سورة "إبراهيم"
من أسرار القرآن
مقالات جريدة الأهرام المصري
"الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)"
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
وهي سورة مكية، وآياتها52 بعد البسملة، وقد سميت باسم أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم -عليه السلام-؛ تكريما لدوره في الدعوة إلى دين الله الخالق -وهو الإسلام- الذي علمه ربنا -تبارك وتعالى- لأبينا آدم -عليه السلام- لحظة خلقه، وأوحاه إلى عدد من أنبيائه ورسله نعلم منهم كلا من إدريس ونوح -عليهما السلام- ثم انحرف الناس عن ملة التوحيد الخالص فعبدوا الأصنام والأوثان، وأشركوا بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، ما لم ينزل به سلطانا، فبعث الله -تعالى- نبيه إبراهيم ليردهم إلى الإسلام من جديد.
ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية، ومن ركائزها الإيمان بالله -تعالى- وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبما فيه من بعث، وحشر، وحساب، وجزاء، ومن ركائزها الانطلاق من التوحيد الخالص لله -تعالى- إلى الإيمان بوحدة رسالة السماء، وبالأخوة بين الأنبياء، وبحقيقة الوحي وضرورته، وبالأخوة بين الناس أجمعين.
وتناولت سورة "إبراهيم" من قصص الأنبياء قصة نبي الله موسى-عليه السلام- مع قومه، وذكرت بالمكذبين من الأمم السابقة على بعثته؛ من أمثال قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين أهلكهم الله -سبحانه وتعالى- بظلمهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم، كما تناولت عددا من مشاهد الآخرة ومصائر المشركين فيها حتى تكون درسا للناس أجمعين.
وتشير السورة الكريمة إلى عدد من نعم الله -تعالى- على عباده الذين تفرقوا إلى مؤمن شاكر لأنعم الله وهم قلة، وإلى كثرة كافرة جاحدة أو مشركة ظالمة مآلها جهنم وبئس المصير.
وتبدأ سورة "إبراهيم" بتوجيه الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- معظمة شأن القرآن الكريم بقول ربنا -تبارك وتعالى- له:
(الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [إبراهيم:1: 3].
وتنتقل الآيات إلى التأكيد على أن الله -تعالى- لم يرسل من رسول إلا بلسان قومه؛ ليبين لهم حقيقة هداية الله لهم في القضايا التي يعلم ربنا -تبارك وتعالى- بعلمه المحيط عجز البشر عجزا كاملا عن وضع أي ضوابط صحيحة لأنفسهم فيها، وهي ركائز الدين من العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملات، ومن هنا كانت ضرورة الدين.
وتضرب الآيات المثل على ذلك بقصة نبي الله موسى -عليه السلام- مع قومه[الآيات: 5: 8] وتذكيره إياهم بأنباء عدد من الأمم السابقة عليهم من أمثال أقوام أنبياء الله نوح وهود وصالح -على نبينا وعليهم من الله السلام- والذين من بعدهم ممن لا يعلمهم إلا الله -سبحانه وتعالى- وكيف قابلت الغالبية الساحقة منهم دعوة أنبياء الله -تعالى- بالكفر والرفض والصد والتشكيك، وترد عليهم الآيات لتقول:
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم:11،12].
ويرد الكفار والمشركون على رسول الله بصلف واستنكار بالغين، وفي ذلك تقول الآيات مهددة ومتوعدة بعقاب الله:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ *وَاسْتَفْتَحُواوَخَابَكُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ) [إبراهيم:13: 18].
وبعد ذلك تنتقل الآيات[19: 23] إلى استعراض عدد من آيات الله في الخلق والإفناء والبعث، ووصف بعض مواقف المشركين في يوم القيامة من الذين أشركوا بهم، ومن الشيطان الرجيم الذي أغواهم بذلك ثم تبرأ من شركهم، وفي المقابل تعرض الآيات وصف جانب من إكرام الله -تعالى- لأهل الجنة في الجنة، ثم تضرب المثل للإيمان بالشجرة الطيبة، وللكفر بالشجرة الخبيثة وفي ذلك تقول:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:24: 27].
وتعاود الآيات الحديث عن كل من الكفار والمشركين، وعن مصيرهم في الآخرة، فتقول:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم:28: 30].
وفي المقابل تأمر الآية[31] رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يذكر المؤمنين بالمحافظة على إقامة الصلاة، وعلى الإنفاق مما رزقهم الله سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم البعث الذي لا بيع فيه ولا خلال.
