء والجمادات، وفي الأنفس والآفاق ما يشهد له -سبحانه وتعالى- بإحكام الخلق، وإتقان التقدير، وكمال الحكمة، ويشهد بالصدق للقرآن الكريم، ولهذه الآية الكريمة التي أنزلت فيه، كما يشهد بأمانة التبليغ للنبي الخاتم الذي تلقى القرآن العظيم.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله الذي بعث به خاتم الأنبياء والمرسلين-صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- والحمد لله على حفظ القرآن الكريم بلغة وحيه -اللغة العربية - على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد وإلى أن يرث الله -تعالى- الأرض ومن عليها، تحقيقًا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا -تبارك وتعالى- على ذاته العلية فقال -وهو أصدق القائلين-:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9].