news-details
الإعجاز و العلم

(...فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ...) [الحج: 5]

(...فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ...) [الحج: 5]

من أسرار القرآن

مقالات جريدة الأهرام المصرية

بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار

       وتشير الآيات إلى أن مِن الناس مَن يعبد الله‏ -‏تعالى‏- على حرف؛ طمعًا في كريم عطائه فقط،‏ فإن أصابه خير اطمأن به،‏ وإن ابْتُلِي بفتنة انقلب على عقبيه، فخسر الدنيا والآخرة،‏ وذلك هو الخسران المبين.
       وتحذر سورة "الحج" من الشرك بالله -‏تعالى-، واصفة هذه الجريمة الشنعاء بالضلال المبين،‏ ومؤكدة عجز الشركاء المزعومين عن نفع أو ضر من أشركوهم -زورًا وعدوانًا- في عبادة الله‏.‏
       وتؤكد السورة الكريمة أن الله‏ -‏تعالى‏-‏:(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)‏ [الحج‏:14].
       كما تؤكد تعهد الله‏ -تعالى- بنصرة خاتم أنبيائه ورسله -‏صلى الله عليه وسلم‏- وبنصرة كل من آمن به في زمانه ومن بعده إلى قيام الساعة،‏ رغم كيد الكائدين،‏ وحقد الحاقدين،‏ وتآمر المتآمرين من الكفار والمشركين في كل وقت وفي كل حين.
       وفي التأكيد على قيمة القرآن العظيم يقول ربنا‏ -‏تبارك وتعالى‏-:(وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ)[الحج‏:16].
       وفي الفصل بين أصحاب الملل والنِّحَل المختلفة يومَ القيامة تفوض الآيات الأمر إلى الله -‏تعالى‏- مؤكدةً أن جميع ما في الوجود ومن فيه يسجد لله‏ -‏تعالى‏-‏ في عبودية كاملة وخضوع تام، إلا عصاة الإنس والجن،‏ وتوضح الآيات أن هذه العبودية لله والخضوع لجلاله يمثلان قمة التكريم للمخلوقات؛ لأن من يعرض عن عبادة ربه من أصحاب الإرادة الحرة ليس له من مُكرِم في الدنيا ولا في الآخرة‏؛ ولذلك مايزت الآيات بين عذاب الكافرين في الآخرة‏‏ ونعيم المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات،‏ وأكدت أن من ألوان الكفر بالله -‏تعالى‏-‏ الصد عن سبيله‏ وعن المسجد الحرام،‏ والظلم والإلحاد فيه،‏ وقد هدى الله‏ -سبحانه وتعالى‏-‏ نبيه إبراهيم‏ -عليه السلام- إلى مكانه،‏ وأمره برفع قواعده،‏ وإعادة بنائه،‏ وعبادة الله‏ -تعالى- فيه،‏ وتوحيده التوحيد الخالص،‏ والعمل على تطهيره للطائفين والقائمين والركع السجود،‏ وأن يؤذِّن في الناس بالحج إليه يأتوه من كل فج عميق،‏ وبذلك أسست سورة "الحج" لهذا الركن من أركان الاسلام‏:‏ حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا،‏ وشرعت لما في هذه الفريضة من تعظيم للبيت الحرام ولشعائر الله.‏
       وحذَّرت الآيات في سورة "الحج" من انتهاك حرمات الله،‏ وأمرت بالحلال من الطعام،‏ وباجتناب الرجس من الأوثان‏ واجتناب قول الزور،‏ ودعت إلى الحنيفية السمحة،‏ وحذرت المشركين بالعذاب المهين،‏ وأكدت أن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب‏.