وتنتقل الآيات[32: 34] إلى استعراض عدد من آيات الله -تعالى- في الخلق، التي تشهد لجلاله بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه، وبأنه -تعالى- هو الرزاق، صاحب الفضل والنعم على كل مخلوقاته، وإن كان بنو الإنسان -في غالبيتهم الساحقة- من الظالمين لأنفسهم بسبب كفرهم بنعم ربهم عليهم.
ثم تعرض الآيات[35: 41] إلى جانب من ابتهالات نبي الله إبراهيم -عليه السلام- لربه فتقول:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ) [إبراهيم:35: 41].
وتنتقل سورة"إبراهيم" إلى الحديث مرة أخرى عن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو بالشرك أو بالإغراق في المعاصي، وتصف ذلهم يوم الحساب موجهة الخطاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن الله -تعالى- مطلع على جميع أمور كل عبد من عباده، فتقول:
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) [إبراهيم:42: 47].
وتختتم هذه السورة الكريمة بالإشارة إلى أهوال يوم القيامة، بالتأكيد مرة أخرى على ذل المجرمين في هذا اليوم العصيب، محذرة الناس من أهواله ومن أخطار الشرك بالله الواحد القهار، فتقول:
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ * وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وَجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [إبراهيم:48: 52].
من ركائز العقيدة في سورة "إبراهيم":
(1) الإيمان بالله -تعالى- ربا واحدا أحدا، فردا صمدا، بغير شريك ولا شبيه ولا منازع، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله -وعلى رأسهم خاتمهم أجمعين- والإيمان باليوم الآخر وبما فيه من أهوال البعث، والحشر، والحساب، والجزاء، ومنه الخلود في الجنة ونعيمها، أو في النار وجحيمها.
(2) اليقين بأن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين الموحي به إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-، وأن كل ما فيه حق مطلق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(3) التصديق ببشرية كل الأنبياء والمرسلين، وعلى رأسهم النبي والرسول الخاتم صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين.
(4) التسليم بأن لله -تعالى- ما في السماوات وما في الأرض، وأنه -سبحانه- رب الكون ومليكه، خالقه ومبدعه ومدبر كل أمر من أموره، الملك الواحد القهار، الشديد الانتقام، الفعال لما يريد، الغني الحميد، العزيز الحكيم، صاحب الصراط المستقيم، الذي يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بعلمه ومشيئته.
(5) الإيمان بأن الضالين من الكفار والمشركين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا أعد الله -تعالى- لهم عذابا شديدا في نار جهنم وساءت مصيرا.
(6) اليقين أن بالشكر تدوم النعم وتزداد، وبالكفر يتنزل عذاب الله الشديد على الكافرين من العباد.
(7) التصديق بكل ما جاء في القرآن الكريم من أخبار الأمم السابقة، وبما أصاب المكذبين منهم من صور العقاب الإلهي، ومن وصف للجنة ونعيمها، وللنار وجحيمها.
(8) الإيمان بضرورة التوكل على رب العالمين حق التوكل.
(9) التسليم بأن من كرامة الإنسان أن تترك له حرية اختيار الدين الذي يريد أن يدين به نفسه لله.
(10) اليقين بأن الله -تعالى- هو خالق السماوات والأرض بالحق، وخالق كل شيء، وبأنه قادر على إفناء خلقه، والإتيان بخلق جديد، وأن ذلك ليس على الله بعزيز.
(11) التصديق بأن الله -تعالى- يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والقول الثابت هو شهادة أنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
(12) التسليم بأن الشيطان للإنسان عدو مبين.
من الإشارات الكونية في سورة "إبراهيم":
(1) الإشارة إلى حقيقة أن لله ما في السماوات وما في الأرض، والعلوم المكتسبة تحتم وجود مرجعية للكون في خارجه، وأن هذه المرجعية مغايرة للكون مغايرة كاملة، وتحكم كل صغيرة وكبيرة فيه.
(2) تأكيد أن الله -تعالى- هو خالق السماوات والأرض، والعلوم المكتسبة تثبت أن الكون ليس أزليا، ولا أبديا، بل له بداية يحاول العلماء تحديدها، وكل ما له بداية لابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية.
(3) التعبير عن دورة الماء حول الأرض بوصف إنزاله من السماء، وإلى إخراج الثمرات رزقا للعباد بإنزال الماء إلى الأرض.
(4) وصف تسخير الفلك لتجري في البحر بأمر الله، وتسخير الأنهار لتجري بالماء العذب، وتكون وسطا ملائما لمختلف أنواع الحياة التي لا تحيا إلا فيه، كما تحمل العباد وأمتعتهم وتجاراتهم من مكان إلى آخر، وفي ذلك إشارة إلى تعدد نعم الله على عباده.
