news-details
الإعجاز و التشريع

(وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) "البقرة:179"

من أسرار القرآن

مقالات جريدة الأهرام المصرية

(وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) "البقرة:179"

بقلم الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار

(351)

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الثاني من سورة "البقرة‏"،‏ وهي سورة مدنية‏،‏ وآياتها مائتان وست وثمانون ‏(286)‏ بعد البسملة‏،‏ وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق‏.

وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى معجزة أجراها ربنا‏-‏تبارك وتعالى‏-‏ على يدي عبده ونبيه موسي بن عمران‏-‏على نبينا وعليه من الله السلام‏-‏، وذلك حين تعرَّض شخص من قومه للقتل‏،‏ ولم يعرف قاتله‏،‏ فأوحى الله‏-‏تعالى‏-‏ إلى عبده موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة‏،‏ وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله‏،‏ ويخبر عن قاتله‏،‏ ثم يموت‏،‏ وذلك إحقاقا للحق‏،‏ وشهادة لله‏-‏سبحانه وتعالى‏-‏ بالقدرة على إحياء الموتى‏.‏

ويدور المحور الرئيس لسورة‏‏ "البقرة‏"‏ حول قضية التشريع الإسلامي‏،‏ في العبادات والأخلاق والمعاملات‏،‏ مع الإشارة إلى ركائز العقيدة الإسلامية بين ثنايا التشريع‏،‏ وإلى العديد من قصص السابقين‏،‏ وحقائق الكون‏.‏


من أوجه الإعجاز التشريعي في فرض القصاص:

جاءت لفظة "القصاص‏" في القرآن الكريم في أربع آيات، منها‏:‏
‏1‏- (الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ)  [البقرة‏:194].‏
‏2‏ - (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ‏[المائدة‏:45].‏

و‏(‏القصاص‏)‏ لغةً هو المساواة‏،‏ وهو التتبع من أجل تحقيق تلك المساواة‏،‏ واللفظة مأخوذة من القصة والقصص بمعنى تتبع الأخبار‏،‏ ومن قص الأثر بمعنى تتبع صاحبه‏،‏و‏(‏القصاص‏)‏ شرعا هو تتبع الدم بالقود‏،‏ بمعنى أن يعاقب المجرم بمثل فعله‏،‏ فيقتل كما قتل‏،‏ إذا كان قد قتل عمدا‏،‏ ويجرح كما جرح إذا كان قد جرح عمدا‏،‏ وذلك من منطلق المساواة بين الجريمة والعقاب‏.‏

والقصاص هو جزاء وفاق للجريمة المتعمدة، يقوم به ولي الأمر أو من ينيب عنه‏،‏ وليس المجني عليه أو وليه‏،‏ فالقتل اعتداء على النفس الإنسانية‏،‏ ومن العدالة أن يقتص ولي الأمر -أو من ينيب عنه‏- من القاتل المتعمد بمثل فعله‏،‏ ولا يجوز ترك ذلك لولي الدم وإلا عمت الفوضى، كما لا يجوز تعطيل القصاص بدعوى الرحمة بالجاني‏،‏ لأن القاتل إذا كان قد حرم أحدا من الحياة فمن العدل المطلق أن يحرم منها‏،‏ وذلك انتقاما للمقتول‏،‏ وشفاء لغيظ قلب وليه‏،‏ وبالتالي يتم الحفاظ على حياة المجتمع كله‏، ولذلك قال‏ -تعالى‏-:‏ (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)  [البقرة‏:179].‏

من هنا تتضح الحكمة من فرض القصاص؛ حتى لا تسود الفوضى في المجتمعات الإنسانية، وتنتشر فيها اضطرابات القتل والقتل المضاد‏-أي الأخذ بالثأر‏-‏ في دوامات مهددة لسلامة المجتمع وأمنه‏،‏ تضيع فيها أرواح الأبرياء بالعشرات إن لم يكن بالمئات‏،‏ ولا تنتهي إلا بالقضاء العادل بين الناس، وذلك بتطبيق القصاص‏.‏
من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة التي نحن بصددها ما يلي‏:‏
‏(1)‏ أن فائدة تطبيق القصاص تشمل المجتمع كله، وليست مقصورة على أولياء الدم‏،‏ ومن هنا جاء الخطاب إلى الجماعة بتعبير‏"ولكم‏".‏
‏(2)‏ أن القصاص يضمن المساواة بين الجريمة والعقوبة‏،‏ مما يجعله مانعا قويا لاطراد الجريمة في المجتمع‏،‏ ويجعل منه سدًّا منيعًا أمام إهدار الدماء الذي يهدد حياة الجماعة بالفناء في عمليات من الثأر المتبادل‏.‏
‏(3)‏ أن إيراد لفظة‏"حياة‏"‏ بغير‏"ال‏"‏ التعريفية هو من قبيل التأكيد على أن الحياة الآمنة من الجريمة هي الحياة الحقيقية‏،‏ فمن عرف أنه إذا قتل عامدا فإنه سوف يُقتل فإنه بالقطع سوف يحافظ على حياة غيره صونا لحياته هو‏،‏ وسوف يتردد ألف مرة إذا سولت له نفسه الإقدام على جريمة قتل‏.‏
‏(4)‏ أن الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى أولي الألباب، أي‏:‏ أولي العقول والنُّهى‏؛ وذلك للتأكيد على أن الحكمة من هذا التشريع الإلهي لا يدركها إلا عقلاء الناس من أصحاب البصيرة، الذين يعلمون أن أمن الجماعة هو أمن لكل فرد فيها‏،‏ ومن هنا كانت التضحية بفرد مجرم فيه سلامة الجميع‏،‏ وهذا جانب واحد من حكمة تشريع القصاص‏.‏
‏(5)‏ أن قيام ولي الأمر‏-أو من ينيب عنه‏- بتنفيذ القصاص فيه حفظ لأمن المجتمع‏وسلامته،‏ وصون لدماء الأبرياء من أفراده‏؛ لأنه إن لم يقم بذلك ولي الأمر بدأت دوامة الثأر والثأر المضاد التي قد لا تتوقف لعدد من الأجيال المتتابعة، التي يعين شياطين الإنس والجن على إشعال الفتن فيها‏.‏