       وتعاود الآيات في سورة "الحج" التأكيد على وحدانية الله -‏سبحانه وتعالى-‏ وعلى ضرورة الخضوع الكامل لجلاله بالإسلام له،‏ وتأمر خاتم الأنبياء والمرسلين‏ -صلى الله عليه وسلم‏- أن يبشر بخيري الدنيا والآخرة‏ المتواضعين لله،‏ المطمئنين إلى عدالة حكمه،‏ والذين تخشع قلوبهم بذكره،‏ والصابرين على قضائه،‏ والمقيمين للصلاة في عبادة خالصة له،‏ والمنفقين في سبيله مما رزقهم سرًّا وعلانية.
       وأشارت الآيات في سورة "الحج" إلى أن من شعائر هذه الفريضة العظيمة النحر لله‏ -تعالى- إيمانًا به،‏ وتقربًا إليه،‏ وتقوى له،‏ فإذا ذبحت البدن بعد ذكر اسم الله -‏تعالى‏-‏ عليها أكل منها مقدمها وأطعم السائل وغيره؛ ولذلك سخرها الله‏ -‏سبحانه وتعالى-‏ لهم،‏ وذلك من قبيل شكره‏ -تعالى-‏ على وهب تلك البدن لهم،‏ وعلى هدايته إياهم إلى الدين الحق،‏ وقد بشرهم بالقبولبقوله‏ -‏عز من قائل‏-:‏(لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ)‏[الحج‏:37].
       ويتكرر في سورة "الحج" الإذن بالقتال الدفاعي للذين ظلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، كما حدث -ولا يزال يحدث- مع إخواننا الفلسطينيين على مدى نصف قرن من الزمان،‏ وإخواننا الأفغان والعراقيين،‏ ومسلمي البلقان،‏ والشيشان،‏ وكشمير،‏ وأراكان،‏ وجنوب الفلبين،‏ وفي شرقي تيمور،‏ وجزر الملوك في إندونيسيا،‏ وفي غرب السودان وجنوبها،‏ وفي كلٍّ من الصومال،‏ وسبتة،‏ ومليلية،‏ وجزر ليلى من أراضي المغرب العربي،‏ وفي غير ذلك من أراضي المسلمين المستباحة اليوم بالمعتدين الظلمة، وعلى الرغم من ذلك كله تؤكد الآيات أن الله -‏تعالى‏-‏ سوف ينصر من ينصره وهو القوي العزيز،‏ فإذا أردنا دحر كل المعتدين علينا -مهما تعاظمت أسلحتهم،‏ وخبث مكرهم-علينا الرجوع إلى الله‏ -‏تعالى‏-‏ بصدق،‏ وهو القادر على أن يرينا فيهم عجائب قدرته‏.‏
       وفي المقابل تصف الآيات في سورة "الحج" أخلاق أنصار الله‏ -تعالى- إن مُكِّنوا في الأرض فتقول‏:‏(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)‏[الحج‏:41]. ‏
       ثم توجه الآيات الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين‏ -‏صلى الله عليه وسلم‏-‏ في مواساة رقيقة من رب العالمين، تشد من أزره في مواجهة تكذيب الكفار والمشركين لنبوته ولبعثته الشريفة، واستهانتهم باستعجال العذاب،‏ فقد كذبت أمم من قبله أرسل الله أنبياءه إليهم فأهلكم الله،‏ وفي ذلك يقول له رب العالمين‏:
(وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَاوَهِيَظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِير)[الحج‏:42‏: 48].‏

