news-details
الإعجاز التربوي

(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة العنكبوت: 16

من أسرار القرآن

مقالات جريدة الأهرام المصرية

(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة العنكبوت: 16

بقلم الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار

 

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الربع الأول من سورة العنكبوت‏،‏ وهي سورة مكية‏،‏ وآياتها تسع وستون‏(69)‏ بعد البسملة‏،‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود التشبيه فيها للجوء المشركين إلى أولياء من دون الله بلجوء العنكبوت إلى بيته‏،‏ وهو أوهن البيوت على الإطلاق من الناحيتين المادية والمعنوية‏، وهذا هو المقام الوحيد الذي جاء فيه ذكر للعنكبوت في كتاب الله‏.‏

ويدور المحور الرئيس لسورة العنكبوت حول قضية الإيمان بالله‏،‏ وتكاليف ذلك الإيمان‏،‏ مما قد يتعرض له المؤمنون بسبب تمسكهم بدين الله‏،‏ ودعوتهم إليه‏،‏ وهو نتيجة حتمية للصراع بين الباطل وأهله -من جهة- والحق وجنده -من جهة أخرى- وهي من سنن الوجود في حياتنا الدنيا‏.‏

هذا‏،‏ وقد سبق لنا استعراض سورة العنكبوت، وما جاء فيها من ركائز العقيدة‏،‏ والقصص‏،‏ والإشارات الكونية‏،‏ ونركز هنا على أحد المواقف المهمة في سيرة عبدالله ونبيه إبراهيم -على نبينا وعليه من الله السلام- والذي عرضته سورة العنكبوت بقول ربنا -تبارك وتعالي-‏:‏(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلاغُ المُبِينُ)  ‏[‏العنكبوت: ‏16‏-‏18].‏


أولا: من أوجه الإعجاز التاريخي في النص الكريم‏:‏

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة الحق" ‏(‏أخرجه الحاكم في المستدرك‏)، وعنه كذلك أنه قال‏:‏ "إن رجالا صالحين من قوم نوح هلكوا فوسوس الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا‏،‏ فلم تُعبد‏،‏ حتى إذا هلك أولئك‏،‏ وتنسخ العلم عُبدت‏"(‏صحيح البخاري‏).‏

وكانت هذه أول وثنية في تاريخ البشرية‏،‏ فبعث الله -تعالى- عبده ونبيه نوحا -عليه السلام- يدعو قومه إلى توحيد الله -سبحانه وتعالى- بجعل العبادة له وحده؛ لأنه ليس لهم من إله غيره‏،‏ فما آمن معه إلا القليل‏،‏ وعلى الرغم من ذلك استمر نوح في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاما‏،‏ فما زادتهم دعوته لهم إلا إصرارا على رفض دعوته وإيذائه‏،‏ واتهامه بالجنون‏،‏ وتهديده بالزجر والوعيد‏،‏ فلما يئس من هدايتهم دعا نوح ربه أن يهلك قومه المشركين‏،‏ فأمره الله -تعالى- أن يُعدَّ سفينة لنجاته ونجاة من آمن معه‏،‏ لأن الله -تعالى- أخبره بأنه سوف يُغرق هؤلاء المجرمين لطوفان عظيم‏،‏ وأن علامة بداية ذلك الطوفان هي ثورة بركان معروف في ديار قوم نوح‏،‏ وثار البركان وتفجرت الأرض بعيون الماء‏،‏ وهطلت السماء بأمطار غزيرة جدا‏،‏ وجاء الطوفان ليغرق مشركي قوم نوح، ونجى الله -تعالى- نوحا والذين آمنوا معه فعمروا الأرض على التوحيد الخالص لله تعالى.‏

ثم جاء الشيطان ليختال ذراريهم فأشركوا بالله‏،‏ وعبدوا الأصنام والأوثان، وغير ذلك مما سولته لهم أنفسهم‏،‏ فأرسل الله -تعالى شأنه- عددا من الأنبياء لهداية هؤلاء الضالين‏،‏ وكان ممن وصلنا خبره من هؤلاء الأنبياء كلٌّ من هود -عليه السلام- الذي أرسله ربنا -تبارك وتعالى- إلى قوم عاد‏،‏ وصالح -عليه السلام- الذي أرسل إلى قوم ثمود‏،‏ وظلت البشرية تنتقل من التوحيد لله إلى عبادة الأصنام والأوثان والنجوم والكوكب‏،‏ فبعث الله -سبحانه وتعالى- نبيه وخليله إبراهيم -عليه السلام- يدعو قومه الضالين إلى عبادة الله -تعالى- وحده‏،‏ فعاداه قومه وحاربوه حتى هجرهم إلى أرض فلسطين‏.‏