وهذا النوع من القصاص يؤكد اهتمام الإسلام بالنفس الإنسانية‏،‏ وتحريمه إيذائها بالقتل أو بالتشويه‏؛ لأن الإنسان في الإسلام مخلوق مكرم‏،‏ ولأن الحق في الحياة الآمنة هو حق ثابت لكل فرد في المجتمع الإنساني‏،‏ وعلى كل معتدٍ أن يلقى جزاءه من نفس العمل‏، فإذا علم الفرد في المجتمع أنه إذا أقدم عامدا متعمدا على قطع يد فرد آخر في المجتمع فإن يده سوف تقطع، كان في ذلك رادع كافٍ لمنعه من ارتكاب تلك الجريمة‏.‏

كذلك يشرع القصاص في كل من اللطمة والضربة والسبة‏،‏ وفي غير ذلك من الأضرار التي قد يتعرض لها الفرد في المجتمع، وذلك بشرط المكافأة والمساواة في تطبيق القصاص‏،‏ على ألا يتسبب ذلك في ضرر أكبر‏،‏ ويشترط في قصاص السب ألا يكون بشيء محرم‏.‏

والقصاص لا يكون إلا في العدوان المقصود المتعمد‏،‏ ولا يتحقق ذلك إلا ممن كان كامل الأهلية‏،‏ حر الإرادة‏،‏ على ألا يكون الفعل بحق‏،‏ أي أن يكون للفاعل حق فيما أقدم عليه مما قررته الشريعة الإسلامية‏،‏ كأن يكون القتل دفاعا عن النفس أو المال أو العرض‏.‏

وفي القصاص لا يقتل القاتل إلا بعد أخذ رأي أهل القتيل فيه‏،‏ فإن طلبوا قتله أمر ولي الأمر بقتله‏،‏ ويكون القتل كفارة له‏،‏ وإن عفوا عنه أمر ولي الأمر بالعفو عنه بعد أن يدفع الدية‏(‏التعويض المادي‏)،‏ وعليه الكفارة‏،‏ وهي عتق رقبة مؤمنة‏،‏ فإن لم يجد فعليه صوم شهرين متتابعين‏.‏

ويثبت الحق في القصاص باعتراف القاتل‏،‏ أو بشهادة رجلين يُعرف عنهما الصلاح والتقوى‏، وقد فصَّل الأخ الكريم الدكتور السيد مصطفى أحمد أبو الخير، الخبير في القانون الدولي، قضيةَ القصاص في مقاله المعنون‏:‏ "رائعة التشريع الجنائي الإسلامي في القصاص‏"‏ والذي تطرق فيه إلى تفصيلات هذا الحكم الشرعي، وبيان جوانب من فضله وعدله‏.‏

وفي ظل الحضارة المادية المعاصرة‏،‏ التي يقيس فيها أغلب الناس بمعاييرهم البشرية القاصرة‏،‏ حاول بعض المتعالمين التطاول على حد القصاص‏،‏ معتبرين أن قتل النفس الإنسانية لا يليق أن يمارسه المجتمع في عصر التنوير الذي يدَّعونه‏،‏ وهو في الحقيقة عصر الظلام‏؛ لأن الإنسان أذا عاش بأحكامه هو‏،‏ متجاهلا أحكام خالقه‏،‏ فإنه لا يمكنه أبدا أن يرى النور أو أن يحقق العدالة الاجتماعية‏.‏