       وتطالب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏ -‏صلى الله عليه وسلم‏-‏ بأن يعلن للناس جميعًا طبيعة بعثته الشريفة أنه نذير مبين لهم من لدن رب العالمين، فتقول آمرة إياه بأمر الخالق العظيم‏:‏(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ)[الحج‏:49‏: ‏51].
       وتحذر الآيات في سورة "الحج" من غفلة الكفار والمشركين عن الكم الهائل من الحقائق العلمية والدينية والغيبية في القرآن الكريم،‏ ومن ترددهم في قبوله،‏ وشكهم وقلقهم من حجيته حتى يوافيهم الموت فجأة وهم في ضلالهم القديم، أو يأتيهم عذاب الله في الدنيا عذاب يوم عقيم، فتقول‏:‏
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)[الحج:54‏،55].

       ثم تكرر سورة "الحج" التفريق بين جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من نعيم مقيم في الآخرة،‏ وجزاء الذين كفروا وكذبوا بآيات الله أو أشركوا به من عذاب مهين وجحيم دائم،‏ وتؤكد ثواب المهاجرين في سبيل الله،‏ والمجاهدين من أجل إعلاء دينه وإقامة عدله في الأرض،‏ مؤكدة مرة أخرى ما أخذه الله‏ -‏تعالى‏- على ذاته العلية من عهد بنصرة كل مظلوم،‏ والقصاص من الظالم مهما أملى له الله سبحانه‏ تعالى.‏
       واستشهدت سورة "الحج" بعدد من آيات الله في الكون على حقيقة الألوهية والربوبية والوحدانية،‏ وعلى شيء من صفات هذا الخالق العظيم؛ لتَخْلُص إلى القول القاطع‏:‏(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) [الحج‏:62].‏
       وتؤكد الآيات خروج بعض الأمم عما جاءهم من الحق،‏ وحتى أصبحوا يكرهون الاستماع إلى الحق الذي أنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين -‏صلى الله عليه وسلم‏-، وفي ذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-:‏
(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير * وَإِذَاتُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وَجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ المَصِيرُ)[الحج‏:71، 72].

       وتختتم سورة "الحج" بوصية من الله‏ -تعالى-‏ لعباده المؤمنين، يوضح لهم فيها حقيقة الوحي،‏ ويعرض عليهم شيئًا من صفاته العليا،‏ ومن حقوقه عليهم، فيقول -عز من قائل‏-:‏
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج‏:75‏: ‏78].‏

       وبذلك تختتم سورة "الحج" التي احتوت قدرًا من العبادات والتشريعات المفروضة، بالإضافة إلى التأكيد على قدر من ركائز العقيدة الإسلامية كما علمها ربنا‏ -‏تبارك وتعالى‏-‏ لأبينا آدم‏ -عليه السلام‏-‏ لحظة خلقه،‏ وأنزلها على فترة من أنبيائه ورسله،‏ وجمعها وحفظها في رسالته الخاتمة التي أنزلها على خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم‏.

من العبادات المفروضة في سورة "الحج":
‏(1)‏ إقامة الصلاة.
‏(2)‏ إيتاء الزكاة.
‏(3)‏ حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلًا،‏ وتعظيم شعائر الله فيه‏.‏
‏(4)‏ الجهاد في سبيل الله؛ دفعًا لظلم الظالمين، وحفاظًا على حقوق الناس أجمعين‏،‏ وإقامة لعدل الله في الأرض.
‏(5)‏ التواصي بالحق والتواصي بالصبر،‏ وبتقوى الله حق تقاته،‏ والاعتصام بحبله المتين‏.‏
‏(6)‏ التخلص من الشرك بكل صوره وألوانه ومراتبه‏.‏
‏(7)‏ الامتناع عن قول الزور أو العمل به.
‏(8)‏ محاربة الشيطان ووساوسه‏ وأعوانه‏ وجنوده‏.‏
‏(9)‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل زمان ومكان‏.

 

من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة "الحج":
‏(1)‏ الإيمان بالله‏ -تعالى- ربًّا خالقًا،‏ واحدًا أحدًا، ‏بغير شريك،‏ ولا شبيه،‏ ولا منازع،‏ ولا صاحبة،‏ ولا ولد؛ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين،‏ والله -تعالى- منزه عن جميع صفات خلقه‏، والتسليم بالغيب المطلق دون الخوض فيه إلا بعلم من الله -‏تعالى‏-‏ أو من خاتم رسله‏صلى الله عليه وسلم‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن الله -‏تعالى‏-‏ هو الحق،‏ وهو القوي العزيز،‏ السميع‏ العليم‏‏ البصير،‏ مالك الملك،‏ الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم،‏ والذي يفعل ما يشاء،‏ وهو على كل شيء شهيد،‏ وهو الذي يدافع عن الذين آمنوا،‏ والذي تعهد بنصرة كل من ينصر دينه،‏ ويجاهد من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض،‏ وإقامة عدله فيها‏.‏
‏(3)‏ التسليم بأن لله يسجد كل ما في السماوات والأرض وكل من فيهما ماعدا عصاة الجن والإنس،‏ وبأن من يُهِن الله فما له من مُكرِم،‏ وأن إلى الله ترجع الأمور،‏ ثم يفصل بين أصحاب المِلل المختلفة يومَ القيامة.
‏(4)‏ الإيمان بأن الله‏ -‏تعالى‏-‏ يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس،‏ وأن من حقه على عباده الإيمان بملائكته،‏ وكتبه،‏ ورسله،‏ واليوم الآخر،‏ وبخاتم الأنبياء والمرسلين‏ -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏-‏ وبالكتاب الخاتم الذي أنزل إليه‏ -‏القرآن الكريم‏-‏ وبأنه المهيمن على جميع الكتب السابقة، والناسخ لها بلا استثناء.
‏(5)‏ اليقين في حقيقة البعث‏‏ وحتميته،‏ وبما يتبعه من حساب وجزاء وخلود في الجنة أبدًا، أو في النار أبدًا.