وتأتي هذه الآيات في سورة العنكبوت مؤكدة تلك الوقائع التاريخية بقول ربنا -تبارك وتعالى- على لسان إبراهيم لقومه‏:‏ (وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلاغُ المُبِينُ)  [العنكبوت: ‏18].‏

وجاءت هذه الآية الكريمة بعد آيتين كريمتين أخريين‏،‏ نصح فيهما إبراهيم -عليه السلام-قومه بعبادة الله -تعالى- وحده، وتقواه‏ والشكر له‏،‏ مستنكرا إفك عبادة الأصنام‏،‏ ومؤكدا أن الرزق من الله -سبحانه وتعالى- وحده‏،‏ وأن الخلق جميعا راجعون إلى بارئهم‏.‏

وجاءت هذه الآيات الثلاث بعد ذكر قصة نوح -عليه السلام- مع قومه إلى لحظة إغراقهم بالطوفان ونجاة نوح ومن كان معه‏،‏ ومن هنا فإن الإشارة إلى تكذيب الأمم من قبل قوم نبي الله إبراهيم هو من جوانب الإعجاز التاريخي في كتاب الله‏.‏

ثانيا: من جوانب الإعجاز الاعتقادي في النص الكريم‏:‏
‏(1)‏ التأكيد على أن عبادة الله -تعالى- وتقواه خير من عبادة الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب، أو عبادة الأوهام أو الشيطان، أو عبادة الشهوات أو الذات أو نفر من الناس، أو غير ذلك من صور الشرك بالله -تعالى-، والمنطق السوي يؤكد ذلك ويدعمه‏؛ ولذلك جاء في النص الكريم على لسان النبي الصالح إبراهيم مخاطبا قومه بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (...اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏)  [العنكبوت: ‏16].‏
(2)‏ الجزم بأن عبادة غير الله -تعالى- من مثل عبادة الأوثان هي من الإفك‏،‏ والإفك في اللغة هو كل مصروف عن الحق إلى الباطل في مجال الاعتقاد‏،‏ من الصدق إلى الكذب في القول‏،‏ ومن الجميل إلى القبيح‏في الفعل؛ ولذلك قال -تعالى- على لسان نبيه إبراهيم مخاطبا المشركين من قومه قائلا لهم‏:‏(إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا...)  ‏[العنكبوت: ‏17].‏
(3)‏ التقرير الصحيح بأن الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب وكل ما عُبد من دون الله غير ذلك لا يملكون رزقا لأحد‏،‏ ومن هنا كان من السفه عبادتهم‏،‏ والشرك في عبادة الله الواحد القهار‏،‏ ولذلك جاء قول ربنا -تبارك وتعالى- على لسان إبراهيم -عليه السلام- مخاطبا قومه قائلا لهم‏:‏(...إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا...)  ‏[العنكبوت: ‏17].‏
(4)‏ الأمر بابتغاء الرزق من الله -تعالى- وحده‏،‏ وبعبادته وشكره على عظيم نعمه‏،‏ وجاء ذلك في توجيهات إبراهيم -عليه السلام- لقومه، التي يوردها القرآن على لسانه بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (...فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ...)  [العنكبوت: ‏17].‏
(5)‏ تأكيد حتمية الرجوع إلى الله -تعالى-‏،‏ وموت جميع المخلوقات، من مختلف صور المادة والطاقة‏‏ إلى جميع الأحياء ومنهم الإنسان، خير شاهد على ذلك‏،‏ ومن هنا جاء تحذير إبراهيم -عليه السلام- لقومه بضرورة الاستعداد لتلك الرجعة إلى خالقهم للحساب والجزاء، قائلا ومؤكدا لهم بقول ربنا -تبارك وتعالى-: (...إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)  ‏[العنكبوت: ‏17].‏
(6)‏ تقرير حقيقة أن الإنسان فيه ميل إلى تكذيب الحق‏،‏ والخروج عليه‏،‏ ومسيرة الإنسان عبر التاريخ تؤكد ذلك وتدعمه‏؛ ولذلك قال ربنا -تبارك وتعالى- على لسان عبده ونبيه إبراهيم -عليه السلام- مخاطبا قومه مؤكدا هذا الواقع لهم بقوله‏:‏ (وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ...) ‏[العنكبوت: ‏18].‏
(7)‏ تأكيد حرية الإنسان في اختيار الدين الذي يدين به نفسه لخالقه‏؛ لأن على أساس من هذا الاختيار سيكون خلوده في الآخرة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏،‏ وجاء هذا التقرير على لسان إبراهيم لقومه بقول ربنا -تبارك وتعالى-‏:‏(... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلاغُ المُبِينُ) ‏[العنكبوت: ‏18].‏