وانطلاقا من هذه الفلسفة المادية المحضة بدأت بعض الدول الأوروبية في إلغاء عقوبة الإعدام‏،‏ فألغت بلجيكا العقوبة عمليا في سنة‏1863‏ م‏، وتبعتها هولندا سنة‏1870‏ م‏،‏ ثم إيطاليا‏ 1890‏ م‏،‏ والنمسا ‏1918‏ م‏،‏ ثم كل من ألمانيا والدنمارك ‏1930‏م‏،‏ وتابعتها في ذلك بقية الدول الغربية بالتدريج‏؛ ففي سنة ‏1964‏ م‏‏ أصدرت بريطانيا قانونا بإلغاء الإعدام،
وفي مقال بعنوان "ماذا جرى في البلاد التي ألغت عقوبة الإعدام؟‏"‏ لخَّص الدكتور حافظ يوسف ما نشرته مجلة ريدرز دايجست‏(READERS DIGEST)‏ في سنة ‏1995‏ م‏‏ تحت عنوان‏ "الجريمة في أمريكا.. هل تسير إلى الأسوأ؟‏"‏ جاء فيه‏:‏ أنه بعد عشر سنوات من دراسة الجريمة في أمريكا توصل إلى ما يلي‏:‏
‏(1)‏ أن ثلث من أُدينوا بجريمة القتل في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا من معتادي الإجرام الذين أُفرج عنهم تحت نظام التعهد أو نظام الوضع تحت الرقابة‏.‏
‏(2)‏ أن الذين أُفرج عنهم سنة ‏1992‏ م‏ ممن أُدينوا بجريمة قتل قضوا في المتوسط‏(5: 9)‏ سنة فقط من متوسط أحكام بلغت ‏(4: 12)‏ سنة‏.‏
‏(3)‏ في مدينة نيويورك تم الإفراج المبكر عن مجرم اعتاد اغتصاب النساء بدعوى حسن سلوكه في داخل السجن‏.‏
‏(4)‏ تضاعفت فرص تعرض الفرد ليكون ضحية لجريمة عنف عدة مرات خلال السنوات الثلاثين الأخيرة‏.‏
‏(5)‏ رغم الارتفاع الرهيب لمعدل الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا فإن هذا المعدل يزداد سوءا باستمرار‏؛ ففي ديسمبر‏ 1996‏ م‏ سجلت‏ "هيئة العدالة للجميع‏" -وهي هيئة أمريكية‏- على شبكة المعلومات الدولية‏(‏الإنترنت‏)‏ تقريرا مفصلا جاء فيه‏:‏
‏-‏ إنه خلال ثلاثين عاما‏(‏من‏1966-1995‏ م‏)‏ وقعت خمسمائة وسبعون ألف‏(000،570)‏ جريمة قتل في الولايات المتحدة الأمريكية‏(‏بمتوسط حوالي عشرين ألف جريمة سنويا‏)‏ لم ينفذ حكم الإعدام فيها إلا في ثلاثمائة مجرم فقط بنسبة‏ (053-0%).‏
‏-‏ إنه في الفترة بين عامي‏ (1973‏ م‏،1995‏ م‏)‏ تم إصدار الحكم بإعدام‏5700 قاتل، ولكن لم ينفذ الإعدام إلا في‏230 فقط من هؤلاء القتلة‏.‏

 كذلك أظهر استقصاء قام به معهد جالوب ‏(GALLOP)‏ في الولايات المتحدة الأمريكية سنة‏ 1991‏ م‏ أن ‏76% من الجمهور الأمريكي يحبذون تطبيق عقوبة الإعدام على مستحقيها‏،‏ في حين يعارضها ‏18% فقط‏،‏ بينما كانت هذه النسب سنة ‏1966‏ م‏ على عكس ذلك‏،‏ فقد كان المحبذون لتطبيق عقوبة الإعدام ‏42% والمعارضون لذلك ‏47%.‏

من هذا الاستعراض يتضح لنا وجه من أوجه الإعجاز التشريعي في كتاب الله، وذلك بفرض القصاص الذي قال فيه ربنا -تبارك وتعالى-:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة‏:178، 179].‏

وفي ذلك يقول صاحب الظلال‏ -رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم‏-: "إن الغضب للدم فطرة وطبيعة‏،‏ فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص‏، فالعدل الجازم هو الذي يكسر شَرَهَ النفوس‏،‏ ويفثأ حنق الصدور‏،‏ ويردع الجاني كذلك عن التمادي‏،‏ ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو‏،‏ ويفتح له الطريق‏،‏ ويرسم له الحدود‏،‏ فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع‏،‏ لا فرضا يكبت فطرة الإنسان ويُحمِّلها ما لا تطيق‏".‏

من ذلك كله يتضح وجه الإعجاز التشريعي في فرض القصاص الذي يحقق للمجتمعات الإنسانية فرصة الحياة الآمنة، وهي الحياة الحقة؛ لأن الحياة بلا أمن هي عين الشقاء‏.‏

فالحمد لله على نعمة الإسلام‏،‏ والحمد لله على نعمة القرآن‏،‏ والحمد لله على بعثة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