من الإشارات الكونية في سورة "الحج":
‏(1)‏ التأكيد على خلق الإنسان من تراب،‏ ثم من نطفة،‏ ثم من علقة،‏ ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة إلى آخر تلك المراحل ‏-التي لم تُعرف إلا بعد اختراع المجاهر في أواخر القرن السابع عشر الميلادي‏- حتى يخرج إلى الحياة طفلا،‏ يحيا ما شاء الله‏ -‏تعالى‏- له أن يحيا،‏ ثم يتوفاه الله‏ -‏سبحانه وتعالى- عند نهاية أجله،‏ وإذا امتد به الأجل إلى أرذل العمر ضعفت ذاكرته في أغلب الأحوال حتى لا يعلم من بعد علم شيئًا، وفي ذلك كسر لغرور الإنسان بشبابه وعجبه بقوته فيه،‏ وتذكير له بالضعف بعد القوة‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلى اهتزاز التربة،‏ وارتفاعها، وإنباتها من كل زوج بهيج بمجرد إنزال الماء عليها،‏ وتشبيه بعث الإنسان من قبره بعملية خروج النبات من تربة الأرض.
‏(3)‏ إثبات نسبية كلٍّ من المكان والزمان في منظور الإنسان، وما في ذلك من إشارة إلى ضخامة الكون وقدمه، انطلاقًا من قول الحق -‏تبارك وتعالى-:‏ (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)‏ [الحج‏:47].
‏(4)‏ التعبير بولوج كلٍّ من الليل والنهار في الآخر عن كروية الأرض،‏ وعن دورانها حول محورها أمام الشمس.
‏(5)‏ الإشارة إلى اخضرار الأرض بمجرد إنزال الماء عليها من السماء‏.‏
‏(6)‏ تأكيد حقيقة أن الله‏ -‏تعالى-‏ يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه،‏ وأن جميع من في السماوات والأرض يسجد لله‏ -‏تعالى‏-‏ طوعًا أو كرها،‏ وأن كل ما في الأرض مُسخَّرللإنسان، وكذلك جري الفلك في البحر بأمر الله‏.‏
‏(7)‏ إثبات أن كل المخلوقين -أفرادًا ومجتمعين‏-‏ وكل ما عبدوا من دون الله من الأصنام والأوثان يعجزون عجزًا كاملًا عن خلق ذبابة،‏ فضلًا عن عدم إمكانهم استنقاذ ما يسلبه الذباب منهم.
       وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها؛ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا على النقطة الأولى في القائمة السابقة، والتي جاءت في الآية الخامسة من سورة "الحج"‏.‏

 