(5) تأكيد استجابة الله -سبحانه وتعالى- لدعوة نبيه إبراهيم -عليه السلام- من أجل عمران مكة المكرمة، وفيض خيرات الأرض إليها، وقد تحققت هذه الدعوة بالفعل.
(6) الإشارة إلى حتمية استبدال أرضنا بأرض جديدة، واستبدال السماوات المحيطة بنا بسماوات غيرها، والعلوم المكتسبة ترجح ذلك وتدعمه.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها؛ ولذلك سأقصر حديثي في المقال القادم -إن شاء الله تعالى- على النقطة السادسة من القائمة السابقة فقط.
من الإشارات العلمية والتاريخية في الآية الكريمة:
أولا: في قوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ...):
في هذه الدعوة المخلصة التي أطلقها نبي الله إبراهيم -عليه السلام- إشارة إلى أن بعضا فقط من ذريته هم الذين أسكنوا في مكة المكرمة، وهم ولده إسماعيل -عليه السلام- وذريته التي جاء منها خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله النبي العربي -صلوات الله وسلامه عليه- وكان الله -تعالى- قد أمر نبيه إبراهيم بوضع زوجه هاجر ورضيعها إسماعيل عند مكان البيت الحرام الذي كان قد تهدم، وبقيت قواعده، فجاء بهما إبراهيم -عليه السلام- من بلاد الشام إلى مكة المكرمة، وأسكنهما في هذا الوادي غير ذي الزرع، انصياعا لأمر الله -تعالى-، ولم يكن بمكة يومئذ أنيس من الناس، ولا ماء للشرب، ولا زراعة ولا نبت إلا بعض الأشجار الشوكية. فترك لهما إبراهيم جرابا فيه شيء من التمر، وسقاء به قدر من الماء، ثم قفل راجعا في طريقه إلى بلاد الشام، فتبعته السيدة هاجر وهي تقول: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا ماء ولا شيء؟
ورددت مقولتها هذه مرارا، وهو يلتفت إليها، ولعلمها أنه نبي مرسل قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فأدار وجهه وأجابها بنعم، وانطلاقا من إيمانها الفطري العميق بالله -تعالى- قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت إلى رضيعها، وهي مطمئنة القلب، طيبة النفس، راضية بقدر الله -تعالى- واثقة في عظيم رحمته.
وانطلق نبي الله إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية(المنعطف) من وادي مكة استقبل بوجهه مكان البيت الحرام ورفع يديه إلى السماء داعيا بهذا الدعاء الكريم الذي سجلته الآيتان رقم[37، 38] من سورة "إبراهيم".
ثم لم يلبث ما عند أم إسماعيل من ماء أن نفد، وعطشت هي ورضيعها، فانطلقت تجري حتى قامت على أقرب جبل منها وهو الصفا لتنظر من فوقه هل ترى أحدا قادما، أو طيرا حافا بشيء من الماء، ثم هبطت وسعت سعي المجهود حتى أتت المروة فقامت عليها، فلم تر قادما، وفعلت ذلك سبع مرات، وتعظيما لهذا الموقف الكريم كانت فريضة السعي بين الصفا والمروة على كل حاج ومعتمر.
وبنهاية الشوط السابع أرسل الله -تعالى- إليها جبريل -عليه السلام- مطمئنا ومستجيبا لطلبها الماء، فضرب الأرض بجناحه أو بعقبه فتفجرت عين زمزم، وفار منها الماء، وفرحت السيدة هاجر بذلك فرحا شديدا، وجعلت تملأ السقاء بالماء، وتزم رأس العين حتى لا يتسرب ماؤها في أرض وادي مكة، ومن هنا سميت باسم زمزم، فقال لها جبريل -عليه السلام-: "لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله" (رواه البخاري في صحيحه).ومع فوران عين زمزم فاضت مياهها في الوادي، وجاءتها الطيور من كل صوب وحدب معلنة عن وجود الماء.
وبينما أم إسماعيل ورضيعها في هذه الحال مر بالمنطقة ركب من قبيلة جرهم قادمين من الشام بتجارة لهم، وهم في طريقهم إلى اليمن، فرأوا طيورا تحوم حول وادي مكة فأدركوا أن عينا من الماء قد تفجرت فيه، فأسرعوا الخطى إلى محط الطيور، واستأذنوا أم إسماعيل بالنزولعلى الماء فأذنت لهم، وبعثوا إلى اليمن من أتاهم بأهلهم إلى وادي مكة الذي أصبح مقصدا للكثيرين بعد أن شاع خبر تفجر ماء زمزم فيه، وتكاثر الناس في هذا الوادي وشعابه استجابة لدعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام.