ثالثا: من أوجه الإعجاز العلمي في النص الكريم‏:‏
‏(1)‏ تأكيد أن عبادة الله وتقواه خير‏،‏ والعلوم المكتسبة تشير إلى ضرورة وجود مرجعية للكون في خارجه‏،‏ وهذه المرجعية لابد أن تكون مغايِرة للكون ومكوناته مغايَرة كاملة‏،‏ فلا يحدها أي من حدود المكان والزمان‏،‏ ولا يشكلها أي من صور المادة والطاقة‏،‏ وهذه المرجعية هي واحدة لوحدة البناء في الكون‏،‏ وعبادتها والتزام أوامرها خير من أية عبادة أخرى‏.‏
(2)‏ تأكيد قيمة العلم، والتأكيد على أن كثيرا من الناس لا يعلمون فضل الإيمان بالله، برغم وضوح ذلك‏،‏ وبرغم العدد الهائل من الأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله -تعالى- لهداية الناس‏،‏ وبرغم ما أودعه -سبحانه وتعالى- في الجِبِلَّة الإنسانية من إيمان فطري‏،‏ وما علَّم أبانا آدم من عِلم‏؛ ولذلك جاء على لسان إبراهيم -عليه السلام- لقومه قوله لهم‏:‏ (...ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏) ‏‏ [العنكبوت: ‏16].
(3)‏ تقرير كرامة الإنسان بالتأكيد على أن عبادته لغير الله -تعالى- هي انحطاط بإنسانيته‏،‏ وهدر لكرامته التي كرمه بها الله‏.‏
(4)‏ القرار المنطقي بأن كل معبود غير الخالق -سبحانه وتعالى- لا يملك من أمره شيئا‏،‏ ولا يملك نفعا ولا ضرا‏،‏ ولا يملك من أمر الرزق شيئا؛ ولذلك جاء على لسان إبراهيم لقومه ما نصه‏:‏(...إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا...)  [العنكبوت: ‏17].‏
(5)‏ تأكيد أن الرزق من الله الخالق البارئ المصور‏،‏ والعلوم المكتسبة تشير إلى تخلق كل ما يحتاجه أهل الأرض في السماء‏،‏ ومن ذلك مركبات الغلاف الغازي للأرض‏،‏ وإنزال الماء الطهور من المزن‏،‏ وخلق كل ما تحتاج إليه الحياة الأرضية من عناصر في داخل النجوم‏،‏ وفي صفحة السماء‏،‏ ولا يملك ذلك كله أحد غير الله‏،‏ ولذلك جاءت نصيحة إبراهيم لقومه بقوله‏:‏ (...فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ...)  [العنكبوت: ‏17]‏.
(6)‏ الإشارة إلى وجوب عبادة الله -تعالى- وحده، وإلى ضرورة الشكر له على نعمة الخلق والصون والرزق‏،‏ ولذلك جاء على لسان إبراهيم -عليه السلام- نصيحته لقومه بذلك قائلا لهم‏:(...وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ...) .
(7)‏ تأكيد حتمية الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- بالبعث بعد الموت‏،‏ والحشر‏،‏ والحساب والجزاء‏،‏ ثم الخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏،‏ وهذه كلها من الأمور الغيبية غيبة مطلقة‏،‏ ولا سبيل للإنسان في الوصول إليها إلا عن طريق وحي السماء‏،‏ وإن كانت العلوم المكتسبة قد بدأت في التوصل إلى إمكانية البعث عن طريق الكشف عن عجب الذنب‏(The Primary Streak)‏ الذي سبق حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه بأكثر من ألف وأربعمائة سنة‏.‏

فالحمد لله على نعمة الإسلام‏،‏ والحمد لله على نعمة القرآن‏،‏ والحمد لله على بعثة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