من الدلالات العلمية للنص الكريم:
أولًا:‏ في قوله -تعالى-‏: (...‏ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ‏...)[الحج:5]:‏
       هذا النص القرآني المعجز يشمل خلق أبينا آدم‏ -‏عليه السلام-‏ من تراب،‏ ونسله جميعا -حتى قيام الساعة-‏ كانوا في صلبه لحظة خلقه؛ ولذلك فإن خلقه من تراب ينسحب على كل فرد من ذريته‏؛‏ لأن كل فرد من بني آدم يرث شيئًا من هذا التراب الأوَّلي الذي خلق منه أبوه الأول،‏ وهذا الشيء الموروث ينمو على دماء أمه وهو في بطنها،‏ والدماء مستمدة من غذائها‏ المستمد أصلًا من عناصر تراب الأرض،‏ ثم بعد ولادته يفطم على لبن أمه أو على لبن غيرها من المرضعات، وهو مستمد أيضًا من غذاء الأم المستمد من عناصر تراب الأرض‏، وبعد فطامه يتغذى الطفل على كلٍّ من نبات الأرض والمباحات من المنتجات الحيوانية، وكلها مستمدة أصلًا من تراب الأرض؛ ولذلك فهناك تشابه واضح بين التركيب الكيميائي لكلٍّ من جسم الإنسان‏‏ وتربة الأرض الزراعية،‏ مع زيادة واضحة في كلٍّ من عناصر الأكسجين والهيدروجين والكربون والفوسفور في جسم الإنسان‏؛‏ وذلك لغلبة الماء فيه بالنسبة للعنصرين الأولين،‏ وللاستفادة بثاني أكسيد الكربون المستمد من الجو في بناء سلاسل الغذاء،‏ ولقدرة كلٍّ من النبات والحيوان والإنسان على تركيز عنصر الفوسفور في الجسم‏،‏ من هنا كانت الإشارة القرآنية‏:‏(...‏ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ‏...) إشارة معجزة بحق؛ لأنه لم يكن لأحد من البشر إدراك هذه الحقيقة في زمن الوحي،‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏.‏

ثانيًا:‏ في قوله تعالى‏:‏ (ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ‏...‏):
       بسبب استطالة الزمن بين الخلق من التراب والخلق من النطفة استخدم القرآن الكريم حرف العطف‏(‏ثم‏)‏ الذي يدل على الترتيب مع التراخي، مما يقتضي تأخر ما بعده عما قبله،‏ إما تأخيرًا بالذات، أو بالمرتبة، أو بالوضع‏.‏ 

       و‏(‏النطفة‏)‏ في اللغة العربية هي القليل من الماء الذي يعدل قطرة أو بضع قطرات،‏ يقال‏:(‏نَطَفَ‏)‏ الرجل‏(‏يَنْطِفُ‏)‏ و‏(‏يَنْطُفُ‏)(‏نَطْفًا‏)‏ و‏(‏نُطْفَانًا‏)‏ بمعنى‏:‏ يتقاطر منه الماء بعد وضوئه أو غسله‏.‏ ويقال‏:(‏نَطَفَت‏)‏ القربة إذا قطرت من‏(‏النَّطف‏)‏ بمعنى التقاطر للماء قطرة قطرة‏.‏ و‏(‏النُّطْفَة‏)‏ أيضًا هي الماء الصافي القليل، مثل قليل الماء الذي يبقى في الدلو أو القِرْبة،‏ ويعرف باسم‏(‏النطافة‏)‏ وجمعها‏(‏نُطَفٌ‏)‏ و‏(‏نِطَافٌ‏).‏
       ويقال‏:‏ ليلة‏ (‏نطوف‏)‏ أي باتت تمطر حتى الصباح. و‏(‏النطف‏)‏ الدلو،‏ والواحدة منه‏(‏نطفة‏).‏
       وتسمى صغار اللؤلؤ باسم‏(‏النُّطَف‏)‏؛ تشبيها لها بقطرات الماء‏.‏ ويستعار‏(‏النطف‏)‏ للكرم وفعل الخير، فيقال‏:‏ فلان‏(‏منطف‏)‏ المعروف، أي يتقاطر المعروف منه، بمعنى أنه دائم المعروف،‏ و‏(‏ينطف‏)‏ بالخير أي‏:‏ يُنَدِّي به، إشارة إلى ديمومة ذلك منه‏.‏ 