وبعد أن بلغ إسماعيل أشده تزوج من قبيلة جرهم زيجتين، إحداهما بعد الأخرى، ثم جاء أمر الله -تعالى- برفع القواعد من البيت، فعاد إبراهيم إلى مكة المكرمة وتعاون مع ولده إسماعيل على إعادة بناء الكعبة المشرفة ورفعها من قواعدها، ولما تم لهما ذلك رجع إبراهيم إلى أرض فلسطين المباركة، تاركا ولده إسماعيل يرعى بيت الله، حتى أمره الله -تعالى- بدعوة قومه إلى دين الله، وهو الإسلام العظيم الذي بعث به جميع أنبياء الله ورسله من قبل ومن بعد إلى بعثة النبي والرسول الخاتم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أنبياء الله ورسله أجمعين.
وعاش أهل هذه البلاد على التوحيد، حتى جاءهم أحد شياطين الإنس وكان يدعي عمرو بن لحي الخزاعي الذي أضلهم بعبادة الأصنام التي كان قد جلبها إليهم من بلاد الشام، وكأي دعوة باطلة انتشرت عبادة الأصنام والأوثان، وعبادة النجوم والكواكب، وعبادة غيرها من الوثنيات المبتدعة انتشارا واسعا في جزيرة العرب، ونُسيت دعوة كل من إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام- وإن بقيت قلة نادرة من حنفاء العرب يذكرونها، ولا يستطيعون الدعوة إليها وسط ركام الوثنيات المبتدعة.
وهنا قد يتصور البعض أن الله -تعالى- قد أمر إبراهيم -عليه السلام- بوضع زوجته هاجر ورضيعها إسماعيل عند البيت الحرام لكي يعيدا بناءه من القواعد بعد أن يبلغ إسماعيل أشده، وهذا صحيح، ولكن نضيف إلى ذلك أن من أهداف هذه الغربة أن يأتي خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- من نسل نبي الله إسماعيل -عليه السلام- فيولد بمكة المكرمة أشرف بقاع الأرض على الإطلاق، تلك البقعة المباركة التي خلقها الله -تعالى- أول ما خلق من اليابسة، وأمر ملائكته ببناء أول بيت وضع للناس فيها استعدادا لمقدم أبينا آدم -عليه السلام- بها، فيلتقى أول النبوة بخاتمها، تأكيدا على وحدة رسالة السماء، وعلى الأخوة بين الأنبياء وبين الناس جميعا، وتأكيدا كذلك على وحدانية الخالق -سبحانه وتعالى- ولذلك أجرى الله -تعالى- على لسان نبيه إبراهيم قوله:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي ...) ولم يقل إني أسكنت ابني أو ولدي.
ومن الدقة العلمية المطلقة التي يتميز بها القرآن الكريم ما جاء في هذا النص القرآني من قول ربنا -تبارك وتعالى-: (... بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...) ولم يقل(بواد غير ذي نبت) وذلك لأن الزرع لا يتحقق إلا في الأماكن الآهلة بالسكان، ومنهم من يقوم بالزراعة إذا توافرت شروطها من التربة الصالحة والماء، والنبات كلمة عامة تشمل كل ما تنبته الأرض بالفطرة أو بالزراعة، ولما لم يكن في وادي مكة، أي ساكن ساعة أن وضع نبي الله إبراهيم زوجه أم إسماعيل ورضيعها عند قواعد الكعبة المشرفة فقد انتفت إمكانية وجود أية زراعة بها نفيا قاطعا؛ ولذلك قال -تعالى- على لسان نبيه إبراهيم:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...) ووادي مكة حينئذ لم يكن به إلا بعض أشجار من السلم، والسمر، والروح، وهي من الأشجار الشوكية التي لا تصلح إلا للوقود.
وفي قوله -تعالى-: (...عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ...) تأكيد على قِدم هذا البيت وحرمته، انطلاقا من قول ربنا -تبارك وتعالى-:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96].
وانطلاقا من أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العديدة، والتي منها:
(1) "كانت الكعبة خشعة على الماء فدحيت منها الأرض"(الهروي - الزمخشري).
(2) "دحيت الأرض من مكة، فمدها الله -تعالى- من تحتها فسميت أم القرى" (مسند الإمام أحمد305/4).