       وقد استخدم القرآن الكريم لفظة‏(‏النُّطفة‏)‏ للتعبير عن خلية التكاثر ‏(Gamete)،‏ سواء كانت مؤنثة ‏(Ovum)‏ أو مذكرة ‏(Sperm)، وجمعها‏(‏نُطَفٌ)‏ و‏(‏نِطَافٌ‏)،‏ وجاءت بهذا المعنى في اثنتي عشرة آية هي‏: [النحل‏:4، الكهف‏:37، الحج‏:5،‏ المؤمنون‏:13، 14،‏ فاطر‏:11،‏ يس‏:77،‏ غافر‏:67،‏ النجم‏:46،‏ القيامة‏:37،‏ الإنسان‏:2،‏ عبس‏:19].‏
       كذلك سمى القرآن الكريم اتحاد النطفتين التكاثريتين -الأنثوية والذكرية- باسم النطفة الأمشاج -أي المختلطة‏(Zygote)‏- في الآية الثانية من سورة "الإنسان"،‏ وهو أول تعبير علمي دقيق عن تخلق الجنين باتحاد النطفتين الذكرية والأنثوية‏. وفي ذلك يروى عن رسول الله‏ -‏صلى الله عليه وسلم‏- قوله‏: "... من كلٍّ يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة‏" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده).
       وهذه حقيقة لم يتوصل العلم المكتسب إلى معرفتها إلا في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي‏ (1775‏م‏/1186‏ه‏).‏ وبالتقاء النطفتين الذكرية والأنثوية تتكون النطفة الأمشاج‏(Zygote)‏ التي يتكامل فيها عدد الصبغيات المحدد لنوع الإنسان -46‏ صبغي في‏23‏ زوجا فيها‏22‏ تحمل الصفات الجسدية وزوج يحمل الصفات الجنسية- وهما‏ (X+X)‏ في الأنثى،‏ و(‏X+Y) في الذكر.
       ويتم إخصاب النطفة المؤنثة‏ (البييضة‏) في الغالب بنطفة ذكرية واحدة‏ -أي بحيوان منوي واحد‏- وفي ذلك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-:‏ "ما من كل الماء يكون الولد‏"‏ (رواه مسلم وأحمد).
       وبعد إتمام عملية الإخصاب تبدأ النطفة الأمشاج بالانقسام السريع إلى خلايا أصغر فأصغر، حتى تتحول إلى كتلة كروية من الخلايا الأرومية تعرف باسم التويتة‏ (Morula)،‏ ثم تنشط التويتة مكونة ما يعرف باسم الكيسة الأرومية‏ (Blast ocyst)‏ التي تبدأ بالانغراس في جدار الرحم مع اليوم السادس من الإخصاب،‏ وتعرف هذه المرحلة باسم مرحلة الغرس أو الحدث‏ (Implantation)‏، وتستغرق أسبوعًا كاملًا حتى يتم انغراس النطفة الأمشاج العديدة الانقسام في جدار الرحم، فتنتقل من طور النطفة إلى طور العلقة‏.
       وطول النطفة يتراوح بين ‏0.1‏ من الملليمتر إلى ‏0.68‏ من الملليمتر، ووصف كلٍّ من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لهذا الطور الدقيق جدًّا في زمن لم يكن متوافرا فيه أي وسيلة من وسائل التكبير أو الكشف‏ وتحديد إنتاج الجنين من إخصاب النطفة المذكرة للنطفة المؤنثة، يعتبر سبقًا علميًّا لم يتوصل إليه العلم المكتسب إلا بعد اثني عشر قرنًا من تنزل القرآن الكريم‏ في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي ‏(‏أوائل القرن الهجري الثاني عشر‏).‏

 

ثالثًا:‏ في قوله تعالى: (... ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ‏...) :‏
       في حوالي اليوم الخامس عشر من تاريخ الإخصاب يبدأ الشريط الابتدائي في التكون على ظهر النطفة الأمشاج المنقسمة والمتعلقة بجدار الرحم‏ -الكيسة الأرومية‏- والمتكونة من طبقتين فقط‏: طبقة خارجية وطبقة داخلية،‏ ومن هذا الشريط تتخلق الطبقة الوسطى، وهي منشأ كل أجهزة الجسم التي تبدأ في التخلق بالتدريج‏.‏
       وفي خلال أسبوعين تتم عملية التعلق بجدار الرحم بواسطة المشيمة البدائية التي تتحول فيما بعد إلى الحبل السري،‏ وباطراد النمو‏ وتعدد الخلايا‏ وبدء تكون الأجهزة -وفي مقدمتها الجهاز العصبي ممثلًا بالحبل الظهري والجهاز الدوري- يستطيل الجنين في بدء الأسبوع الثالث في اليوم الحادي والعشرين إلى الخامس والعشرين من عمره، ليأخذ شكل دودة العلق في هيئتها،‏ وفي تعلقها بجدار الرحم‏ (‏تمامًا كما تتعلق الدودة بجسم العائل الذي تتطفل عليه) وفي تغذيته على دم الأم (تمامًا كما تتغذى دودة العلق على دم الحيوان الذي تعلق به في مياه البرك حيث تعيش).‏
       ولذلك فإن الوصف القرآني لهذا الطور بكلمة العلقة في زمن لم يكن متوافرًا فيه أية وسيلة من وسائل التكبير أو الكشف لطور يتراوح طوله بين ‏0.7‏ من الملليمتر،3.5‏ ملليمتر يعتبر أمرًا معجزًا حقا،‏ ومن المعجز أيضًا استخدام القرآن الكريم لحرف العطف‏ (‏ثم‏)‏ الذي يفيد الترتيب مع التراخي؛ وذلك للتعبير عن الفترة الزمنية المنقضية ما بين طور النطفة الأمشاج وطور العلقة‏‏ من اليوم السادس إلى الخامس عشر في طور النطفة الأمشاج وحتى الخامس والعشرين في طور العلقة‏.‏

رابعًا ‏:‏ في قوله -تعالى-: (...‏ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)‏:‏
       في منتصف الأسبوع الرابع -في اليوم‏24‏: ‏26‏ من بدء عملية الإخصاب‏- تبدأ العلقة في التحول إلى طور جديد سماه القرآن الكريم باسم المضغة،‏ وذلك ببدء ظهور الفلقات المعروفة باسم الكتل البدنية ‏(Somites)،‏ والتي تبدأ بفلقة واحدة ثم تتزايد إلى ما بين 40: 45‏ فلقة، وذلك مع تمام الأسبوع الرابع إلى بداية الأسبوع السادس من بدء الإخصاب‏ -‏في اليوم‏26‏: ‏42‏ من عمر الجنين‏-‏ ونظرًا إلى تعدد تلك الكتل البدنية، فإن الجنين يبدو وكأنه قطعة لحم ممضوغة بقيت عليها طبعات الأسنان واضحة‏‏ كما تبقى على قطعة من العلك الممضوغ،‏ ومع استمرار نمو الجنين تبدو هذه الفلقات في تغير مستمر مثلما تتغير طبعات الأسنان في المادة الممضوعة باستمرار مضغها،‏ ويصحب ذلك شيء من الانتفاخ والتغضن والتثني في الجنين الذي لا يكاد يتعدى طوله ‏1.3‏سم في نهاية مرحلة المضغة،‏ تمامًا كما يحدث في قطعة العلك الممضوغة،‏ ومن هنا كان الإعجاز القرآني في تسمية هذا الطور باسم ‏(‏المضغة‏)؛‏ لأن المضغة لغةً هي القطعة من اللحم قدر ما يُمضَع، أو التي مضغت ولاكتها الأسنان تاركة طبعاتها عليها.
       ومن الملاحظ أن جميع أجهزة الجسم تتخلق على هيئة براعم في طور المضغة؛ ولذلك قال ربنا‏ -‏تبارك وتعالى‏-:‏ (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)[الحج:5].
       والمقصود بـ"المخلقة‏" التي بدأت الأعضاء تتخلق فيها،‏ وبـ"غير المخلقة‏" السقط،‏ أو الجنين الذي يعاني شيئًا من التشوه الخلقي،‏ كما قال بعض المفسرين وبعض الأطباء المعاصرين،‏ وإن فسر البعض الآخر تعبير‏ "غير المخلقة‏" بالخلايا الخارجية المحيطة بالجنين والمعروفة باسم‏(‏الأرومة المغذية‏)‏، وهي مجموعة من الأنسجة تتحدد وظيفتها في التعلق بجدار الرحم وتغذية الجنين،‏ وليست جزءًا من الجنين،‏ وفسرته مجموعة ثالثة بما يعرف باسم الحمل اللاجنيني الذي توجد فيه حويصلة الحمل بعيدًا عن الجنين، فتضمر المضغة وتنكمش حتى تموت،‏ وتصنيف هذه الحالة ضمن حالات السقط أو الإجهاض،‏ وفسر آخرون تعبير‏"غير المخلقة‏" بغير ذلك،‏ ولكن يكاد الإجماع أن يكون على أنه السقط، استنادًا إلىقول ابن مسعود‏ -رضي الله عنه-:‏ أن رسول الله‏ -‏صلى الله عليه وسلم‏- قال‏:‏ "النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال‏:‏ يارب مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل‏:‏ غير مخلقة لم تكن نسمة،‏ وقذفها الرحم دما،‏ وإن قيل‏:‏ مخلقة،‏ قال‏:‏ يارب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ وما الأجل؟ وما الأثر؟ وما الرزق؟ وبأي أرض تموت؟‏" والمقصود بالنطفة هنا هو النطفة الأمشاج وما ينطبق على النطفة الأمشاج ينطبق على المضغة وما بعدها.
       وعمر طور المضغة يتراوح بين‏26‏ يوما و‏42‏ يوما،‏ ويتراوح طول الجنين في هذا الطور بين‏3‏ مم و13‏ مم‏.‏