ويأتي العلم المكتسب ليؤكد هذه الحقيقة في أواخر القرن العشرين، كما يؤكد قول كل من ابن عباس وابن قتيبة -رضي الله عنا وعنهم أجمعين وعن جميع عباد الله الصالحين-: إن مكة المكرمة سميت باسم(أم القرى) لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض.
(3) "إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس" (صحيح البخاري722/1).
(4) "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها" (صحيح البخاري، ومسند أحمد).
(5) "إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة" (مصنف عبد الرزاق140/5).
هذه الدقة العلمية المطلقة في هذا النص القرآني الكريم من مثل:(... أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي...)، (...بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...)، (...عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ...) يضاف إليها إعجاز تاريخي في وصف هذه الواقعة التي كانت تفاصيلها قد محيت من ذاكرة الناس بعد مرور أكثر من ألفي سنة بين نبي الله إبراهيم -عليه السلام-(حوالي1861 ق. م. -1686 ق. م) وبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم(610 م -632 م).
ونص قصة إبراهيم -عليه السلام- في القرآن الكريم تشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن إن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، في نفس لغة وحيه(اللغة العربية) وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقى القرآن الكريم شاهدا على الخلق أجمعين إلى يوم الدين بأنه كلام رب العالمين، وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة والرسالة.
ثانيا: في قوله -تعالى-: (... رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ...):
هذا النص القرآني الكريم يمثل دعوة أطلقها أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- فتحققت، ولا تزال تتحقق إلى اليوم، وإلى ما شاء الله، فمن الثابت تاريخيا أنه لم يكن في وادي مكة ساكن واحد زمن بعثة إبراهيم -عليه السلام-، واليوم وصل تعداد سكانه المقيمين قرابة مليون نسمة، ووصل أعداد الحجاج والمعتمرين إلى عشرات الملايين في كل عام، ولا تزال قلوب الملايين من المسلمين تهفو لزيارة هذه البلدة المباركة سواء استطاعوا تحقيق ذلك أو لم يستطيعوه.
و(الفؤاد) هو داخل القلب أو هو قلب القلب، وجمعه(أفئدة)، و(التفؤد) هو التوقد شوقا ومحبة، يقال:(فأدت) اللحم أي شويته حتى تمت تسويته، ويقال: لحم(فئيد) أي: متقن الشوي إلى درجة التسوية الكاملة. والتعبير القرآني"فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" أي تسرع الخطى إليهم شوقا وتلهفا وودادا. يقال:(هوى)(يهوي)(هويا) إذا أسرع في السير طلبا لشيء عظيم محبوب، أو لأمر هام محبب إلى النفس.
وبالفعل استجاب الله -سبحانه وتعالى- لدعوة نبيه إبراهيم، فبعد أن رفع البيت الحرام من قواعده هو وولده إسماعيل -عليهما السلام- وبدآ في الدعوة إلى دين الله انتشر الإسلام في جزيرة العرب وفيما حولها من بلدان، وبدأت أفئدة المسلمين تهوي إلى حج بيت الله والاعتمار به حتى تجاوزت أعدادهم اليوم عشرات الملايين في كل عام، وكانت دعوة إبراهيم -عليه السلام-: (...فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ...) بشرى انتشار الإسلام بين كل أجناس الأرض وهو ما تحقق بالفعل.
ثالثا: في قوله –تعالى-:(... وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ...):
هذا هو الجزء الثاني من دعاء نبي الله إبراهيم -عليه السلام- للبعض من ذريته الذين أسكنهم في مكة المكرمة عند بيت الله الحرام، وقد استجاب الله -تعالى- لهذا الدعاء، فرزق أهل هذا الوادي غير ذي الزرع ثمارا تجبى إليه من كل مكان، ليكون ذلك عونا لهم على طاعة الله، وعلى الاستمرار في إعمار بيته الحرام، وخدمة حجيج هذا البيت والمعتمرين به.
وكانت هذه الثمار تأتي في القديم من كل من بلاد الشام والهند والصين في رحلات متباعدة؛ تحقيقا لقول ربنا -تبارك وتعالى-:(...أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:57].
أما اليوم فيؤتى بالأرزاق إلى مكة المكرمة وإلى الجزيرة العربية كلها من جميع بقاع الأرض، حتى لتجتمع فيها ثمرات الدنيا كلها على مدار فصول السنة دون انقطاع.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمدلله على بعثة النبي العدنان الذي ختم الله -تعالى- ببعثته الشريفة كل النبوات، وبرسالته الخاتمة كل الرسالات السماوية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.