       ومن أروع صور الإعجاز العلمي في أحاديث رسول الله -‏صلى الله عليه وسلم‏- مما أخرجه الإمام مسلم‏ -‏رحمه الله-‏ عن حذيفة بن أسيد‏ -‏رضي الله عنه‏-‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا، فصورها وخلق سمعها وبصرها وعظامها ولحمها وجلدها ثم قال‏:‏ يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ماشاء ويكتب الملك‏" (‏صحيح مسلم‏/‏ كتاب القدر‏).‏
       وما أخرجه كذلك عن عبدالله بن مسعود‏ -‏رضي الله عنه‏- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم‏- قال‏:‏"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،‏ ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك،‏ ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك،‏ ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه،‏ وأجله،‏ وعمله،‏ وشقي أو سعيد"‏(صحيح مسلم‏/‏ كتاب القدر‏).‏
       وتثبت دراسات الأجنة البشرية أن وجه الجنين لا تبدو عليه الملامح الإنسانية إلا في اليوم الثاني والأربعين من عمره،‏ وأن الخطوات الرئيسة التي تعطي المضغة بدايات الشكل الإنساني تكتمل بين الأيام الأربعين إلى الخامس والأربعين من عمر الجنين، حيث يتم تكون الأعضاء وانتشار الهيكل العظمي بصورة واضحة مع استمرار النمو بالانقسام الخلوي والتمايز الدقيق للأعضاء والأجهزة‏،‏ فبعد اكتمال طول المضغة يبدأ طور إنشاء الهيكل العظمي، ويتم ذلك بين اليومين الثالث والأربعين والتاسع والأربعين، ويكون طول الجنين بين‏14‏ مم،20‏ مم،‏ ثم يبدأ طور كساء الهيكل العظمي باللحم‏ -العضلات-‏ ويتم ذلك بين اليوم الخمسين والسادس والخمسين،‏ ويكون طول الجنين بين‏22‏ مم،31‏ مم‏.‏
       وتمثل الفترة من اليوم الأربعين إلى السادس والخمسين من عمر الجنين مرحلة التصوير بالهيئة الإنسانية ومرحلة التسوية،‏ وتتمايز فيها كل أعضاء الجسموأجهزته ما عدا غدد التكاثر التي يتم تكوينها من بداية الأسبوع التاسع إلى آخر فترة الحمل ‏(266‏ يوما‏)،‏ ويتراوح فيها طول الجنين بين‏58‏ مم،500‏ مم،‏ وقد سماها القرآن الكريم باسم‏(‏مرحلة النشأة‏)،‏ ويبدأ فيها الجنين النمو ببطء حتى بداية الأسبوع الثاني عشر،‏ ثم يتسارع معدل النمو والتغير في الهيئة حتى نهاية الأسبوع الثاني والعشرين‏.‏
       وفي ذلك تقول الآية الخامسة من سورة "الحج"‏:‏(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج‏:5].
       وهذه الحقائق لم تدرك إلا مع نهايات القرن الثامن عشر الميلادي،‏ ولم تستكمل إلا مع نهايات القرن العشرين،‏ وسبق كلٍّ من القرآن والحديث النبوي الشريف بها،‏ وبهذه الدقة العلمية المتناهية في زمن لم تتوفر فيه أية وسيلة من وسائل التكبير أو الكشف، لمما يقطع بربانية القرآن الكريم، ونبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه.

       فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.